قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت

12 May, 2025
جبريل بوخينسي، «كاميليا بلو» و«كاميليا»، ألوان زيتية وباستيل على قماش، 162×130 سم، 2020 (بإذن من غاليري ساتور، باريس).
في زواج شبه ميت، وحماة مخرفة متنمرة، وزوج مستسلم لا مبالي، تعيش سهام أيامًا بائسة تمضي ببطء بالغ، ثم فجأة يظهر أمل يتمثل في غريب مجهول. «كغيمة مرت» قصة قصيرة جديدة للكاتب المصري أحمد الفخراني.

 

أحمد الفخراني

 

في انتظار أذان المغرب، راقبت سهام المارة، وعدت السيارات من النافذة، جال بصرها بين الشارع والغيوم، لا شيء يعوق الحركة، تستمر رغم الغيوم، لا بد أن تنقشع قالت لنفسها، وللحظات غمرها شيء من الوجد، وقالت: سبحانه.

في أقل من سبع دقائق، عبرت مئة وخمسون سيارة، عدا سيارات الأجرة والميكروباصات وأتوبيسات النقل، لعبة طفولية كانت تمارسها عند زيارة أبناء خالتها لم تدرك حينها أن الجدران الأربعة التي كانت رمزًا للفرح كل صيف، ستصبح بعد ربع قرن سجنها الأبدي.

سرحت في هاتفها، وتوقفت عند دعاء وجدته في أحد الجروبات المليئة بالأدعية والحكم التي اشتركت فيها مؤخرًا:

«اللهم خفافًا لا لنا ولا علينا… لا نؤذى ولا نُؤذَى… لا نَجرَحُ ولا نُجرَح… لا نَهينُ ولا نُهان… اللهم عبورًا خفيفًا… لا نشقى بأحد، ولا يشقى بنا أحد… اللهم اجعلنا ذكرى طيبة لكل من عرفنا… واجعلنا كغيمة مرت، ثم روت، ثم ولت، ثم أنبتت نباتًا طيبًا وعم خيرها ونفعها للجميع».

رفعت صورة الدعاء على صفحتها، وكتبت فوقه: آمين.

أذن جامع العطارين، وكانت سهام على وضوء، على عكس باقي صلواتها الخمس، تكاد صلاة المغرب أن تكون تمتمات قلب أجوف ونقرًا سريعًا بالرأس، متلهفة لإنهائها، ولما انتبهت، أطالت السجدة الأخيرة لتعوض ما قصرت فيه.

استغفرت وصلت على النبي وآل بيته، ودعت لابنتها ميادة بجبر القلب والخواطر وسداد الخطى والزيجة والذرية الصالحة، لكن رأسها ظل معلقًا تجاه الشارع، تتقافز فيه آلاف الأفكار والمارة والسيارات والغيوم، لكن ما احتله في النهاية كان وجه جابر، فاستعاذت بالله من الشيطان.

انتهت سريعًا من ارتداء ملابسها، وقفت أمام المرآة الكبيرة في غرفة نومها، أحكمت الحجاب من دون أن تمعن النظر. وفكرت أنها تكره تلك المرآة، ليس لأنها لم تخترها فقط، بل لأنها لم تعد تخبرها بشيء ذي معنى.

لم تختَر في ذلك البيت قطعة أثاث واحدة منذ زواجها قبل ربع قرن. لا فراش الزوجية ولا الستائر ولا الصالون ولا السفرة ولا المقاعد ولا الطاولات ذات الحواف المؤذية والشريرة، التي طالما جرحتها، ولا الثريات الكبيرة المقيتة التي تبدو دائما كأنها على وشك الغدر بها والسقوط فوقها. حتى الأكواب الزجاجية الأطباق، الملاعق، والسكاكين، كلها تخص المرأة التي حاصرتها داخل الجدران الأربعة، والتي تبدو أنها تكبر إلى الأبد، دون أن يطالها الموت.

رغم أن غرفة نومها هي نصيبها الوحيد من هذا البيت، إلا أنها لا تشعر بامتلاكها حقًا. لسنوات، ظلت حماتها تفتش في أغراضها، وإذا اكتشفت أن ابنها اشترى لها شيئًا، أو أنها اشترت لنفسها شيئًا دون علمها، تقيم الدنيا ولا تقعدها. كما كانت تتنصت على علاقتهما الحميمة، لتجعل يومها التالي قطعة من الجحيم.

