
ننشر فصلًا من كتاب «سلوى: سيرة بلا نهاية» لكريم جمال، حيث يسرد لنا يومًا في حياة المذيعة المصرية الشهيرة قضته في مدينة بورسعيد بعد سنوات قليلة من النكسة. يلقي المؤلف الضوء على جوانب نُسيت من حياة سلوى، لنتعرف على الإنسانة التي انتظر الملايين ظهورها وحواراتها في تلك الفترة من التاريخ المصري.
كريم جمال
لا تتمنَّي أن يمرَّ الصِّبا
وتبلُغي مِثلي من العُمرِ
فإنَّ أيامَ الصِّبا إن مضتْ
مضى زمانُ الوردِ والعطرِ
لو صادفَتنا لحظةٌ حلوةٌ
من بعدِهِ لم تَخلُ من مُرِّ!
قصيدة «بائع بورسعيد العجوز»، ترجمة: صالح جودت
مدينة بورسعيد الباسلة
نهار يوم مشمس، يونيو 1969.
بورسعيد مدينة الجمر والنار، ميناء البطولة ولغز العالم، مهد خيالات سلوى حجازي ووقود شعرها الأول. هناك، عاشت أيامها تكوينها، سبع سنوات كاملة ركضت فيها ببراءة طفولية خلف بائع حلوى المدينة العجوز الذي كان دائمًا مثار إعجابها واستغرابها؛ يجوب المدينة ممسكًا جرسه الرنان مناديًا الأطفال في فرح، يغري الصغار بألوان الحلوى الشهية وأشكالها العجيبة. حين غادرت سلوى بورسعيد، كانت لا تزال صبية بضفائر قصيرة. بقيت المدينة مطبوعة في خيالها: أحياء المدينة الهادئة، وبيوت المرشدين الفخمة، وتمثال ديليسبس الواقف في مواجهة البحر يشير في تحدٍّ إلى معجزة الفلاحين المصريين الذين شقوا الممر الملاحي بدمائهم قبل عرقهم. كانت كلما قادتها خطوات عملها إلى هناك، تذكرت وتذكرت. كانت حياتها كلها سلسلة من الذكريات الناعمة، لا ترى من العالم إلا وجه الرقة والحلم.
حين رأت البائع ذاته بعد عشر سنوات كاملة لم تصدق عينيها؛ كان لا يزال كما هو، وحيدًا يجوب المدينة دافعًا أمامه صندوق حلواه على مركبة صغيرة، بثيابه القديمة المخططة نفسها، وبضحكته الصافية الواسعة، لكن المدينة تغيرت وتبدلت؛ غادر المرشدون الأجانب، وعادت بيوتها إلى أهلها المنفيين إلى أطراف الحياة، وأُلِقيَ تمثال ديليسبس في مخازن التاريخ بعد أن أعتلى قاعدته أهل القناة الغاضبون، ودُحِر العدوان على أعتاب الشط الأزرق وفوق رماله الصفراء، لكن سلوى نفسها كانت قد كبرت، ولم يعد بسكوته يروق لها، لم يعد صوت جرسه يجذبها، بعد أن جذبتها الحياة من وردية الأحلام إلى قيود الواقع. كانت بورسعيد بالنسبة إليها مثل العودة إلى منابع الذاكرة الحرة، وزيارة إلى الفضاء الأزرق الذي منحها خيال الشعراء، وبراح البحر الواسع، وطعم الحلوى الذي لا يزول.

في صباح يوم صيفي في يونيو 1969، وتحت حرارة شمس القاهرة الحارقة، تحركت عجلات حافلة كبيرة تابعة للتلفزيون العربي من أمام مبنى ماسبيرو في تمام الساعة العاشرة صباحًا، تضم داخلها أكثر من عشرة أشخاص بينهم ضابط من المخابرات الحربية، ومجموعة من المصورين والفنيين وعمال الكاميرات. وعلى مقربة من السائق، جلست سلوى حجازي والكاتب أحمد بهجت والمخرج التلفزيوني عواد مصطفى. كانت السيارة تشق طريقها بهدوء شديد نحو مدينة بورسعيد، في رحلة عمل لتصوير حلقة خاصة من برنامج «تحت الشمس» عن مدن القناة بعد أن فرغت من سكانها وصارت متحفًا مفتوحًا للحطام والأنقاض. لم يكن الجو في المدينة يسمح بأي نشاط إعلامي؛ أغلقت المدن الثلاث أبوابها على من فيها من الجنود والعمال المصريين الذين ظلوا يعملون في أماكنهم لخدمة المجهود الحربي.
