"اثنا عشر ملاكًا" – قصة قصيرة لأحمد صلاح المهدي

في نهاية حياته، خائفًا من احتمال الموت، يكافح رجل إمكانية المحو الكامل، فكرة أنه لن يبقى أي أثر لوجوده. 

 

أحمد صلاح المهدي

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية رنا عصفور

 

بينما أنا على فراش الموت، متدثرًا بأشعة الشمس التي تتسلل عبر فتحات النافذة، والستائر الرقيقة تتمايل بخفة مع رياح النهار الهادئة، رحت أفكر في حياتي في أسى. لم تكن حياة سيئة، ربما مررت ببعض اللحظات الصعبة، ولحظات أخرى عظيمة البهجة، ولكنها في مجملها كانت حياة هادئة تحفها السكينة. أخذت أعود بذاكرتي إلى سنين طفولتي اللاهية، كانت تلك هي الأجمل، ولكن في كل مرحلة من مراحل حياتي كان هناك شيء أشعر نحوه بالحنين.

أدرت رأسي أتأمل المحيطين بفراشي، الرجال يرتدون حلّات سوداء، والنسوة يرتدين فساتين سوداء، وجميعهم يبدو عليهم الحزن. بعضهم ينتحب، وبعضهم ينظر إليّ بصمتٍ في حزن، والبعض الآخر يدفن وجهه في منديل محاولًا كبح جماح دموعه، ولكن جميعهم يبدون حزانى بلا شك. لا قدرة لديّ على تمييز الحزن الحقيقي من الزائف، وحتى الحزن الحقيقي لم يكن عزاء كافي بالنسبة لي فأنا سأموت سواء بكوا حزنًا أو رقصوا فرحًا.

أدركت في هذه اللحظة أنني خائف من الموت! ظننت بعد هذه السنوات الطوال أنني صرت مستعدًا له وأنني لم أعد خائفًا منه، ولكني أدركت في هذه اللحظة وأنا أحتضر أنني مرعوب من الموت.

ولكن ما يفزعني أكثر من الموت هو أن أنسى بعد موتي... أن أسقط في هوة العدم المظلمة اللانهائية... أن أفقد فرصتي الوحيدة في الخلود. أردت أن أتشبث بالحياة كما يتشبث طفلٌ تائه بدميته؛ فهي دليله على أنه كان ينتمي لعالم، ويريد أن ينتمي إليه إلى الأبد.

أشحت بوجهي بعيدًا عن المنتحبين، وفي تلك اللحظة... رأيتهم... اثني عشر ملاكًا يحيطون بفراشي، وينظرون إليّ بهدوء وسكينة، وفي تلك اللحظة أحسست بالطمأنينة تسكن قلبي لسبب لم أدركه حينها.

كيف عرفت أنهم ملائكة؟ لم يكونوا على هيئة رجال بأجنحة بيضاء كما تخيلت طوال حياتي، بل كانوا مخلوقات أخرى من أبعادٍ لا يمكن للعقل أن يتصورها، وكانت هيئتهم تتغير وتتبدل عدة مرات في الثانية الواحدة، ولكنها تحافظ على نمطها الثابت المحدد، ففي وسط هذه الفوضى أحسست بشيء مألوف، شيء عرفته من أزمان أزلية سحيقة، ثم نسيته، وهذه الألفة هي ما منحتني السكينة في تلك اللحظة الصعبة.

"من أنتم؟" سألتهم بصوت ضعيف. لم تتحرك شفتاي ولكن الكلمات تشكلت في عقلي، وبدا على الملائكة أنهم قد سمعوها.

قال أحدهم: "أنت تعرف". كانت صوته كرنين ألاف الأجراس الصغيرة، يتردد صداها عبر وادً منبسط، يصحبه حفيف رياحٍ هادئة. لمست كلماته شيئًا في أعماق لا وعيي، شيء أشعر أنني حجبته بإرادتي.

