"الصبار" – رواية جديدة لمحمد الناس

2 يوليو، 2023،

هل يمكن للرجل الذي يحب امرأة أن يثبت حماسته من خلال العناية بنبتة بالصبار التي تنخزه بأشواكها؟

 

محمد النعاس

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية رنا عصفور

 

- هذه الثالثة، لقد قتلتُ اثنتين قبلها. قالت له بحزنٍ يضيف مسحةَ جَمالٍ على عينَيْها.- أريدك أن تعتني بها، لأجلي. أضافت.- لأجلك أفعل كل شيء، ولكن. أراد أن يقول شيئا ما مهما لكنه وجد شفتيْها تغلقان كلماته على شفتيْه.


كان يريد أن يكتب لها، اعتادَا على تبادُل البريد الإلكتروني، كان يشعر بسخافة الأمر، إلَّا أنَّها كانت تعيش في زمنٍ ليس لها، وأراد أن يعيش معها في ذلك الزمن، لم يحب يومًا الكتابة، لم يكن يرى نفسها كاتبًا حقيقيًّا، لَطالما رأى نفسه إنسانًا فارغًا، تافهًا، أحمق، ويحاول أن يلبس ثوبًا ليس له.

أزاح حاجياته من على الطاولة، كل شيء في غرفته يذكِّره بها: ملابسه، كتبه، مذكِّراته، فرشاة أسنانه، كوب قهوته، عِطره، چاكتته الجلدية والصَّبَّارة الصغيرة التي تتوسَّط الطاولة اللَّوحيَّة العتيقة، أزاح كل شيء ولم يتمكَّن من إزاحة الصَّبَّارة. كان يريد أن يضع الكمبيوتر على الطاولة ليجلس مجدَّدًا مُحاوِلًا الكتابة لها. تَحسَّس إصبعه، استذكر الألم الذي أصابته به اليوم الماضي لمَّا أراد أن يكتب لها. كان يريد أن يقول لها شيئًا، لكن عندما حاول أن يزيح الصَّبَّارة عن الطاولة انزلَقَت أصابعه عن الحوض لتنضغط على جسد النبات القاسي بشوكه الذي يتعدَّى طولَ حَبَّة أرز.


- أريد أن أحبسك. قالت له. كانت جالسةً على فخذه. عيناها ترهقان قلبه.
- سأجد دائمًا طريقةً للهرب. قال لها بحمقه المعتاد، أَحبَّ أن يستفزَّ مشاعرها، لطالما أَحبَّ أن يشاهد ردَّة فعلها تجاه ما تكرهه الأنثى.

- سأفعلها، سأحبسك هنا، سأخبر عائلتي أنَّني خطفتك، وأنَّه إذا أراد أحدٌ تحريرَكَ فعليه أن يزوِّجَكَ منِّي سريعًا. قالت له تحاول شرح خطَّتها.

- كيف سآكل؟ كيف سأدخِّن؟ كيف سأشرب القهوة؟ كيف سأعيش؟ قال.
- لن تحتاج كل ذلك ما دُمتُ سأعطيك هذا. قالت، أمسَكَت يده ومرَّرَتها تحت فخذيها.


حدَّق في الصبَّارة. "هيَّا، تحرَّكي رجاءً"، قال، وتحرَّك ناحية برسيانة النافذة يريد فتحها، لكن الوعد الذي قطعه على نفسه بألَّا يفتحه مُجدَّدًا عاد ليحرمه ذلك المنظر الذي شاهد فيه شبحها في مطبخها أول مرة يدخل فيها المدينة العتيقة. منذ ذلك الوقت خمَّن ما تفعله، يشتمُّ رائحة طعامها التي تنفذ من فتحات البرسيانة، فينسحب عَرَقُها من جبينها ليختلط برائحة الحوت والكركب والبصل والطماطم والملح؛ فيتفتَّق على جيدها؛ فينزل إلى نهدَيْها. ينصت لندائها الجاف لطفلتها الصغيرة، كيف لها أن تتحمَّل مشقَّات الحياة داخل أزِقَّة المدينة العتيقة، أراد أن يقول. يُحرِّك يده على لوحِ البرسيانة، يده تريد أن تفتح النافذة الخشبية، وعينه تريد أن تراها، من خلال نافذة مطبخها المقابل لنافذة غرفته، عينه تريد أن تجتاز حوض الاستحمام الموضوع في الشُّرفة تَستحمُّ فيها أزهار صفراء لا يعرف اسمها، يتخلَّلها النعناع لينفذ إلى أنفه يُهيِّجه.