أطفأت نور الغرفة، ثم غادرتها، وهي تردد: «فأغشيناهم فهم لا يبصرون».

كانت حماتها تجلس على أريكة الصالون، ككومة عظام في قفة صغيرة، منكمشة ومفككة، بعينين ذاهلتين وشعر أشيب مهوش، تنادي على أبنائها الغائبين، لكنها حددت من بينهم مجدي، الذي توفي قبل ثلاثة أشهر، ولما لم يجبها، أطلقت سبابًا فاحشًا خلطت بينه وبين الدعاء له، متوعدة إياه بعلقة ساخنة، إذا ما عاد من لعب الكرة مع المقاطيع الذين أتلفوا أمله، ولأنه نساها من أجل اللف على نسوانه الثلاث اللذين أهلكوا صحته وأمواله، فكرت سهام أن مجدي على عكس زوجها، قد أفلت من قبضتها مرتين، في حياته وفي موته الذي لم يكن أقل فوضى.

عندما لمحت سهام طلبت أن تعد لها ينسونًا، فأجابت بصوت خفيض:

– لمَّا أرجع.

قذفتها حماتها بالشبشب، وسبتها:

– مستعجلة أوي على السرمحة يا شرموطة.

نظرت سهام بيأس إلى عزمي زوجها، الذي استيقظ لتوه من قيلولته المعتادة بعد الغداء، وبدأ في قراءة ورده اليومي من الأذكار، قبل أن يستعد للنزول إلى محل العطارة حتى منتصف الليل، متجاهلًا كعادته استغاثتها الصامتة من أمه.

أحضرت الينسون على عجل، ثم مضت قبل أن تجد حماتها حجة جديدة تحرمها من الخروج، أن تصير حرة لمدة ساعة خارج تلك الجدران الأربعة.

حرب ضروس خاضتها من أجل تلك التمشية القصيرة اليومية، تدفع ثمنها سمومًا إضافية تبخها تلك المرأة في روحها بلسان سليط يطاردها حتى الباب وحين عودتها، رغم أنها منذ ثلاثة أسابيع، لم تخرج، واكتفت بعد السيارات من النافذة.

لم يسألها أحد عن سبب كسر عادتها المفاجئ، سوى ابنتها ميادة. تعللت بالإرهاق ووجع المفاصل، وهي علة تحمل بعض الصحة، لكنها كانت نصف كذبة. لم تتوقف عن الخروج منذ سنوات رغم آلامها، وأقنعت نفسها أن حريتها تكمن في قدرتها على تقرير متى تخرج ومتى تجلس في المنزل، وتلك كانت كذبة كاملة.

فتحت الباب بسرعة، ونهبت السبعة طوابق ركضًا إلى أسفل، عند باب العمارة، التقطت أنفاسها، وبدأت مشوارها اليومي، خمس عشرة دقيقة من المشي المتمهل إلى شارع النبي دانيال، هناك تتوقف عند محلات الأجهزة الإلكترونية، حيث يجذب نظرها جهاز ما، تتحرى عنه من الباعة بفضول، رغم يقينها أنها لن تحتاجه، ولن تشتريه.

رغم غرقها في عالم الأجهزة الإلكترونية بمحلات النبي دانيال، إلا أنها لم تشترِ خلال أعوام سوى راديو يعمل بالبلوتوث لا يزيد ثمنه عن ثلاثمائة جنيه، تخوض نقاشات تفصيلية مع الباعة حول أحدث الأجهزة، لكنها بالكاد تستبدل سماعة الهاتف الرخيصة بأخرى، ولم تستعمل البلوتوث في الراديو، ولم تدر مؤشره عن إذاعة القرآن الكريم، إلا لساعة في المساء وأخرى في الصباح، تستمع فيها لأم كلثوم وأسمهان ومحمد قنديل ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد.