قال آخر بصوتٍ يماثل الآخر وداعة وسكينة: "لا تخف الموت، فهذه ليست المرة الأولى التي تموت فيها. لقد عشت حياتك هذه تخاف كثيرا من الموت، تخاف من أي يطل عليك بوجهه، كلما مات عزيز عليك، أزداد خوفك، كأنما يترك في روحك جرح لا يندمل، ولكن هل هو بمثل هذا السوء حقًا؟".

قلت له في لهفة: "ماذا سيحدث بعد موتي؟".

قال ملاك آخر وهيئته تتغير وتتبدل: "بموتك سيختفي كل شيء، حتى نحن سنذبل ونموت، إلى أن نولد معك من جديد في عالمٍ آخر، بهيئة أخرى، ولكننا دومًا اثنا عشر، نصحبك من عالم لآخر".

عقدت حاجباي فتجعدت جبهتي العجوز، بدأ صوت البكاء من حولي يصير كأنما يأتي من مكانٍ بعيد، ومن يرثوني كأن بيني وبينهم حجاب.

قلت لهم: "تصحبونني؟ من أنتم؟ بل السؤال هو... من أنا؟".

 قال آخر بصوته الرنان: "أنظر بعينك الحقيقية وسترى كل شيء؛ حاول أن تتذكر تلك الأشياء المدفونة في أعماقك ذاكرتك".

أتذكر؟ ماذا أتذكر؟ لقد قضيت اليوم أتذكر حياتي كلها، حتى طفولتي، ولكن... مهلًا، بزغت لحظة في عقلي كوميض البرق، لحظة مولدي! هنالك كانوا حول الفراش وأمي تحيطني بذراعيها، اثنا عشر ملاكًا!

أحسست أن هناك ابتسامة في وجه أحدهم المبهم وهو يقول لي: "تخيل معي شخًصا يعيش وحيدًا في زمن قديم، قديم للغاية، أقدم من قدرة أي شخص على التصور. كان وحيدًا للغاية، ولكنه كان يشعر بالملل فلا يوجد ما يؤنس وحدته في هذا الفراغ اللامتناهي سوى الأفلاك والنجوم والسدم، ولكنه أحس بالملل، لم يكن قادر حتى على الموت لكي يتخلص من ملله. ثم تخيل هذه الحياة، عالم يقدر فيه على أن يحيا ويموت، وملأ هذا العالم ببشر يرافقونه، ومخلوقات حية متنوعة، وعالم بتاريخ ثري، كل هذا فقط لكيلا أشعر بالملل!".

اتسعت عيناي وأنا أقول: "هل تقصد أنني...؟".
أكملت جملتي قائلًا: "أنت هو هذا الشخص".

تلتفت حولي في حيرة، وفكرت أن كل هؤلاء الباكين لا يوجد أحد منهم حولي حقًا، لا يوجد أحد... سواي! كانت الفكرة أكبر من قدرتي على التصديق.

قلت في ضعف وتردد: "هذا العالم كله كان من أجلي أنا وحدي؟".

قال الملاك: "أجل من أجلك وحدك".

 قلت في حيرة: "وماذا عن تاريخ العالم الطويل قبل مولدي؟".

"لم يكن هناك عالمٌ قبلك، كل شيء قد انبثق إلى الوجود معك في لحظة مولدك في هذا العالم. كل شيء يعتمد على مخيلتك".

تنهدت طويلًا ثم قلت: "وماذا بعد؟ ماذا الآن بعد موتي؟".

قال آخر: "هذه لم تكن حياتك الأولى ولن تكون الأخيرة".

عقدت حاجبيّ وقلت: "ماذا تقصد؟".

"لقد ولدت مرات عديدة لا تحصى من قبل، ومت مرات أخرى عديدة، وفي كل مرةٍ تولد في عالم مختلف، وتحيا حياة تختلف في شكلها عن كل الحيوات الأخرى. ولكنك تختار في كل مرةٍ أن تنسى كل شيء، وأن تبدأ حياتك الجديدة بذاكرة جديدة، ولكن كل شيء موجود هناك في مكانٍ ما في أعماقك".

