قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي

12 May, 2025
عمرو عيسى، «عين شمس، القاهرة»، ألوان مائية على ورق، 2022 (بإذن من الفنان).
عن ذكريات الطفولة في حي عين شمس القاهري، يكتب كريم عبد الخالق قصة قصيرة بديعة، بأسوب تيار الوعي، عن الحياة البسيطة لكن الشيقة في ذلك الزمن القريب، وكيف تستقر شخصيات بعينها في الذاكرة، مرسومة بخطوط تكاد تكون غير مرئية.

 

كريم عبد الخالق

 

ثُمَّ اِنقَضَت تِلكَ السُنونُ وَأَهلُها فَكَأَنَّها وَكَأَنَّهُم أَحلامُ

– أبو تمام

شبّورة يسطا شبّورة

– أبو ربيع

 

كابوري يا روبي، كولاج لكريم عبد الخالق.

أوصلتني ماما إلى بيت ميس أوديت كالعادة. عند ناصية إبراهيم عبد الرازق وقفنا: «لما هتخلّص هتيجي هنا بالظبط، وهتركب الميكروباص اللي جي من الموقَف. الفلوس في جيبك، الأجرة نص جنيه أوعى تنسى». كانت مشغولة ولن تستطيع أن تُعيدَني إلى البيت. أول مرة سأعود إلى البيت وحدي، وكنتُ في أول سنة في الابتدائي. لمَّا قالت لي ذلك تذكَّرت الحلم الذي تهت فيه منها واستيقظت قبل موعد المدرسة شاعرًا أنها سافرت إلى مصر الجديدة؛ ماما بعيدة يعني سافرت. بعدها أمسكتْ يدي وأكملنا طريقنا حتى جنينة الشريف. الجنينة كانت في الأساس مجرد أرض، اشتراها مقاول وأراد أن يطلع ببرج، ولما حفروا للأساس اكتشفوا آثارًا، تمثال طويل وتابوت فارغ وقِطَع مُهشَّمة، أخرجتها الحكومة من تحت الأرض وتركتها فوق، وظلت إلى الآن قابعة في الأرض التي أصبحتْ مهجورة، ومن تحتها تشيطنتْ نباتات قليلة هنا وهناك فباتت جنينة، رغم أنها مقفلة وممنوع دخولها، ولا الآثار كُهِّنَت ولا البرج طلع. كل مرة نمرُّ فيها بجوار الجنينة أنظُر للتمثال والتابوت والقِطَع وأشعر بالخوف. كل ما أفكِّر فيه أنها مقبرة، وفي التابوت جثة وليس فراغًا، ووجه التمثال الذي أكله التراب واندثرتْ معالمه يحوِّله خيال الطفولة إلى ألف وجه مخيف. مقبرة يعني ميتين وأرواح، حتى لو كانت آثارًا، فهي آثار ميتين، والميتين يعني رعب، طالما أنهم أغراب، أما ميتينك فهم حزن، مثلما أدركت لاحقًا حين تذكّرت جدي لأول مرة بعد موته في 2009 وشعرت بطعم جديد للحزن ومُستقبِل جديد ينفتح في روحي. امتدتْ ظلال الجنينة المخيفة على الشوارع المحيطة كلها، شارع ميس أوديت وحواريه الجانبية وحتى ما بعد سور المترو، المنطقة بأكملها بدأتُ أتأملها باعتبارها شواهد قبور تقبع فوق آثار وتوابيت أخرى، كأنك تشعر بكروية الأرض فعلًا كلما مشيت، كروية عجينية كبطن حامل في شهرها الأخير. عين شمس مقبرة، هكذا كنت أتخيل. إلى الآن لا أحب المرور من منطقة جنينة الشريف هذه، وأجدني أتحاشى النظر إلى الجنينة كأنه خطف البصر. أنزِل السلالم في توهان تام، كأنني أخرُج من الحياة، أُطرَد من الأماكن، كأنني أتوه من ماما؛ أسوأ كابوس في الحياة. سلالم بيت الميس ضيقة جدًا كأنها للطوارئ، ولا مصابيح، دائمًا في الظلام ومع تربُّص القطط ورائحة البول وصراخ سكان الطابق الأول كأنها القيامة في الداخل، وعلى طول السلالم أكياس قمامة سوداء ضخمة وعالية، مدفونة رأسيًا. كل ذلك تراه في ضوء كشاف صغير باهت يتأرجح يمينًا ويسارًا من فوق، أي فوق؟ الله أعلم، وتشعر أن قدمك إذا فلتت من سلِّمة ستأخذك وتغطس في جيب زمني فتحه آكو لك خصيصًا إلى التوابيت والتماثيل وهي خارجة من الفرن طازة. وقفتُ على باب العمارة أنظر حولي، نسيت كل شيء، وكل الشوارع أمامي الآن متاهات، حتى المحلات التي أعرفها بِتُّ أعمِل لا أعرفها وأخنْفِس في روحي. هل كنت عامل مش عارف أم هو الخوف وكنت تائه ومش عارف فعلًا؟ بسبب الجنينة؟ التمثال وفراغ التابوت الذي يشبه فراغ غرفتي لما أتركها وأتخيَّل كراسة واجب تسقط وتضيع للأبد؟ أم غياب ماما؟ أم هو رعب الطفولة العادي والكامن تحت كل حجر؟ بعد أن خرجنا من عند الميس مشينا ثلاثتنا، ميسِّي كان يكلم واحدًا لا نعرفه، لأنه في الأساس شارعه ومنطقته، وكان يساهم في توطين رعب وأسطورية المنطقة في أذهاننا طوال الوقت. ناقصة. قال لنا مرة أن هذه المنطقة يسكنها فقط البلطجية، ثم استدرك، «ما عدا إحنا» وذات مرة في الثانوي رد عليه طه بعد أن ضاق ذرعًا من كلامه المكرر أنه فعلًا بلطجي ولكن في مدارس تجريبي «يعني بلطجي طبقة متوسطة، يعني سُخن وبارد» ثم أردف بعد لحظة صمت مسرحية جذبت انتباه الجميع «يعني أي كلام يسطا» ولأن طه من المرج لم يتجادل معه ميسِّي كثيرًا. لاحظَ روبي شرودي وعدم تجاوبي مع مزاحهما المتبادل من وقت لآخر، كنا قد مررنا بجوار متسوِّل وميسِّي قال أن هذا أخو رجل مسلوخة لكن روبي استلمها وسقّطها قائلًا أن أخو رجل مسلوخة يسكن في أوضة الحاجَّة. لما وجدني روبي في النهاية أقف بلا حراك على ناصية الشارع ضاربًا الجنينة بظهري سألني: «إيه يا كيمو مش هتروَّح ولا إيه؟» لكني لم أرد، «إيه أنت ناسي الطريق ولا إيه؟» ولما لم أرد أيضًا أخذني من يدي. أذكر جيدًا أنه أخذني من يدي بلا كلمة وأنني شعرت أنه أكبر مني، أو للدقة شعرتُ أنني أصغر منه، بالتأكيد هناك فرق. أخذني من يدي ومشينا حتى ناصية إبراهيم عبد الرازق. كنت أشعر أنه ليس طريقه، وأنه بكل بساطة يوصِّلني. حتى لو كان طريقه، فقد التقطني من عرقوبي كما أنقذ الرخ السندباد من وادي الألماس. قلت لنفسي وأنا محتار أن روبي لا يمكن أن يكون مجرد زميل مدرسة، ولكنه أيضًا ليس بصديق، هو مزيج من هذا وذاك، وقد شرع في إثبات ذلك الآن، وربما أيضًا يحاول أن يجد لنفسه مستقرًّا جديدًا، بعيدًا عن رمادية الصداقة أو الزمالة بين مسلم ومسيحي في سن الطفولة. عندما نصل إلى ناصية إبراهيم عبد الرازق هل سيكتفي بهذا الحد؟ لكنه انتظر، وقف معي دقائق حتى جاء ميكروباص، وقبل أن أركب سألني: «معاك فلوس؟» ولما قلت له نعم أعاد السؤال من جديد، ولا أذكر إذا كان قد أعطاني الأُجرة حقًا أم أن خيالي يضيف هذه التفصيلة. الأُجرة يعني المصروف كله. ابتلعني حوت الميكروباص ومشيت من دون أن ألاحظ أنني لم أشكره. شكرًا يا روبي. لا بد أن روبي مطرح ما يجلس الآن سواء برضاه أو معاقبًا لا يعرف أنه يحمل اسم مخرج أحبه جدًا؛ روبير بريسون. روبير. نقول له فقط: «روبي». «باصي يا روووبي، أنت بتُجْزُر يا روووبي، كووبري يا روووبي»، أو: «كابووري يا روووبي»، إذا كان الكابووري حلو فعلًا. ولأنه قصير وبكرش كعبولي كان لعبه سيئًا ويَلبِس الكابوري بسهولة. كان هناك مدرِّس عربي مزاجه في الحضيض دائمًا، كأنما تحت جِلده الطير، وكان يناديه ألبير، أو أربير. كان ينادي كأنما ينادي السيَّاف: «يا أربير الكلب»، غالبًا من حُق زاوية عنصرية، لكننا لم نتبنَّى هذا النداء قط رغم المَعيلة المعتادة، كان هناك ما يشبه الميثاق الأخلاقي السري بين الجميع، تشتِم براحتك طالما بلسانك ولكن قَطع أي لسان خارجي. اسمه مميز ونادر، لدرجة أنني لا أذكر أبدًا اسم أبيه، روبير ماذا؟ روبير أشرف؟ روبير بيباوي؟ لا، ليس روبير بيباوي. ساحت تمامًا. لفترة طويلة كنت أظن أنه يسكن قرب المدرسة ويتعمد أن يصل متأخرًا للمرازية. يعني كنت أظن أنه يسكن عند شارع الزهراء وجرجس حنا ومملكة النحل، أو ربما أبعد قليلًا، عند السنترال أو مدرسة الشمس مثلًا. لكن كل هذه الظنون لم تتأكد يومًا، لأنه كان يخرج من المدرسة ويأخذ اتجاه مختلف كل يوم، كأنما للتمويه، فلا تعرف له وِجهة محددة. التوصيلة كانت مجرد سراب عابر في صحراء الزمالة، لم نصبح أصدقاء، ولم يفكر أيٌّ منا في أن نصبح أصدقاء، كأن مسألة الصداقة هذه مش مهمة في حالتنا، كأننا اللون نفسه في لوحتين مختلفتين عُلقتا صدفة في المتحف نفسه متجاورتين، لكن كل لوحة من اللوحتين كانت لفنان مختلف. إتَّاخر شوية يا روبي، فَسّح يا أخي، لا سلام ولا كلام، أنا فقط أشاور لك من بعيد بالفصاحة الكسولة لعامل باللغة، حيلة العاجز وبضاعة المفلس. نحن زملاء ولا أكثر، وطَقَّمنا مع المنطقة الرمادية ولا مشكلة، وأنا أكتب كل هذا فقط لأنني تذكَّرت روبي وأنا عائد في المترو قبل أيام ووجدت نفسي ممتنًا للحظات، ككرباج الكهرباء في خبطة الكوع. تذكَّرته من تحت قشرة سميكة من جلطة الأعوام وبدأت أتحدث مع نفسي عنه، بصوت إلهي نثري، صوت يكتب نصًا ويتحدث به وليس يقرأه. في المترو، كنتُ قد لمحتُ رجلًا قصيرًا وبكرش كعبولي أيضًا وبجوار قدمه اليسرى يقبع تمثال خشبي لبومة، ملفوف جزئيًا بكيس أبيض بلاستيك تبرز من بين ثناياه الرأس وعينان جاحظتان ملعونتان على ما يبدو، وكل مَن يمر بجوار الرجل كان يتعثَّر في الكيس أو البومة، وسمعتُ في عقلي ورأيت بعينيَّ روبي يَلبِس واحد كابوري حرَّاق، كابوري يصل إلى مستوى الخابوري كما