حفظها الباعة وملوها، عدا جابر، رغم أنهما لم يتبادلا حرفًا واحدًا خارج إطار النقاش حول الأجهزة، إلا أن الحوار بينهما أخذ رغمًا عنها شكل نزوة بريئة ومجنونة. صار خروجها اليومي، أشبه بموعد غير رسمي للقائه.

يصغر جابر زوجها بعشر سنوات تقريبًا، ويماثلها في العمر، وعلى عكس ملامح زوجها الهادئة التي لم يظهر عليها من آثار العمر سوى شعر أبيض يخف يومًا تلو آخر، يبدو وجه جابر الأصلع والنحيف، كأنه سجل للهموم، تجاعيده محفورة بإزميل، بعينين تحوم فيهما غيمة من التعاسة، رغم ذلك لا يفتقر إلى الصبر واللسان المعسول بحكم مهنته، يستمع إليها من دون تأفف، ولا تختفي ابتسامته التي تكشف عن أسنان صبغها التدخين وأكل بعضها.

منحها جابر، من دون أن تطلب، فرصة تجريب بعض الأجهزة رغم يقينه أنها لن تشتريها، كانت تلك علامة الود الوحيدة التي حظيت بها طيلة سنوات، وقد زقزقت في قلبها كعصفور، في سماء ملبدة بغيوم الذنب الكثيفة، لولا أنه تجاوز الحد، قبض على يديها، ولم يفلتها إلا بعد أن أجبرته عنوة على ذلك، كانت يدًا باردة كالثلج، غادرت منزعجة وبكت طيلة الطريق، حتى غسلت عن نفسها أثر اليد، لكن الصقيع ظل يتمدد داخلها، وفي الفراش ظلت ترتجف، ولثلاثة أسابيع توقفت عن الخروج، ولم تعلم إن كانت تعاقبه أم تعاقب نفسها على تلك الزلة.

عندما تنتهي من جولتها، تجلس بمفردها في محلها «البن البرازيلي» لتشرب كاكاو ساخنًا، كل يوم في الموعد نفسه، لا تختار سواه صيفًا أو شتاءً.

عندما لا تجد طاولة فارغة أو مكانًا على البار، تشرب الكاكاو واقفة، وتتسلى بالفرجة على الزبائن. يغلفهم المكان بهالة لا يمكنها تحديدها، لكنها تجعلهم أشبه بالخارجين من حلم، مهما كانت حيواتهم خارج المحل ممزقة، كأن نسيج أرواحهم يلتئم بالداخل، لبرهة قبل أن يعود إلى التمزق، بمجرد أن تخطو أقدامهم خارج العتب.

تُعد لنفسها ولميادة، مشروب كاكاو أفضل من الذي يقدمه محل البن البرازيلي، لكنه يفتقر إلى المكوِّن الحميمي، الذكرى التي تستحضر شخصًا بعينه، والدها بهيئته الوسيمة وعينيه الخضراوين وملابسه المتقشفة والأنيقة، ذكرى تصعد كأبخرة، وتتشكل كطعم معين على اللسان، تسري في عروقها كخليط من الحنان والخذلان.

كانت في الصف الثاني الإعدادي عندما زارت الإسكندرية للمرة الأولى مع والدها وأخويها، أودعهم عند شقيقته التي أصبحت لاحقًا حماتها، في زيارتهما السنوية من أجل المصيف.

جلس والدها لنصف ساعة قبل أن يستأذن للعودة إلى طنطا، رغم إلحاح شقيقته بأن يبيت ليلته على الأقل. عندما كانت خالتها تزورهم، كان يرد إليها كرم الضيافة أضعافًا رغم بساطة حاله، كانت حينها الخالة التي ترادف رؤيتها شيئا من الحماسة، قبل أن تكشف عن سجَّان لا حدود لقدرته على إبداع القهر.

قبل عودته، أخذها في فسحة خصها بها وحدها دون أشقائها، تمشيا معًا على البحر، أغدق عليها بالحلوى والآيس كريم، استأجر لها كارتة، واشترى لها كتب جيب ومجلات مصورة من سوق النبي دانيال.

في أثناء عودتهما، استوقفته لافتة المحل، وقال إنه هنا ذاق أجمل قهوة في حياته، طلب لنفسه واحدة، أما هي فاختارت الكاكاو الساخن.