كانت كلماته تثير في عقلي ومضات أخرى، رأيتني وحيدًا كعملاقٍ بين النجوم والأفلاك، ورأيت ومضات من حيوات سابقة عشتها، أشياء لم أكن أتخيلها قبل هذه اللحظة، لم أكن لأقدر على وصفها حتى لو أردت، الشيء الوحيد الثابت في كل هذه العوالم هم هؤلاء الاثني عشر. 

"من أنتم؟" سألتهم وهذه المرة أشعر أنني متقين من الإجابة، لم يعد مجرد شيء مبهم مألوف.

قال أحدهم: "نحن ملائكة، تجليات من وعيك توجد في كل عالم تصنعه، نحمل ذاكرتك ومشاعرك ونرعى العالم من حولك. ولكن بعد رحيلك يختفي هذا العالم ونرحل نحن معك نصطحبك إلى العالم الآخر لنؤنس وحدتك ما بين العوالم. في العالم الجديد سنكون معك، فنحن جزء منك".

ثم سألتهم: "إذن فبعد موتي سأولد مرةً أخرى في حياةٍ أخرى، أليس كذلك؟ وماذا عن العالم التالي الذي سأولد فيه؟ هل سيشبه الذي سأتركه الآن؟ نفس العالم؟ الدول؟ التاريخ؟ البشر؟ المخلوقات الحية المختلفة؟".

كانت الإجابة: "كل عالم يختلف تماما عن سابقه، هذا أمر يتوقف على خيالك وحدك، وأنت وحدك من يعرف كيف سيكون شكل هذا العالم التالي. ستدرك هذا بنفسك أثناء رحلتك إلى هناك بعد موتك".

كان هناك ضوءٌ أبيضَ يغلفني، أصوات البكاء والنحيب تزداد خفوتًا كأنها تأتي من بئرٍ عميق، وهؤلاء الباكين من حول فراشي يبتعدون أكثر، ولم أعد أرى سوى اثني عشر ملاكًا حول فراشي.

أحسست كأن فراشي الراقد عليه يوجد في فراغ لا نهائي، تختلط فيه الظلمة بالضوء، أضواء متناثرة متداخلة الألوان كقوس قزح في رذاذ المطر.
أهذه هي الحقيقة؟ هل سأولد من جديد مرارًا وتكرارًا؟ أم أنه هذيان عقل عجوز خرف، يخاف من الفناء ويتشبث بكل ما لديه بالخلود؟

راحت الأضواء تخفت من حولي بالتدريج، والأصوات تصير بعيدةً أكثر وأكثر، وأشكال الملائكة تصير أكثر غموضًا وإبهامًا حتى لم أعد قادرًا على تمييزها بين كل ما هو ضبابي من حولي.
أعتقد أنني سأعرف إجابة أسئلتي بعد لحظات، قد أولد من جديد، وربما يخيم الظلام إلى الأبد، ولا يكون هناك نور مرةً أخرى.

ما يزال عقلي يتشبث بتلك الفكرة بعيدة المنال... هنالك في العالم الآخر... ستجد في انتظارك... اثني عشر ملاكًا...

 

أحمد صلاح المهدي كاتب ومترجم وناقد أدبي مصري في القاهرة متخصص في الفانتازيا والخيال العلمي وأدب الأطفال. له خمس روايات منشورة باللغة العربية. ترجم اثنان منها - ريم: في المجهولوالملز: مدينة القيامة - إلى الإنجليزية. نشر العديد من القصص القصيرة والقصائد والمقالات المنشورة بلغات مختلفة.

رنا عصفور هي مديرة تحرير مجلة "المركز"، وكاتبة مستقلة وناقدة كتب ومترجمة. ظهرت أعمالها في منشورات مثل مجلة مدام وصحيفة الجارديان في المملكة المتحدة وذا ناشيونال / الإمارات العربية المتحدة. وهي تترأس مجموعة الكتب باللغة الإنجليزية في مجلة المركز، التي تجتمع عبر الإنترنت في يوم الأحد الأخير من كل شهر. إنها تغرد @bookfabulous.

الروائيونالمصريون حياة وموت

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *