
بعد آمال عريضة وضعها الطفل ذو الخمسة عشر سنة على عرض مسرحي مدرسي، تنتهي الآمال إلى إحباط هائل، كأنه انعكاس لإحباط الوالدين اللذين يعانيان من أجل العيش. يكتب محمد فطومي قصة قصيرة رائعة، نُشرت في مجموعته الأخيرة «متحف الحكايات الضالة».
محمد فطومي

قبل أسبوع من العرض، كان والِدا طفل الخامسة عشرة الذي أُسنِدَ إليه دور الشجرة الحكيمة في مسرحية طلابية قد فقدا موهبة الاستمرار في تسيير شؤون العائلة، غيرَ مُكتَرِثَيْن بالمواعيد المُنَكِّدة للعيش، والمتربِّصة بهما في كلِّ أفق. فبعد استمرار الأم في بيع الخبز و«تشويط» رؤوس الأغنام رغم فحوصات مُخيفة للدمّ والكبد ما انفَكّ أوانها يقترب كمُحاكمة، واستمرار الأب في ممازحة هذا ومشاكسة ذاك في المقهى الذي كان يعملُ فيه نادلًا منذ أكثر من عشرين سنة، رغم أنباء بتحويل المقهى إلى مخزن تبريد، كان على الأرجح ألّا شيء مما تُخبّئه الأيام المقبلة يملِكُ أن ينشب براثنه في يومهما أو يُلطخه. لكن الأمر اختلف هذه المرة، فقد وجدا نفسَيهما كالمُحتَجَزَين خارج دورَيهما حتى يحين موعد أداء ابنهما دورَه في المسرحية. كان الطفل مُفعَمًا بالإثارة ونفاد الصبر، وكان فائضُ حماسه قد غمر البيت بهجة وغرابة وهو يجوب الغرف مُكررًا بشوق خطاب الشجرة الحكيمة التي ما عادت الآن تبرحُ خياله وأحلامه. كان الطفلُ في سِرِّه وبمزيج من الشفقة والارتياح يتساءل عما يمكن أن تشبهه حياةٌ لن يُلعَبَ فيها دور شجرة عما قريب. وصحيح أن والِدَه على وجه الخصوص، وبسبب تعلُّقه الشّديد به، قد جرفته موجة الموعد فأجل حياته إلى ما بعد اللحظة التي سينزل فيها ابنهما من الرَّكح، إلا أنَّه ظلَّ يتمتَّعُ بموهبة نهش أيامه القادمة. كان يقترضُ الأموال من كلِّ مكاتب التموين. كان يبيعُ سنواته القادمة مقابل مبالغ زهيدة كأنه يفقأ فقاعات صابون، حتى إذا استوفى ما في حوزته وتراكمت ديونه اقترض المزيد لقاء مهلة أخرى لن يعيشها بل سيتحمَّلُ مرورها فوق عظامه المتعبة. اقترض الأموال ثمَّ اضطُرَّ إلى العمل كامل النهار وقِسمًا من الليل لتسديدها، مُكَرَّسًا ومُفلِسًا كحاوية قمامة. اشترى الدراجات النارية بالأقساط وباعها بنصف ثمنها، لعلَّه بذلك يُبعِدُ شبح التسَوُّل بعض الوقت، أثقل على كاهله أقساط غيره مقابل مبالغ ضئيلة. قامر طمعًا في الثروة غير أنه كان كلما استيقظ صباحًا وجد نفسَه نادلًا مُهَدَّدا بمصير غامض. كان كلما تفتت الطريق أمامه مُكبِّلا خطواته، إلا واقترض من الجانب الآخر للهاوية بعض الأمتار الشحيحة المتبقية.
وها هو ذا، ثانية، يشحذ من مالك المقهى مُقدَّمًا على راتبه لكي يُجابه مصاريف الدَّور، دور الشجرة الذي سيلعبه ابنه. إذ سيكون عليه اقتناء حذاء جديد وبعض الملابس للطفل باستثناء القميص فهو متوفِّر، سيُعطيه القميص الأبيض الرخيص الذي كان قد أهداه إياهُ المالك عند قدومه من الحج وظلَّ مدفونًا في الدولاب سنوات طويلة بسبب مقاسه الصغير. ثم بالإضافة إلى ذلك تحتَّمَ عليه تأمين تكاليف الحمام وأجرة التاكسي التي ستُقلّهم إلى المسرح وثمن حبَّتَيْ موز للولد، واحدة يأكلها قبل الأداء وواحدة بعده. وافق المالك على مضض إذ لم يسمع، كما جرت العادة، ذلك الاستعطاف المُذلَّ الذي لا ينبغي أن يُغفَلَ فيه عن كونِه أحد أولياء الله الصالحين الذين تُغاثُ بهم الأرض.
حلق الطفل شعره. استحمَّ وارتدى ملابسه الجديدة. وبدا كأن الوالدين يسمعان النص للمرة الأولى عندما قام ببروفا أخيرة أمامهما في البيت. ثمَّ انطلقوا نحو الحفلة. اتخذوا أماكن في الصف الأول. مرت ساعة بين ألعاب وغناء ومسابقات قبل أن يحين موعد عرض المسرحية. صعد الطفل إلى الرَّكح مرتديًا القميص الأبيض الفضفاض الذي جعله يبدو كفزَّاعة نظيفة وجميلة، واندفع نحو الكواليس.