طوال الطريق، كان ضابط المخابرات يحدث سلوى وعواد وبهجت عن كم التحدي في مدينة بورسعيد. كان مخلوقًا لطيفًا ولكنه حازم، يتحدث أحيانًا، ثم يصمت ليفكر في أسئلة المجموعة الإعلامية. أفهم الجميع أن المدينة ليست جوًّا آمنًا للمدنيين، لكن توجد في المدينة مناطق يمكن لهم تصويرها، وأماكن محرمة لا يمكن الاقتراب منها ولا حتى طلب دخولها.
جلس أحمد بهجت خلف سلوى وعواد صامتًا طوال الرحلة لا يتكلم، كان ينصت إلى صوت سلوى وهي تتحدث مع عواد مصطفى عن ذكريات طفولتها في بورسعيد، وعن ذلك البائع الذي أغراها بحلواه يومًا ما عندما كانت طفلة صغيرة يغريها السكر والألوان، وذكَّرته بقصيدتها «بائع بورسعيد العجوز» التي ضمها ديوانها الأول «ظلال وضوء» وكتب عنها باحتفاء صالح جودت في مجلة «الهلال» فور صدور الديوان. كان بهجت يسمعها ويبتسم، وهو يعلم جيدًا كيف تسعدها الأشياء البسيطة، وكيف صنعت ذكرياتها عن المدينة من خشب قوارب البحر ومن تجاعيد وجوه بائعيها المتجولين.
لم يكن بهجت متحمسًا للرحلة منذ البداية. استيقظ قبل موعده بساعات ليبقى طوال الطريق معذبًا بين الغفوة والصحو، وبالطبع لم تكن في السيارة قهوة، ولا أمل لديه في مغالبة النعاس المفتت، ولا رجاء لنوم عميق داخل العربة التي تجري على طريق سريعة غير ممهدة. كان ينظر إلى سلوى بانبهار شديد، ويسأل نفسه: من أين لها بتلك الطاقة وتلك الشعلة التي لا تهدأ؟ كيف يخدعك هدوؤها وشِعرها العذب وداخلها براكين ثائرة من حمم القوة والتحمل وحب المغامرة؟
قبل يومين من الرحلة، وبعد أن طلب عواد من بهجت مرافقتهما بصفته مُعدًّا للبرنامج في تلك الجولة، تعجب بهجت من الفكرة، وقال لعواد: «هل أنت مجنون؟! لماذا تكلف سلوى بهذه المشقة؟ هل نسيت احتمالات الخطر الكامن؟ ماذا يحدث لو وقع اشتباك بالمدفعية ونحن في الموقع؟ افترض أنك أُصِبت! لست أفهم معنى للمغامرة كلها!»
ابتسم عواد ساخرًا، وأكد له أنه لا يعرف سلوى جيدًا وأنها صاحبة الفكرة والطلب، خاصة بعد أن استضافت في الحلقة الأخيرة من برنامج «تحت الشمس»، التي أُذيعت مساء يوم الأحد 9 يونيو 1969، محافظ السويس حامد محمود، والأديب يوسف السباعي، والكاتب عبد الحميد جودة السحار، وأسرة الشهيد صبحي ياسين أحد شهداء المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى عبد الحليم حافظ، وكان الحديث كله عن المقاومة الشعبية في ذكرى العدوان، وبطولة أهالي السويس وصمود لجانها الشعبية في المعركة، وكيفية تدوين تلك الملاحم وتقديمها للناس في الأعمال الفنية.
كان الموضوع دافعًا لسلوى لمواصلة ذلك النوع من الحلقات، لذا؛ تحمست لزيارة مدن القناة الثلاث والتصوير الحي من هناك حيث الخنادق والبنادق، خاصة أن شهر يونيو وذكرى الهزيمة فرصة لاستعادة بعض العرفان تجاه أهالي تلك المدن من المُهجَّرين الذين دفعوا الثمن في تلك المعركة غاليًا. لكن، عندما فكر عواد في اقتراحها، أبدى مخاوفه من خطورة الرحلة واحتمالية تعرض بعثة التلفزيون لقذيفة، أو وقوع اشتباك بالقرب من موقع تصويرهم. لم تُعلِّق سلوى على شيء مما قاله مطلقًا، وأصرت على رأيها بعناد، مستبعدة بصمتها احتمالات الخطر كلها.
كان أحمد بهجت ينظر إلى سلوى مستعيدًا كلام عواد عنها، وسعادتها الكبيرة بعد عرض حلقة البرنامج السابقة عن صمود أهالي مدينة السويس، وحديث الصحف عن ضرورة تسليط الضوء على معاناة أهل المدن المُهجَّرة. استرجع في تلك اللحظة بدايات تعارفهما في بداية الستينيات، وملاحظته المؤرقة أنها لا تغضب أبدًا، تدور الدنيا حولها، وينقلب العالم، وهي جالسة في مكانها متماسكة، تحافظ على هدوء أعصابها، تتابع ما يجري دون أن تتغير ملامحها ولا تُقطِّب جبينها غضبًا. سألها بهجت بدهشة حقيقية في يوم: مدام سلوى، هل أنت دائمًا هادئة هكذا؟
قالت له: لا!
دفعته إجابتها المبهمة إلى مزيد من الاستيضاح، فقال: ألا تثورين مطلقًا؟
قالت له مبتسمة: لا ينبغي أن يثور الإنسان خارج بيته. انظر إلى عواد مصطفى؛ إنه سيمزق شعره، ولن يجدي ذلك شيئًا! الكاميرات هي التي تعاكسنا. ينبغي أن نصبر!
وصلت الحافلة الكبيرة إلى مدينة بورسعيد بعد العصر بقليل. لم تُضيِّع سلوى وقتًا بعد أن وصلوا، وبدأ تركيب الكاميرات وأجهزة الصوت، وانتهى بهجت من إعداد الأسئلة، واختار عواد زوايا اللقطات. وبعد دقائق، بدأ التسجيل. ابتسمت سلوى أمام الكاميرات، وبدأت تتلو افتتاحية الحلقة بصوتها الخفيض الهادئ، وقبل أن تختم كلمة البداية، همس أحد الضباط لزميله الواقف بجواره طالبًا منه أن يوقف سلوى والمخرج ويصمت كل شيء. توجه الضابط إلى عواد، وطلب منه أن يوقف التصوير إلى حين معرفة أسباب الضابط المرافق. وعندما استوضح عواد الأمر من الضابط، أخبره أن أجهزة الصوت، التي يستعملها البرنامج، تؤثر على أجهزة التنصت والتشويش. أُحبِط عواد من إجابة الضابط، وبقي حائرًا لا يعرف كيف يتصرف، بينما جلست سلوى على مقربة من الجميع تتابع ما يجري.
كان الإسرائيليون يحاولون التنصت والتقاط ما يجري في موقع التصوير. وبعد نصف ساعة من التعطل، عاد الضابط وأعطى الإشارة الخضراء للمخرج والضابط المرافق. وقفت سلوى مرة أخرى أمام الكاميرات في ظل جو مشحون بالخطر، وكان لسقوط الليل في مدينة بورسعيد مذاق غريب؛ لم يكن في المدينة على اتساعها غير العسكريين ورجال المقاومة الشعبية والوفد التلفزيوني، وهواء البحر يأتي بلطف إليهم من بعيد فيشجعهم على المواصلة ويغير مزاجهم إلى الأفضل.
وعند منتصف الليل، كانت الكاميرات لا تزال تدور، والأسئلة تُطرَح، والإجابات تُلقى وتملأ شرائط التسجيل. التقت سلوى بالعاملين في مستشفى «المبرة»، وسألتهم عن حالة الجنود والمدنيين الراقدين في المشفى، وبعدها، قابلت مدير المستشفى الدكتور عبد المنعم غندور، وكانت كلماته صادقة عن الكفاح المشتعل طوال خط المواجهة.
كان الدكتور عبد المنعم من الأطباء المعروفين بدورهم البطولي في معركة العدوان الثلاثي عام 1956؛ عاش لمدة شهر ويزيد يعمل في مستشفيات القناة، ويراعي الجرحى من الجنود وأبطال المقاومة الشعبية الباسلة، وحين وقع عدوان يونيو 1967، رفض أن يغادر إلى القاهرة مع أهله، وظل واقفًا في موضعه يداوي جراح شعب القناة ويطببها. قال لسلوى بتواضع شديد إنه لا يشعر أنه يفعل أي شيء غير عادي، وإن الواجب يحتم عليه البقاء والعمل تحت النيران حتى تُزاح الغمة وتعود سيناء إلى أصحابها. وفي نهاية كلمته، طلب من سلوى أن تسجل مع كبيرة ممرضاته التي لم تغادر المستشفى منذ ثلاثة أشهر تقريبًا منذ أخذت معارك الاستنزاف تتصاعد في مطلع مارس 1969.
سألتها سلوى حجازي:
– بقى لك قد إيه هنا؟
– 12 سنة تقريبًا!
كانت هي الأخرى من هواة الخدمة الصعبة، عملت تحت خط النيران، أهلها من القاهرة، لكن جاءها النقل إلى بورسعيد في عام 1956 قبل العدوان الثلاثي بأيام قليلة، وعندما خُيِّرت بين البقاء والمغادرة في أيام العدوان الأولى، رفضت أن تغادر بورسعيد. قالت لسلوى: «هنا فيه شغل أهم!» كانت كلمتها الأخيرة تحمل تعبيرًا بسيطًا وعميقًا عن معنى البسالة والبطولة عند نساء مدن القناة.

ثم انتقلت الكاميرا بعد ذلك إلى مكتب المحافظ. كانت الساعة تقترب من الثانية صباحًا، ولكنه لا يزال هناك. تحدث الرجل كثيرًا عن صمود المدينة وأهلها وجنودها، حكى مواقف وبطولات يومية لا تقف، كل يوم بطولة جديدة ومعنى آخر للبقاء في تلك الأرض. وبعد ذلك، ذهبت الكاميرا إلى مخبز المدينة الذي لا يتوقف العمل فيه ليل نهار، ومن المخبز، تحركت البعثة نحو موقع المطافئ التي تلعب أهم الأدوار على الجبهة، ثم زاروا مركز الجيش الشعبي ووحداته التي ترابط في شوارع المدينة المظلمة لحراسة المنشآت والأهداف الحيوية في المدينة الباسلة.
قضت البعثة التلفزيونية الليل كله بين ذلك الحشد المتنوع من البشر، ومشاعر الجدوى من الحياة والتمسك بالأرض والحق. كانت سلوى تريد أن تنقل إلى الناس نبض مدينة عاشت بها سنوات سعيدة، لكنها أصبحت تعيش الآن سنوات صعبة ومرعبة، تحمل الرياح إليها في كل صباح سحبًا سوداء محملة بالخطر والموت وطلقات المدافع والنيران. وبعد أن فرغت البعثة من مهمتها، جلست سلوى سعيدة بمنجزها الإعلامي. قالت لعواد في فرح طفولي: «شُفت؟! أهو مفيش أي حاجة حصلت، والمواضيع جديدة، والمعنى اللي وراها عظيم. عاوزين نشرب شاي بقى!».
وجاءت أكواب عملاقة من الشاي الأحمر، ودارت الضحكات والمناقشات بين أفراد البعثة بعد أن فرغوا من مهمتهم الصعبة. تحدثوا عن التصوير وثقل اليوم ووجوه الجنود والعمال. كان الظلام، الذي يكسو المدينة، قد بدأ يقل تدريجيًّا، والسماء تستعد لشروق وشيك. ولكن، قبل أن يأوي الجميع إلى فراشه في الاستراحة الملحقة بالمحافظة، دق جرس التليفون في مكتب الضابط المسؤول عن تأمين المبنى. رفع أحد الرتب الصغيرة السماعة ثم سمع ما قيل، لكنه ارتبك، وطلب من المتصل أن يبقى معه حتى يخبر الضابط النبطشية. جاء الضابط مسرعًا وتناول السماعة، واستمع قليلًا لمحدثه، ثم لم يقل غير كلمة واحدة: «تمام!».
وضع السماعة كما كانت في مكانها، لكن وجهه لم يعد كما كان قبل المكالمة، وخرج إلى المجموعة التلفزيونية التي انتهت من ضيافة المحافظة وفرغت من شرب الشاي وتناول العشاء، وسأل الجميع: هل انتهيتم من تصوير كل شيء؟ وهل ممكن أن تعودوا إلى القاهرة الليلة وتصرفوا نظر عن المبيت هنا؟
أدرك الجميع أن ثمة احتمالًا قائمًا للخطر، وأن اشتباكًا وشيكًا قد يقع في أي لحظة بين قوات العدو والجنود المرابطين على الجبهة في المدينة. تغيرت ملامح الجميع بعد أن تركت كلمات الضابط داخلهم انطباعات الخوف والقلق، لكن سلوى كعادتها ظلت هادئة. وقبل أن يجيب عواد ويتخذ قراره بالعودة، قالت سلوى للضابط النبطشي: ألا نستطيع تسجيل صوت الضرب إذا وقع؟!
أدهش السؤال الجميع من غرابته إلى درجة أن بعضهم دخل في نوبة ضحك دون أن يجيبوا بكلمة واحدة على سؤالها، لكن عواد قال لها مبتسمًا: إحنا في إيه ومدام سلوى في إيه؟!
تدخل بهجت وقال بسخريته المعتادة: الأفضل أن نذهب إلى الفراش كي نموت كالأطفال الهادئين!
قال الضابط وهو يبتسم: لا نستطيع أن نعدكم باشتباك، ثمة احتمال فقط. أنتم آمنون على أي حال!
وأصرت سلوى على البقاء في المدينة، ورضخ عواد لطلبها كالعادة. ظلوا طوال الليل في شرفة المحافظة، بعد أن طلبوا أكوابًا إضافية من الشاي والقهوة حتى يجبرهم مفعولها على ترك النوم واليقظة في انتظار الاشتباك المتوقع، وجلسوا تجمعهم أطراف حديث مرح. حكت لهم سلوى عن ذكريات المدينة قبل ثورة يوليو، وشكل طرقاتها وتنوع سكانها قبل العدوان والتأميم. وتغير الحديث ألف مرة، وراح كل فرد منهم يحاول أن يتصور نفسه شهيدًا، والصحف كلها تخرج على قراءها بصوره في اليوم التالي. انقضت الليلة بين المرح وترقب الخطر، ومضى ما بقي من الليل سريعًا.
وبعد الفجر بقليل، بدأت الجولة الثانية في التصوير. صوروا نبض المدينة تحت ضوء شمسها، وصحبهم ضابط المخابرات المرافق إلى مكان قريب من حافة شط القناة حتى يروا منه علم العدو وخيامه. وفي تلك اللحظة، اصطدمت نظرة أحمد بهجت بعيني سلوى حجازي. كانت سلوى، التي تعيش في عالم الرقة والأحلام والشعر، قد تبدلت تمامًا، ظلت صامتة في وجوم، ويموج في عينيها مزيج من الألم والكراهية والازدراء، لكنها، فجأة، قطعت صمتها وسألت الضابط المرافق: هل ممكن زيارة القنطرة غرب ولا صعب؟
لكن الضابط قال لها متأسفًا: صعب جدًّا يا مدام، بس أوعدك بزيارة تانية قريب إن شاء الله!
وهو ما كان فعلًا، ولكن بعد عام ونصف تقريبًا، عندما زارت سلوى وفريق برنامج «تحت الشمس» مدينة القنطرة غرب في نوفمبر 1970، تلك المدينة التي كانت لها دور في حياة سلوى حجازي وموتها، وقد عُرِضت حلقة بورسعيد من برنامج «تحت الشمس» يوم الأحد 25 يونيو 1969، في تمام الساعة العاشرة إلا عشر دقائق بتوقيت القاهرة، طبقًا لبرنامج التلفزيون المنشور في جريدة «الأهرام» الصادرة في اليوم نفسه.