سميناه، وشُؤري يصيح من آخِر حلوان ذاكرتي خابووري ياروووبي. هذه حركات روبي الانتقامية، هكذا قلت لنفسي وأنا غير فاهم هذه التربيطات الاعتباطية في مخي، السالب في السالب والحابل في النابل، تفعلها يا روبي وتضع البومة في الطريق ليتعثر بها المهاجم وتنكسر ساقه لا محالة بتأثير الفأل السيء قبل أي شيء. ووجدت في داخلي رغبة لأكتب عن كل هذا، ربما لأنني لم أقابل روبي منذ  أكثر من 10 سنوات، ولا أعرف أراضيه الآن، وربما حتى لا أريد أن أعرف. لا أريد أن أعرف يا روبي كيف حالك الآن، هذا ما جنته علينا الأحوال بعقوقها يا روبي وكيمياء المخ بذمتها الأستك. ها هي تفعلها مجددًا، تتجشَّأ الذاكرة في وجهي لأسباب غريبة، ولا أنفُر منها، لا أجد تعبيرًا أدق من هذا. أو، هي تتحرك، تتقلقل في رقدتها من حين لآخر، وتطمئنني أنها تواجه نمل النسيان الأحمر السارح في المخ. طمَّنتيني يا ستي وأقلقتي منامي. أنا أقبِض على روبي، أحبسه وأطلقه في هذه الكلمات، أُسلِّم عليه، يُمكن أن تقول أنني أستغله أيضًا، كمادة، ولكن قد يكون هذا هو أفضل ما يمكن أن يقدمه كاتب إلى صديق أو زميل؛ أن يكتب عنه بصدق. أنا أكتب عن روبي بصدق لثقتي أنه لن يقرأ هذا الكلام أبدًا، لأنه لم يعرف أنني أكتب من الأساس، وإذا عرف فربما سيسخر مني، وساعتها سأُلبسه كابوري رغم اعتزالي كرة القدم من زمن. بل ربما، إذا كان ذلك ما يزال ممكنًا فيزيائيًا، سأُلبسه كابوري فاجر يصل إلى المرحلة الكبرى؛ الخاروقي. الفاتحة على روح كل من لبس خاروقي ومات كرويًّا بعدها. في العام الأخير من الابتدائي تغيرتْ علاقتي بروبي، أو بالغالبية للدقة، حيث انتقلتْ من خانة الزمالة إلى خانة التجارة، عندما بدأتُ أبيع أطنان كروت اليوغي التي جمعتها وأنا طفل لأشتري رجل المستحيل وملف المستقبل التي بدأت قراءتها مع أُفول الطفولة. جيب الطفولة على القَد، وكنت أحاول أن أجعل قَدي إلى أديمي. أول مَن بدأ يشتري الكروت كان الأصدقاء، الذين كانوا ما يزالون يلعبون اليوغي، بينما أنا أعلنت اعتزالي وركنتُ على كرسي الأسطرة وتقولبت فيه بمزاجي وقُلت أسطورة واعتزلتْ. أسطورة ستبيع كروتها لتشتري ما هو أهم منها وأقيم، الكتب، رغم أنها، هذه الأسطورة على عرشها، ما زالت تحتفظ بمجموعتها الخاصة الفاجرة وتلعب فقط من وقت لآخر اليوغي على اللابتوب، في فترات الراحة من العمل، إلى الآن. الأسطورة إذن لم تعتزل حقًا، يا أصدقائي الأعزاء. الكروت الخمسة بربع جنيه، نصف سعرها في أي مكتبة وقتها، ولكن كانت هذه هي الاستراتيجية الوحيدة لكي أبيع كروت «مستعملة» وأجمع المال بسرعة لأنني لم أكن أملك كتب جديدة ومصروفي لا يكفي، وكنت أحوِّشه أيضًا بالطبع. نهم القراءة كان يعض في مخي عضات حب. أيام وأسابيع من القحط الممتع، طفولة صحراوية وأنت غارس بالكوتش في الرمل ولا واحة في الأفق، وكل ما