نسرين أبو بكر، بدون عنوان 87x72cm_mixed وسائل الإعلام على قماش نقي 2014
نسرين أبو بكر، بلا عنوان، 87x72 سم، وسائط مختلطة على قماش نقي، 2014.

"ربَّما اسمها سيلين" قال يُشبِّهها بحبيبته التي تفصله عنها المسافات والحرب ونزق الحياة، مرَّت به الأزهار والأشجار والشجيرات والنباتات التي رآها في مدينة الياسمين، لا تشمُّ فيها إلا الياسمين والقمامة. مرَّ به زمنٌ لم يكن لديه وعود يقطعها، كان يمكنه أن يفتح نافذة غرفته فتتلوَّن حديقة بأكملها أمامه: أزهار زرقاء، صفراء، حمراء، أرجوانية، برتقالية... تصاحبها الحشرات والعصافير، وطيورٌ لم تمرَّ يومًا بسماء بلاده تغنِّي رُفقَة البحر الذي يجاور ڤيلَّا الصحفية الفرنسية المقبورة داخلها.


- أنتِ تعرفين أنَّه عليَّ أن أذهب. قال له وهو يمسح شعرها.

-
نعم أعرف. أرادت أن تقول لا.

-
هذه فرصتي، سأكتب كل ما أخبرتكِ به، كل شيء. قال.

- نعم ستكتب، وسأحب ما كتبته. قالت له، عيناها لو تذوَّق دَمعَهما لأصابه السُّكْر.

- كما تعلمين أنني لن أتخلَّى عنكِ أبدًا، هي بضعة أشهر، يمكننا فعلها. قال في ثقة. سيكون كل شيء على ما يرام. أضاف.

قالت:
- أخاف ألَّا يكون كذلك. لكن عليك أن تسافر وتجرِّب؛ لَطالما أحببتَ هذه الفكرة. قالت له تحاول أن تُخرِجَه من الحرج.

- نعم، لطالما أحببتُ هذه الفكرة. قال، قبَّلها، دسَّ يده داخل تنُّورتها، أغمضت عينَيْها، حاوَلَت أن تتأوَّه، لكنها كانت تسمع حركاتهم في السقف.


عادَ من سرحانه، ابتعد عن البرسيَانة، كان يشعر بالصَّبَّارة تراقبه، ألقى نظرةً عليها. واتته رغبة في الخروج، تلقَّف چاكتَّته الجلدية، كان كل شيء حوله يختلف عن بلده، لا شيء متشابه: البرد، الهواء، الروائح، الأغاني، لون السماء، ملابس الناس، الحوارات بينهم، العراكات، حتى باب بحرها... بدا مختلفًا جدًّا عن باب بحر طرابلس.

كان أورين -صديقه الشاعر الذي تعرَّف عليه في دار الصحفية الفرنسية- يُخبره بأنَّه يشعر بالتَّشابُه بين البلدين، ويستذكر هو نزق مدينته وحكاياتها فلا يجد ذلك التشابه الذي ألهم صديقه أن يرتَجِل قصيدةً أمامه يُردِّدها كلَّ صباح" تونس... لِمَ أرى الحسناء تسقي غزالها فيك؟ والفرَّاشيات كأمِّي... أفتح بابيَ المُطِلَّ على البحرِ؛ لأُنصِت للأمواجِ تنقل لي أغاني طرقات النحَّاسين".

يخرج ليجد نفسه في شارع الرجل الذي خَلَق منها وطنًا جديدًا للحرية، البرد لم يثنِ العصافير عن أن تستودع الأشجار على طول الشارع سِرَّها، "لو كانت سيلين معي... ستنهار من تغريد العصافير" قال في نفسه وهو يمرُّ بين أجساد الناس، كانت حبيبته تكره العصافير، يحاول أن يجد له مَوطِنًا بين ممرِّ سيمفونية عصافير القصبيِّ القرمديِّ.