تلا منشِّط الحفلة أسماء الممثلين، وكان موظَّفًا في المعهد يُعرفُ بموهبة يصعب تصديقها، فقد كان في إمكانه أن يُشاهَدَ في ثلاثة أماكن مختلفة في آن واحد. لكن الأهم هو أن الطفل لم يكن من بين الممثلين. استغرب مُستعِدًّا ليغفر الخطأ، إلا أن عدم اكتراث الفريق لوجوده لم يَدَعْ مجالًا للشك في أن وجوده لا يعني شيئًا. كان رفاقه الذين سيقدِّمون العرض جميعًا من أبناء الوجهاء والأعيان بين أطبَّاء ورجال أعمال وكبار تُجَّار ورؤساء مصالح كبرى في المدينة. لم يُلتَفَت إليه في الكواليس، لم يكن المكان مكانه. رأى الشجرة الحكيمة تؤول إلى غيره، كان مهزومًا تمامًا ومُقدِّرًا لما يحدث. لكن، غير مُصدِّق، دنا من أستاذ الموسيقى الذي كان دائمًا يسمَحُ له بالعزف على عوده لشدة إعجابه به. كان جالسًا في زاوية من الرَّكح خلف «الأورغ» في انتظار دخول الممثّلين. قال الأستاذ بابتسامته الوديعة المعهودة:
– أهلًا بُنَيْ.
قال الطفل:
– سيدي، يُفترض أن ألعب دور الشجرة، لكن يبدو أن هناك من أخذ مكاني.
– مؤكّد أنهم يدَّخرونك لدور أهمَّ، كن على ثقة من ذلك.
– متى؟
– اجلس إلى جانبي إن أردتَ، ألم تعد تُحب العزف؟
قال الطفلُ بحنجرة مُختنقة:
– بلى، لكني حفظتُ النصَّ جيِّدا ولن أخطئ.
أطرق الأستاذ وعضَّ برفق على شاربه كما اعتاد أن يفعل حين يكون عليه شرح أمر مُعقَّد، وقال كما لو كان قد اهتدى إلى بديل أفضل:
– الممثِّل البارع يجيد كلَّ الأدوار. هل تتقن دور شارلو؟ شارلو صامت ولا يحتاج إلى نصٍّ. لو أردتَ سأطلب منهم أن يفسحوا لك المجال لتقلِّده بعد المسرحية. ما رأيُك؟
لم يخطر على بال الطفل سوى أنَّ الحفلة في حاجة إليه وأنه لن يخذلها.
– وهل سترافقني بالموسيقى؟
– طبعًا، قال الأستاذ، سأعطيك قبَّعتي ولن نعجز عن إيجاد عصا.
عاد الطفل إلى والِدَيه، جلس إلى جانب أبيه. أمسكه الأخير من كتفه. قربه إليه وقبَّل رأسه دون أن ينبس بكلمة. تبادل الوالدان كلمات يائسة لمَّا سمعا كلام ابنهما، كلام الشّجرة الحكيمة يخرج من بين شفتين أخرَيَيْن، شفتَيْن متردِّدَتَيْن وممتعضتيْن: «البشرُ نوعان أيها الذئبُ الصغير، أناسٌ يظنون ألا وجود لشيء في الغابة، وأناسٌ يظنون ألا وجود لشيء سوى الغابة…»
قال الطفل بنبرة لا تخلو من خوف:
– ماما، وعدني أستاذ الموسيقى بتقليد شارلو بعد المسرحية. لحسن الحظ أن شارلو لا يتكلم.
طفرت دمعة من عينَيْ الأم ولمّا صفّق الجمهور عند انتهاء المسرحية، كانت لا تزال تعتقد أنَّ الستار لن يُسدل أبدًا. صفق الطفلُ أيضًا لأن على الفنانين تشجيع بعضهم بعضًا. ثمَّ قفز من مكانه. ارتقى الدرجات وتسلل بين أصدقائه صوب أستاذ الموسيقى.
– أنا جاهز، قال الطفل قلقًا جدًّا بسبب المشهد الذي ينبغي أن يتضمَّن قصَّة.
– حسنًا، سنتدبَّر الأمر بعد اللوحة الراقصة. قليلًا من الصبر فقط.
تتالت العروض وراح وقعها يتحوَّل إلى مطارق تنهال على رأس الفتى الذي بات الآن هادئًا كما لو كان قد تأدَّب. ثمَّ انتهى كلُّ شيء وسط جوٍّ من الهرج والغبطة والرغبة في مغادرة المكان.
في طريق العودة إلى البيت، كان لا بُدَّ أن يُخيِّم على العائلة صمتٌ طويل وثقيل كالتواطؤ. سيكسره الطفلُ لاحقًا وهو يتحدَّث عن أستاذه الذي لم يكذب، بل كان يُلمِّح إلى أنَّ زمنًا يجب أن يمُرَّ. ربما لو رجع به الزمن إلى الوراء لارتمى في أحضان أستاذه ولاكتفى، لسبب يجهله، بابتسامة امتنان، طلبًا للاعتذار لأنّه كان صغيرًا يومها. ما عاد ذلك ممكنًا الآن، لا لأَن الزمن لا يرجع إلى الوراء بل لأن هذا القارب الذي بدأ يتأرجح، الموشك على الغرق، سيعود إلى الشاطئ فارغًا بعد أن تركه الشابَّ في المكان الذي هو مكانه، وبعد أن يكون من جهته قد حاول اقتراض بقية العمر دفعة واحدة.