أفكر فيه هو الكتب، ولكمات أدهم صبري التي تهشم الفكوك بسهولة… لأن هذا ما يفعله الرجل… رجل المستحيل. سريعًا انتقلتْ عدوى اليوغي إلى بقية الفصل، لكن لم يشتروا ليلعبوا بالوحوش وكروت الفخ والسحر وفشخ العدو بالتنين الأبيض أزرق العينين كما توقعت واستغربت، بل كانوا يشترون فقط للقمار، ملك وكتابة، رفَّة، على الكروت. بضاعة أتلفها الهوى بجد. كنت أشعر بالزهو وأعد مكاسبي، وفي نفس الوقت أشعر بالخجل وبالأرقام أصفار لأنني لست تاجرًا، أنا فقط أريد أن أشتري الكتب. لو علموا أنني كنت أشتري الكتب بنقودهم ربما ما اشتروا من الأساس. جمعتُ في يومين ذات مرة أحد عشر جنيهًا، وكان مبلغًا، يعني أحد عشر رجل مستحيل، مصروفي كان يشتري نصف رجل مستحيل فقط، مجرد أدهم. روبي كان يقامر أيضًا، وكان شُؤري يخبره أن القمار حرام طالما نحن في الصوم الكبير، فيتشاجر معه ومع الجميع، يا عم حد جه جنبك؟ طوال حياته يتشاجر مع كل من هب في محيطه ودب بجواره، لهذا كانت رأسه مضمَّضة أوقاتًا كثيرة، وقفاه لا يخلو أبدًا من حُمرة الميكروكروم، حتى اصطبغ بحُمرة بوذية أبدية. في مرة تشاجر مع صديق عزيز ولما عاد ليشتري يوغي في اليوم نفسه قلت له أن الكروت خلصت، قفلنا ضُلفها، تُبنا إلى الله، ولكن في اليوم التالي رششتُ الماء بِعتُ له عادي. وكان يخسر ويعود دائمًا، كابووري يا رووبي، تاني. في مرة تشاجر مع عيِّل في ثانوي، كنا نقولها هكذا، عيِّل في ثانوي، رغم أننا كنا وقتها عيالًا في الابتدائي. تشاجر معه في ماتش كرة في المرواح، حيث الجميع خارج ذمَّة المدرسة. ولما أسقطَ روبي العيل على الأرض انفتحت رأسه وطلعنا نجري جميعًا، رغم أننا لم نكن مشاركين في الماتش من الأساس، لكن منظر الدم كان جديدًا وتكاد تتذوقه في الهواء. أحمد موزة وقتها كان في الجوار يكلم آر أو يحكَّها كما أشار صلاح سعودية هائجًا وغيرانًا قبل الواقعة. المهم أن موزة لما لمح ما حصل جاء وفي إثره الضوِّي ورِجلَة وأحمد راب دراجون. رِجلَة كان وقتها بدأ يعرج بشدَّة بالفعل بعد الحادث وكان مرعبًا وبائسًا. يومها زعل مننا روبي بجد لأننا تركناه تحت رحمة هؤلاء العيال من الثانوي، الذين فتحوا رأسه بمقبض مطواة قرن غزال، بدون جراحة بدون ألم، مجرد سحجة بوسة. ولاحقًا حاول طه أن يخفف عنه وقال له أن أغاني أحمد راب دراجون خرا في العموم، وذكَّره لما غنَّى راب مع دبور وشيتا في احتفالية عيد الأم في المدرسة وكان شكلهم كلوت، ثم أهان رِجلَة وافتكسَ أنه شحتَ من مسيو جوزيف جنيه برِجلهُ، لكنه لم يقل شيئًا عن موزة لأنه موجود دائمًا في الجوار، والضوِّي قتَّال قتلة كدا كدا والصمت تاج الكلاب. بعد الواقعة بقليل توسَّط عمر كاما من الدفعة الأكبر وعقد صلح بين روبي والعيال، تجنبًا لأي وجع دماغ أو فتحها لاحقًا. وبعد الصلح والتعفير عرج كاما على موضوعه الوحيد وسدرة منتهاه؛ السكس، وقال لروبي أن فتحة الدماغ هذه ستنعكس إيجابيًا في السرير، لأن الإصابة ستنشِّط منطقة المسائل أسرع، وروبي لم يرد لأنه على الأغلب لم يكن قد بلغ بعد وقتها، ولم يفهم موضوع السرير والمسائل هذان. آخُذ لحظة لأتأمل سخرية القدر من واحد يأكل الزجاج على بطن فاضية وتخاف الذبابة أن تخايله ولكنه لا يعرف السكس بعد. كاما لم يكن يتحدث في أي شيء غير السكس، ويختم الموضوع بالحديث عن عروق ذراعيه النافرة التي تحبها البنات جدًا والتي تدل على فحولة طاغية، مضيفًا أن عروق الذراع يعني عروق في كُلّه خُذ بالك. لم يكن يتحدث عن مرجعية طبية، مرجعيته الوحيدة كانت المنتدى الجنسي «هدفنا واحد» على هذا الشيء الجديد الذي اسمه الإنترنت الأرضي. ما زلت أذكر لما عرَّفني صديق على كاما، وقبل حتى أن يعرف اسمي، حدَّثنا عن الانتصاب الصباحي قائلًا أن الخيمة كل صباح يعني الدنيا تمام. لاحقًا بالطبع أدركت معنى لقب كاما. كانت أيام معدودة، يعني تشعر بانفصالها عن بعضها فُرادًا رغم تكرارها بالحرف، سكريبت واحد والجميع نسَّاي، واللي مش نسَّاي يعمل نسَّاي عشان أُلفة الوشوش على الأقل. نعم أيام معدودة ولا أجد الشجاعة لأعترف أنها كانت مريرة وحلوة ومتعرِّقة. متعرِّقة بدرجة مقبولة ومنفرة في نفس الوقت، يعني أتأمل لفظة متعرِّقة ولا أستشفُّ من ضميري أكتبتها ذمًا أم مدحًا، كأن السم أيضًا في عروقي ولا أدري. أخاف أن يكون السم أيضًا في عروقي ولا أدري. ربما لهذا أكتب وأنغز نفسي في عِدّة مواضِع، وأقول في سرِّي بحكمة مفتعلة لما اتصفَّى هصفا. أيام روبي أيضًا كانت معدودة في المدرسة، كان مكتوبًا على جبينه. خاصة مع مستواه التعليمي الضائع، ومشاجراته الأبدية التي يعطِّله فيها دائمًا عاملان، كونه مسيحي وقصير. لكن المسألة انتهت كما على كل شيء أن ينتهي. لو لم تنتهي المسألة، أي مسألة، ستصبح بايخة. حبهانة الحكمة تحت ضرس الزمن: على كل شيء أن ينتهي ويترك ندبة صغيرة مقبولة، وَحمة الآمال الضائعة على فخذ ابن الغد. إما الندبة أو البواخة. لمَّا دخلنا الإعدادي اختفى روبي، رسب وترك المدرسة، مع خمسات آخرين من ذكور الدفعة، في مذبحة شهيرة حدثت في دفعتنا في الشهادة الابتدائية، لتصبح ذكور الدفعة أقلِّية حتى التخرج. أقلِّية تجمع بين أقصى طرفيّ المقياس المبهم للرجولة أو الذكورية، اختر الاسم الذي يناسبك بحسب موقعك على المقياس، أو بحسب درجة التسمم. أقلِّية متطرفة في عنفها وهشاشتها، تبحث عن توازن على صراط لا يقل هشاشة اسمه حياة الطبقة المتوسطة، وفي الخلفية مهرجان شعبي شغَّله أحدهم على مزاجه وفرضه على الجميع، غالبًا ما تكون ملحمة محمد رجب «مش بإيدي». في لحظات نادرة يَنتِش اللحن في بالي بلا إرادة وأدندنه عنوة بتوهان، كأنني أدندن نشيد لوطن هجرته من زمن. لا شك فيما تشعر به في القيام والرقدة، تنميلة في الأرض، من وقت لآخر. تحت منِّك أرض مسحوبة وهاربة كلما ابتعدتَ عن أرض الطفولة أكثر فأكثر. حتى لو كانت تلك الأرض الأم القديمة حممًا تركت ندوبها عليك، فإن الحمم قد يبست وتشكَّلت شواهد قبور حزينة. لا حزن يسع حفرة في حجم وحدة قياس زمنية، لا هي بالطول أو العرض، ولكنها بكسر العين تأخذ مساحة من كل فضاء زمكاني. اختفى روبي، ولم نسأل عنه، لم يسأل أيًا منا الآخر عنه، لأن مَن فقدناهم كانوا أكثر من أن نسأل عنهم فردًا فردًا، بجانب أننا كنا مشغولون في الإعدادي بالحب والبلوغ ومرارة وحلاوة امتزاج الإثنان معًا. اتضح أن روبي لم يكن له صديق مقرب بحق نسأله عنه وعن أحواله، ولم يكن له حتى أعداء مقرَّبين يشمتون أو يغتابون، فقط عداوات طيَّاري وصداقات مواصلات. كما قلت الجميع نسَّاي. وكان روبي نسيًا منسيًا. أنا فاكرك يسطا لا خوف عليك. فقط من وقت لآخر كان أبي يتذكَّره أيضًا: «فاكر الواد روبير اللي كان معاك في الفصل؟ اللي كان ديمًا راسه ملفوفة؟ راح فين الواد ده صحيح؟» ويبدو أنه راح وعاد، أو لم يبتعد، كأنما يتربص للأعداء. لأننا بعد سنوات قليلة، ونحن في الثانوي، قابلناه ذات مرة، وكانت الأخيرة حتى الآن. كنا قد خرجنا للتو من المدرسة، ومشينا في شارع قمر ومنه إلى عفيفي عفت. ولما مرَّت بجوارنا 127 حمراء سمعنا من ينادي: «إيه يرجااالة عاملين إيه؟»، «روووبي عامل إيه؟»، «ميَّة ميَّة»، «إيه عربيتك دي ولا إيه؟»، «لا دي بتاعت عمي رايح أجيب له بضاعة من النعَّام، عايزين توصيلة ولا حاجة؟»، «تسلم يا روبي، ابقى عدِّي علينا أمَّا تفضا»، «ماشي يرجالة سلاام، سلمولي على…» لكن خلفه كانت كلاكسات عالية أكلت اسم ووجود صاحب السلام العالق في ذاكرة روبي. ممكن أن يكون صديق؟ أو… ممكن أن تكون فتاة؟ لكني لم أتخيل قط أنه يمكن أن يحب أو يرسل معنا سلامًا لفتاة ليس معناه غير الحب. في المدرسة الحب حرام وحَكّ وفَكّ وحلم واحتلام. قبض ريح من على البلاط. في النهاية لم يتشاجر روبي مع صاحب الكلاكسات، لا بد أنه كان مستعجل. سبحان مغيِّر الأحوال، آمنت بك يا رب. ولما رحل تكلمنا قليلًا عنه بعد أن خرجنا إلى دوشة وحضن أحمد عصمت. فارس قال لا بد أنه يعمل سائقًا لدى عمه، لهذا لم يتشاجر مع الرجل خلفه خوفًا على السيارة وأكل العيش «يعم سواق إيه؟ ده طايل الدركسيون بالعافية»، «يسطا عادي، حد مشبِّكله».

كريم عبد الخالق، مواليد القاهرة 1998. يكتب ويترجم ويحاول أن يصنع أفلام كل حين ومين. درس المسرح في كلية الآداب جامعة عين شمس عروس العباسية، وتخرَّج من حبابي عينيها. صدرت له ترجمة المجموعة القصصية «حكايات من عصر الجاز» للكاتب ف. سكوت فيتزجيرالد عن الهيئة العامة للكتاب – سلسلة الجوائز.

قصة قصيرةكابوري يا روبيكريم عبد الخالق

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member