في مدينة الياسمين كان يتمشَّى لساعة في الممرِّ الترابي بحديقة الڤيلَّا، يزاحم النباتات، يقارنها بصبَّارته الصغيرة القاسية، يزاحم البشر في شارع الرجل الحبيب، تأخذ بِلُبِّه الفتيات في كل قَدَمٍ من أقدام الشارع، ملابسهنَّ التي تثير بَدَويَّته، شعورهنَّ: زرقاء، صفراء، حمراء، أرجوانية وبرتقالية... ولا شوكَ فيهنَّ ليؤلم قلبه.


 سأكتب لكِ. قال لها يريد توديعها -

 حسنًا. قالت له متعلِّقةً بعينيه -

"قال مؤكدًا: سأكتب لك كل يوم.
- سأكتب لكِ عن كل شيء، لن تشعري بأنني بعيدٌ عنكِ، ستشعرين بفمي قبلكِ كلَّما قرَأتِ رسائلي. أضاف وهو يريد أن ينهض.

"
- ابقَ قليلًا، أريد أن أحفظ رائحتك، قُبَلَك، ويديك الدافئتين. هلَّا بَقيتَ؟ كانت تريده أن يبقى معها... للأبد.

- نعم، يمكنني أن أبقى ساعة أخرى. قال وهو يحتضنها.

- هل يمكن أن أخبِّئ جسدك بحِضني؟ قالت له وهي تعصره، لا تريد أن ينفكَّ منها.

- نعم يمكنكِ، هكذا. قال لها، أدخل يدَيْه في قميصها، اعتصر نهديها. وقبَّل جيدها، أُذُنَيْها، وكتفها. حوَّل يديه إلى داخل تنُّورتها، نزع عنها قطعة ملابسها الداخلية.

- إذا كان عليَّ أن آخُذَ الصَّبَّارة معي؛ سيتعيَّن عليَّ أن آخذ هذه أيضًا معي.

"ثم يجب أن يكون شيئا آخر مقابل مشاكلي" ، قال بوضوح.


إذ ودَّعها، كان يحمل الصَّبَّارة، وقبلها وصورة عينيها كلؤلؤتَيْن تُرغِّبه في أن يسرقهما من البحر، لم يحاول عدَّ المرات التي التصق شوك الصبارة في أصابعه، عندما حملها أوَّلَ مرة تسلَّلَت شوكة، وعزم على الرحيل إذ حزم حقيبته ووضعها في مكانها المخصَّص تسلَّلَت أخرى. في الطائرة، كان كل ما يفكِّر فيه هو الصَّبَّارة، هل ستعيش داخل الحقيبة بعدما تأخَّر موعد رحلته لعشر ساعات؟. يطير فوق سماء المدن كلها ليرى أشجار النخيل والزيتون والسرول شاحبةً؛ فيأمل أن هناك قَدرًا من الأُكسچين لتستمرَّ صبَّارته الصغيرة في الحياة داخل الحقيبة، "سيتعيَّن عليَّ أن أحملها معي إلى الطائرة في رحلة العودة" قال لنفسه في الطائرة، وفكَّر كم سيكون حجمها بعد مرور نصف عام وهو يحملها بين يديه، يتخيَّل نظرات الجالسين في الكابينة بجانب مقعده وهم يشاهدون سخفه بالنبات الشوكي، "على الأرجح لن يسمحوا لي بحملها معي داخل الطائرة"، قال مُبعِدًا الفكرة.

نسرين أبو بكر – بورتريه ذاتي متعدد الوسائط على خشب 122x81 سم 2014
نسرين أبو بكر، "ذاتية"، وسائط متعددة على خشب، 122x81 سم، 2014.

لم يتمكَّن من فتحِ حقيبته إلا بعد مرور يوم كامل، وصل مدينة الياسمين في صباح اليوم التالي، كان مُتعَبًا. نام حتى منتصف النهار دون أن يستطلع المكان ولا الناس فيه، كان يسمع صوت أمواج البحر تنسحب وتقترب في منامه فاعتقد أنَّه يحلم. حلم بعينَيْها، يغوص في البحر ليُخرِجَهما فيدخل شوك الصبارة في أظافره.

أمضى ثلاثة أشهر في مدينة الياسمين لم يكتب فيها حرفًا، لم يكتب لها ولا عنها ولا لأيِّ شيء آخر، يصحو صباحًا ليتناول إفطاره: بيض، قهوة، زبد، مربى الفراولة وكرواسون. يمضي بقية اليوم صُحبَةَ صديقه الشاعر أورين الذي يصدح بقصائده عاليًا أمام البحر، يضحكان، كانت ضحكاتهما تعلو زقزقة العصافير والطيور التي لم يرها تطير في سماء بلاده. يتمشَّى لوحده في الحديقة، يجلس على مقعد بجانب بركة تتوسَّط الحديقة، يشاهد الضفادع تتقافز إلى البركة خوفًا منه، القطط تمرُّ بجانبه، كان المكان مليئًا بالقطط، زهرة الزنبق تسبح في البركة، صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. أراد أن يقطفها لها، كانت الزهرة تدرك أنه يريد أن يُبعِدَها عن موطنها؛ لذا فقد كانت تسبح بعيدًا عن مناله داخل البِركة، الأزهار حوله، يعطي لكلِّ واحدة منها اسمًا" "سيلين الصفراء"، "سيلين الحمراء"، "سيلين البرتقالية"... كان يُسمِّيها.

الضفادع تعود إلى السطح، إنَّ طفولته تحمل العديد من حكايات الضفادع، الأشباح، الأزهار، الأشواك، الهرب، الموت الذي شاهده يتلوَّن أزرقًا، إلى أن اعتقد أنَّ روايةً عن طفولته ستكون رائعة، كانت سيلين تسمع قصصه عن طفولته وتنظر بانجذاب نحوه فاعتقد أنَّ قصصه ستكون رائعةً لو كتبها فقط من نظرة عينيها عندما تسمعها منه، دون أن يدرك ألَّا أحدَ يأخذ برأي الحبيبة.

يعود لغرفته في نهاية النهار ليجد الصَّبَّارة تنتظره. يسقيها، لم يكن يطيل نظره فيها، كانت كواجب، كطفل مُناط به مسؤولية الاعتناء به، لم يشعر بالحب تجاهها، كل ما شعر به هو وخزها فقط. يقرأ وصايا الكُتَّاب الذين سبقوه فيخلد للنوم، تتكرَّر أيامه فتنسلُّ منه الرغبة في الكتابة يومًا بعد يوم؛ إذ دائمًا ما وجد ما يلهيه عن أن يكتب رسالة واحدة لها.


كان يتجاذب مع أورين الحديث أمام البحر على سفحٍ تلفُّه أزهار صبَّار لا تشبه صبَّارته داخل الحديقة، البدر في أعلى السماء والبحر ينسحب ببطء، يجلسان على حجرَيْن ويتحادثان طيلة الليل عن الحرب، الله، البحر، الكائنات جميعها. سأل أورين:

- يا تُرى ما اسم كل هذه النباتات التي حولنا؟

- هناك كُتُب عِلمية لهذه الأشياء يا صديقي، علماء بحثوا عنها وسجَّلوا أسماءها. كان أورين طبيبًا قبل أن يكون شاعرًا.

- لكن يمكنك أن تسميها ما شئتَ. استدرك كلماته حينما رأى النظرة في وجهه الحائر.

- مَثَلًا؟. سأله.

- حسنًا، هذه الصبارة يمكننا أن نسمِّيها الصبارة ذات الأزهار البرتقالية. قال له.

- والزهرة الزرقاء التي بجانبها؟

- يمكننا أن نسميها الزهرة الزرقاء بجانب الصبارة ذات الأزهار البرتقالية. قال أورين في سخرية.
- هل تعلم، إنني أؤمن بأن النباتات تشعر مثلنا. قال.

نسرين أبو بكر, نساء, صبار, سمك, الهلال الأحمر, 2018, أكريليك على قماش, 160X160 سم معلومات الترخيص
نسرين أبو بكر، "نساء، صبار، سمك"، أكريليك على قماش، 160×160 سم، 2018.

- لهذا أشعر بسخف النباتيِّين؛ يخبرونك أنَّ للحيوانات مشاعر، وعندما تخبرهم ماذا عن النباتات التي يأكلونها؟ يخبرونك أنَّها لا تشعر. أضاف مستذكرًا كُرهه للنباتيين.
- لا أعتقد بأنَّ كل النباتيين كذلك يا صديقي. قال له أورين.
- لكنهم. أراد أن يقول شيئًا، لكنه سكت.
- الحيوانات في الغرب تعيش في ظروف سيئة: حظائر ضيِّقة، وهرمونات إضافية، ورَوَث، واستعباد كامل. قال أورين.

- وما أدراك أنَّ النباتات لا تقاسي الأمر نفسه، أعني... أنها لا تريد أن توضع في حدائق أو أحواض أو مزارع لزرعها وجَنْيها. قال كالمنتصر.
- العِلم لا يؤكِّد ما إذا كانت النباتات لديها مشاعر أم لا، لكنَّ عينيك ببساطة يُمكنهما رؤية الحيوانات تتعذَّب. قال أورين.

عند سفره إلى المدينة العتيقة، حزم حقيبته مرةً أخرى، قرَّر ألَّا يضع الصَّبَّارة في الحقيبة، حملها. ركب التاكسي، كان السائق ينظر للنبتة وهو يضع الحقيبة يحاول أن يتبيَّن السبب الذي يجعل مسافره يحملها صُحبَتَه، قال له وهو ينظر للنبات:

- الهِنْدي ثمرة لذيذة.

- نعم، ولكن هذه صَبَّارة، إنها تختلف عن الهندي. قال جالسًا وواضعًا الصَّبَّارة الصغيرة بين يديه متجنبا شَوكها.

كانت الطريق طويلة، سائق التاكسي المتأفِّف من مسافره ونبتته يحاول أن يخلق حديثًا يُسرِّي عنه طول المسافة بين المدينتَيْن، يشغِّل الراديو ليغيب في أفكاره، المسافر مُحاوِلًا تجنب شَرَك الأحاديث التي يخلقها التاكسي والتي ستَخِزُه.

عند وصوله، تعيَّن عليه أن يقطع مسافة كيلومتر من المحطَّة إلى البيت الذي سيحلُّ عليه ضيفًا في أَزِقَّة المدينة العتيقة الضَّيِّقة وأسواقها، كان يجرُّ حقيبته الثقيلة بِيَدٍ، ويحمل الحوض بِيَدٍ أخرى، العَرَقُ يتصبَّب منه، والتعب يُنهِك كاهله، يسرح.


- إنَّ اعتناءكَ بالصَّبَّارة يعني أنَّكَ مُستعدٌّ للاعتناء بطفلنا. قالت سيلين.
- هذا يعني أنَّ ابنيْنا الأوَّلَيْن سيموتان. قال.
- هاهاهاهاهاهاهاها.
- لا أعرف من أين تأتين برموزك وتعريفاتك. قال لها.
- من هنا. قالت له وهي تضع إصبعها على رأسها.
- بل أعتقد من هنا. قال لها وهو يُمرِّر إصبعه هناك في المكان الذي لا يجدر كتابته.


يسقط منه الحوض، كانت الصَّبَّارة مُلقاةً على الأرض، جذورها قد غادرت تُربَته التي تُبقيها حيَّةً، التراب موزَّع، المارَّة يمرُّون بجانبه، هو واقف يشاهد نباته قد أفرغ ما فيه، أحسَّ بأنه ليس أهلًا كفاية للاعتناء به، ثم مَن يصطحب طفله معه في سفره لوحده؟ سأل نفسه، كانت النبتة تستجديه أن يعيدها لحوضها، لكنه شعر برغبته في التخلِّي عنها. وقف داخل السوق الضيِّقة لدقيقةٍ حتى استجمع نفسه وأعاد الصَّبَّارة إلى حوضها، يضيف بعض ما تَمكَّن من جمعه من التراب، ثم حملها وتابع طريقه نحو مسكنه الجديد.


"لقد تمت تسويتها. أنت تأخذها معك».

"بصرف النظر عن كل شيء ، لماذا تصر على أن أفعل ذلك؟"

"إنها مخبري. أي شيء تفعله ، ستخبرني ".

قال: "لكن النباتات لا تستطيع الكلام". صدمه نفاق كلماته. ألم يتعارض هذا مع نظريته حول النباتات ككائنات واعية؟

أجابت: "قد لا تكون قادرة على التحدث بلغتنا ، لكن لا يزال بإمكانها وخزك كلما علمت أنك ضللت الطريق".
التفتت إلى النبات بعد ذلك ، وأمسكت القدر بكلتا يديها ، وانحنت لمخاطبته: "وعدني أنك ستزرع مساميرك فيه عندما يفكر في خيانتي."

"أعدك" ، أجاب بشكل هزلي وهو يضع صوتا اعتقد أن النبات قد يصنعه. ضحك كلاهما بعد ذلك ، على الرغم من أن الحادث تركه بشعور غير مستقر.