في تلك الذكرى البعيدة التي تطل من وراء غيوم وأبخرة، رأت العينين الخضراوين الشفافتين، وقد أغدقتها بالحنان، حدثها عن أمله وفرحه بها، فمن بين سبعة إخوة، أربعة ذكور وثلاث إناث كانت أصغرهن، لكن أيضا الأذكى والأجمل وأفضلهن في التحصيل الدراسي.

كان يعتقد أنها ستصبح مهندسة أو طبيبة، ولم يقل فخره بها عندما ألحقها مجموعها في النهاية بكلية التربية قسم اللغة الإنجليزية، ستصبح مدرسة كابنة شقيقته التي كان حظها أفضل في أبنائها، فحتى من فشل في التعليم منهم، أصبح تاجرًا ناجحًا.

عندما تفكر في ذلك الآن ترى أن أحلامها كلها وكذلك أحلام أبيها، كانت بسيطة وملء قبضة يد، وتصر في منديل، لذا عندما انهارت، لم يكن لها دوي جبل، بل كانت أشبه بهمس سرطاني لزجاج يتشقق ببطء.

لقد خذلها في النهاية عندما وازن بين أحلامه فيها وبين تهديد أخته بإجبار ابنها على طلاقها، إذا لم تنس فكرة العمل، مات بمرارة ذلك الخذلان، لقد فضل ابن عمتها الذي سينقلها إلى إسكندرية، على ابن الخالة الذي لم يكمل تعليمه، وعمل موظفًا في وحدة محلية بإحدى القرى بالغربية، قال والدها إنه كان سيجرها إلى الخلف، كيف له أن يعلم أنه يرسلها إلى سجن كبير، لم ترَ فيه من الإسكندرية سوى أخيلة من وراء جدران وزجاج.

لا يمكن أن تقول إن قصتها مع ابن خالتها كانت حبًا بالضبط، بل مجرد استلطاف مكتوم يحمل أثر قبلة منسية ووحيدة في طفولتها. تعاملها كذكرى بسيطة تصرها في منديل، دون التفكير في حرمانية تلك الذكرى.

عندما خرجت مع عزمي لأول مرة في أثناء خطبتهما، طلبت منه أن يأتي بها إلى هنا.

كانت ملامحه طيبة، وعلى عكس أشقائه السبعة، لم يستقل بتجارة أو عمل. اختار القهوة مثل أبيها. أمسك يدها، وكانت دافئة وحنونة. أحبَّت ابتسامته وتعليقاته الساخرة المقتضبة والذكية التي تخرج تحت ظل ضحكة حلوة، حتى إنها تغاضت عن بخل سيتفاقم مع الأيام.

كان يعد النقود بطريقة مضحكة، كبخيل في مسلسل كارتون، يداريها حتى عن نفسه، كمن يضلل بيديه على لهيب ضئيل لشمعة كي لا تنطفئ. مع الوقت، فهمت أن بخلَه نابع من عدم امتلاكه شيئًا سوى فتات الآخرين، لذا يقبض على كل ما يمكن ادخاره بقوة.

بعد وفاة زوج خالتها، تولى عزمي إدارة محل العطارة الأصلي الذي تركه الأب، بعد أن شق إخوته الأكبر طريقهم بنجاح بعيدًا عنه، على أن يظل ملك خالتها أمينة حتى مماتها، ثم يصير ملكًا خالصًا له من بعدها، وكذلك شقة العائلة، فلم يغادر شقة طفولته، وظل يعيش مع أمه حتى بعد أن تخطى الستين، ولم يتذمر قط في العلن.

لا شيء يكدر صفو عزمي، ملك الخيارات الآمنة، حتى لو رأى العالم ينهار أو زوجته تموت كمدًا كل يوم. ظل محتفظًا بنكتة حاضرة وضحكة حلوة، تخفي أن سخريته التي لا تحمل حقدًا حقيقيًا تجاه أي شيء، ليست إلا تعلقًا بإحدى مباهج اليائسين المريرة، الآن تعرف، أنها أحبت فيه الشيء الخطأ، بالنسبة إليه ما دام قادرًا على إلقاء تلك التعليقات، فكل شيء على ما يرام، رغم أنه ليس كذلك.

باسم الصبر والاحتساب، عاشت تحت سقف واحد مع سجانتها. كلما ازداد بها العجز أمام البطش، أدركت أن حريتها مرتبطة بموتها. ثلاثون عامًا وهي تنتظر، تصير حماتها أضعف، يخف عقلها ويستخف بها أبناؤها، عدا عزمي الذي تأصل فيه الاستسلام، يضعف بطشها على كل شيء إلا على سهام.

تكاد تقسم أن تلك المرأة التي أذاقتها العذاب ألوانًا، والتي بلغ أكبر أبنائها الثانية والسبعين، من دون أن يعرف أحد لها عمرًا، كشوكة ناتئة في حلق الزمن، أن دافعها الوحيد للتشبث بالحياة هو تحكمها المفرط فيها وإذلالها، بعد أن تمكن جميع أبنائها من الفرار من قبضتها، كل على طريقته، حتى عزمي، وجد فيها أضحيته، جداره الذي يحميه من بطش أمه.

صارت خالتها تنسى كل شيء، تختلط عليها الحكايات، ولم تعد تخبئ خبث طويتها تحت أقنعة الود، وأن حياتها تغذت على الأحقاد الصغيرة التي تستعر داخلها كنيران هائلة. كلما طعنت في السن والخرف، ازدادت توحشًا وحصانة. ولا تملك سهام إزاءها إلا مواصلة اختبار الصبر.

عندما اقتربت من المحل الذي يعمل فيه جابر، تسارعت ضربات قلبها. أقسمت ألا تدخله مجددًا، لكن القسم تهاوى أمام قوة غامضة. دخلت ولم تجده، فتلكأت في النظر إلى الأجهزة، على أمل أن يظهر. من دون نظرة جابر المتفهمة والحنون، هي في أعين العاملين محض امرأة مخبولة ترهقهم في تفحص الأجهزة بلا جدوى. غادرت، لتجده على الباب يحمل كرتونة فوق ظهره، رغم أن جسده يتصبب عرقًا وإرهاقًا، إلا أنه ابتسم لمرآها. أحنت رأسها خجلًا، ثم مضت في طريقها.

في الطريق إلى محل «البن البرازيلي»، بدت لها ابتسامة جابر أجمل ابتسامة لرجل رأتها في حياتها، رغم أسنانه التي أكل نصفها الدهر، وصبغ نصفها الآخر بالمرارة والدخان. كانت ذكرى يمكن أن تصرها في منديل، كذكرى قبلتها الطفولية مع ابن خالتها، أشياء بسيطة لا يمكن أن تهشم أكثر.

في الكافيه، طلبت الكاكاو المعتاد، وكانت سعيدة، وقد جرحتها تلك السعادة بالذنب، وتذكرت جملة حماتها «مستعجلة على السرمحة يا شرموطة؟».

رغمًا عنها فكرت في ابنتها ميادة التي تعايرها الجدة بأنها «صارت مثل الدبة» بعد فسخ خطوبتها التي دبرتها من دون استشارة أحد من وراء حجب جنونها، وفي نوبات عقلها القليلة. ضغطت عليها بكلمات مثل «عانس»، ولم تكن قد تخطت الرابعة والعشرين من عمرها بعد، حتى قبلت الخطبة رغمًا عنها.

لم تكن ميادة بدينة كالدبة، وزنها زائد قليلًا، لكن من حزن أحمق، راكمت فيه إهانات جدتها كدهون.

عندما فسخت ميادة خطبتها من ابن عمها مجدي، ساندتها سهام سرًا، كان رامي تعس الحظ، وأبله قليلًا، وأكثر ما كرهته فيه هو طيبة قلبه، وقد وعت الدرس من زوجها، تلك الطيبة ليست إلا حيادًا تافهًا، كغيمة بلا أثر، شعرت بالذنب قليلًا، كأنها تطعن في طيبتها هي.

تنهدت ثم قالت: «ربنا أفرغ علينا صبرًا»، لكن لا الدعاء ولا الكاكاو، كان قادرًا على تهدئة غضبها، فكتبت على الصفحة:

«لا يوجد تبرير لسوء الخُلق إطلاقًا، لا نفسية سيئة ولا مزاج متعكّر ولا غيره، والمُحترم الخلوق مهما مرَّ بظروفٍ صعبة يبقى محترمًا خلوقًا.. إن الكِرام وإن ضاقت معيشتهُم دامت فضيلتُهم والأصل غلَّابُ».

عندما اكتشفت الفيسبوك، وجدت فيه وسيلتها لتسجيل آلامها، وبث شكواها غير المسموعة، كرسائل قد يقرأها زوجها، فلما يئست منه، صارت تكتبها لنفسها، ثم صارت كأنها تبعثها لكون بأسره كرسائل في زجاجة على شكل أدعية، تنبه لوجودها في قفص واحد مع غولة خطرة.

الله، كان شاهدها الوحيد وعزائها الأخير، هي التي التزمت بعهد الصبر، لا يحتاج إلى رسائل ليعرف ما الذي حدث بالضبط، هي التي لم تكف يومًا عن نجواه.

ثم رأته، جابر، الذي أربكته الأسعار، فطلب زجاجة مياه، لم يجد مكانًا فارغًا، فوقف في أحد الأركان، وكان مثل الجميع روحًا ممزقة تلتئم داخل المحل السحري، ظل ينظر إليها في حيرة، من دون أن يعرف ما الذي عليه فعله، أما هي فقد كانت غاضبة؛ لأنه خرق عهدًا، لم يكن على ما بينهما، أن يتجاوز حدًا آخر، كذكرى لا يمكن تهشيمها، رنت في أذنها سبة حماتها من جديد، فانتفضت من جلستها، وغادرت لتترك المكان كله.

لمحت جابر، وهو يسير خلفها، فأسرعت الخطى لدقائق قبل أن تنظر وراءها، فوجدته ينظر إليها بنظرة مخذولة متوسلة، وهو يشير إليها بحركات لم تفهمها، لكنها بدت لها كنظرة وحركات مجنون لم تثر فيها إلا الذعر. فتابعت السير، لكنها ارتبكت بشأن العودة إلى البيت، إن واصل تتبعها، فسيعرف أين تسكن.

لم تعرف ما الذي عليها فعله سوى التوغل في الشوارع الجانبية، واحدًا تلو الآخر. لم تعد متأكدة إن كان لا يزال يتبعها أم لا، لكن كلما نظرت إلى الخلف، رأت طيفًا يشبهه، ما الذي فعلته بنفسها؟ تحول مشيها إلى ركض، عبر المزيد من الشوارع الجانبية، التي قادتها إلى حارات أصغر، مليئة بورش النجارين والحدادين ومحلات الأثاث. من هنا إذن تأتي قطع الأثاث المريعة، ذات الحواف المؤذية والشريرة التي اختارتها حماتها؟ تعثرت مرتين في حفر.

لم تعد تعرف إلى أي مدى ابتعدت، لكنها لأول مرة تدرك أنها لم تجرب من قبل السير في شوارع أخرى غير التي اعتادتها في مسارها اليومي، الذي خاضت من أجله حربًا ضروسًا، لتكتشف أنها بالكاد تخيرت سجنًا أكبر، جدرانه بحجم شارعين ومحل قهوة.

رغم خوفها واختفاء أطياف جابر، شعرت بلذة ترك نفسها تسير بلا هدى أو خريطة مسبقة، كأنها تخترق أحشاء سجنها بأمل خافت في العثور على منفذ. لو كانت حفرت كل يوم قضته داخل سجنها ثقبًا بملعقة، كما رأت في أحد الأفلام، لكانت قد فرت منذ زمن.

لم تفق من لذتها العابرة إلا عندما توقف صخب الشارع. كانت قد وصلت إلى حارات أكثر ضيقًا وظلمة، خالية من الضوء والصخب، لا ورش ولا بيوت، بل متاهة من أكشاك الصفيح. قررت العودة، لكنها لم تهتدِ إلى طريق، واصلت السير، وقد فقدت كل شعور بالزمن، تنتقل من حارة إلى أخرى، دون أن تهتدي إلى أي مكان. عندما أدركت أنها تدور في دوائر، باغتها ألم المفاصل، قويًا وقاصمًا، حتى لم تعد قادرة على تحمله.

مع كل خطوة، يزداد تلبد الغيوم، وتلطمها رياح باردة. اختفى أثر البشر.

وجدت رصيفًا متهالكًا، بجواره قططا تتشاجر حول كيس قمامة، فجلست فوق الرصيف، لا تعرف ما الذي يمكن أن تفعله.

أخرجت هاتفها واتصلت بميادة، لكنها لم ترد، كتبت على الفيسبوك:

«أنا تائهة..» ثم أضافت..: «يا رب»، عاودت الاتصال مرة أخرى بابنتها.

انتبهت إلى بريق موس يقترب من رقبتها، ويد صغيرة ترتجف تشير إليها أن تعطيها الهاتف، والنقود التي معها في حقيبتها. كانت اليد لطفل لا يزيد عمره عن أربعة عشر عامًا، حليق الرأس، بوجه شاحب وعينين زائغتين من تأثير المخدرات. كان جسده النحيل يترنح كأنما يكافح للبقاء واقفًا. شعرت بقلبها ينبض بسرعة، وعرق بارد يتصبب من جبينها. حاولت أن تلتقط أنفاسها، بينما كانت عيناها تتجولان في المكان بحثًا عن مخرج أو مساعدة، لكن الشوارع كانت خالية، والصمت كان يلف المكان كعباءة ثقيلة.

أعطته كل شيء، ثم سألته بنبرة متوسلة:

– ما تعرفش جامع العطارين منين؟.. أنا تايهة.

نظر إليها في بلاهة، صمت لثواني مرتبكًا، قبل أن يقول بصوت خافت:

– طوالي كده.. خطوتين من هنا.

ثم فر هاربًا باتجاه الظلام.

تمالكت نفسها لتقوم، لكن خانتها قدماها، فجلست مرة أخرى على الرصيف المتهالك، ودخلت في نوبة بكاء طويل، بكاء عمر محتشد لثلاثين عامًا خلف جدران أربعة. عمر قايضته بخدعة الصبر، حتى لو ماتت سجانتها، هل ستتحرر؟ لقد امتصت آخر قطرة من حياتها قبل أن تموت.

قامت أخيرًا، وسارت باتجاه الشارع المؤدي إلى جامع العطارين والذي أشار إليه سارقها، دخلت العمارة، تسندت إلى الحائط، حتى بلغت بسطة السلم، كانت الجدران باردة وخشنة، نظرت إلى أعلى، فبدت لها الطوابق السبع، كطوابق لا نهائية تمتد إلى الأبد، كأن صعودها لن يكون إلا هبوطا إلى قاع بلا قرار، وكل درجة سلم، ليس إلا طريق شاق وحجر عثرة.

استدارت إلى الخلف، غادرت العمارة، ورفعت رأسها نحو السماء. لم يكن هناك أي أثر للغيوم التي كانت تراقبها، كانت السماء صافية، كأنها تناديها، تابعت السير من جديد، في طرق متعرجة وشوارع لم تألفها، ووجوه لا تكترث لها، تاركة خلفها قلبا مثقلا لم يعد ينتمي إليها، مع كل خطوة تخطوها، كانت تشعر بأن المدينة نفسها تبتلعها ببطء، كأنها تتآمر معها، الحارات عادت من جديد لتصير أضيق، وتلاشت الأضواء الأصوات تدريجيًا، حتى غلفها الظلمة والصمت.

 

19\9\2024

أحمد الفخراني (مواليد الإسكندرية، 1981)، روائي وصحفي مصري، عمل في منصات مصرية منها «الشروق» و«المصري اليوم»، ويكتب بشكل دوري لعدة منصات عربية، كتب عددًا من حلقات برنامج «الدحيح» منها «أم كلثوم في باريس» و«ترامب»، فاز بجائزة ساويرس عن روايته «بياصة الشوام»، ووصلت روايته «بار ليالينا» للقائمة الطويلة لجائزة البوكر، ويشغل حاليًا منصب مدير تحرير برامج الديجيتال في «العربي تيوب».

أحمد الفخرانيقصة قصيرةكغيمة مرت

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member