جلس في مقهى، طلب كوب قهوة، كانت الشمس تكاد أن تغرب، المارة يَقِلُّ عددهم في كل دقيقة، ورُوَّاد المقهى كذلك، أمضى ثلاث ساعات في المقهى وحيدًا يُدخِّن سجائره ويطلب كوب القهوة تلو الآخر، تَسمَّر جسده داخل الكرسي، لم يتبقَّ في المقهى إلا القليل من الرُّوَّاد: رَجُل وفتاتان يتناولون العشاء، قِطَّة تَشحَذ عشاءها، بائعة ورود بدينة تحاول بيع الورد بالغصب للجالسين، شباب ليبيون يتحدَّثون عن الحرب، "حتى هنا" قال لنفسه، فتاة وحيدة تجلس لتناول الآيس كريم، وهو. رغب أن يجلس بجانبها، أن يحادثها ويشاهدها تتناول الآيس كريم.


قالت: "حلمت أنني وحدي عندما أنجبت طفلة". "أفترض أنك سافرت ، كما تفعل دائما. شعرت وكأنها شيء غريب ، غريب بالنسبة لي ، لذلك وجدت صعوبة بالغة في الارتباط بها ، حتى للنظر إليها. لم أستطع حتى أن أخبرك بلون عينيها وشعرها وبشرتها. لم أشعر بالحنان ولا الحب تجاهها. شعرت الرضاعة الطبيعية بأنها واجب وليس عملا من أعمال التفاني الأمومي ".

"لماذا؟" سأل.

أجابت: "أنا لا أفهم ذلك". "ربما ... إذا فقط ... لقد سمحت لنفسي بالنظر في عينيها ، كنت سأجد بعض الإجابة ".


أمضى أمسيته يراقب المارة، يلاحظ اضمحلالهم في الممشى. كان يطيل النظر في الفتيات والنساء، ينصت لما حوله ويلاحظ لأول مرة أن غناء العصافير اختفى، يتذكَّر غناء تلك التي أراد أن يلقي نظرةً عليها، بَدَت من غنائها أنها امرأة ثلاثينية، "زوجةٌ، رَجُلُها قد سافر، تعيش مع طفلتها الصغيرة، تُربِّيها وحدها" فكَّر، قطَعَت سَرحانَه بائعةُ الورد، حاوَلَت اغتصاب ماله بالقوة، تريد بيعه النَّوَّار، كانت تأمره بأن يشتري منها:

- هيَّا خُذْ، اشتَرِها.
- شكرًا، لا أريد. قال وفكَّر في الصَّبَّارة، كان قد قطع وعدًا ألَّا ينجذب إلى أيِّ نباتٍ آخر منذ أن غادر مدينة الياسمين.
- هيا، ستبدو جميلةً عليكَ. قالت آمِرةً وهي تحاول وضع تصميم زهراتها على أذنيه.
- قلتُ شكرًا، اللعنة.
- حسنًا، إنَّكَ لا تستحق. قالت له المرأة البدينة وانصرفت.

شعر بالانزعاج، حمل جسده وعاد إلى غرفته، ولج الغرفة وسمع المرأة تغنِّي من مطبخها المقابل "لاموني اللي غاروا منِّي... قالولي إيش عاچبك فيها؟"، كان جالسًا على كرسيِّه بجانب النافذة التي لا يستطيع فتحها يشاهد الصَّبَّارة مُتجلِّيةً على الطاولة، "چاوَبْت اللي چِهلوا فنِّي... خوذوا عيني شوفوا بيها"، استمرَّت في غنائها وغسل الأواني. سمع نداء طفلتها:

تحرك نحو الطاولة وأخذ مقعدا مقابل الصبار ، الذي بدا له مذهولا بالصوت الشجي بقدر ما كان. جلسوا واستمعوا إلى المرأة وهي تغني من قلبها وهي تغسل الأطباق. يبدو أنهم سيقضون الليل كله بهذه الطريقة ، حتى نداء ماما ، قاطعت ماما تدفق المرأة. ما هذا؟ سألت طفلتها الصغيرة. أنا جائع ، جاء الرد. حسنا ، سأصلح لك شيئا تأكله ، أجابت. 

تحوَّلَت نبرتها من الدلال إلى الجفاف، شعر بوخزٍ في صدره، نهض ليراقب ما تفعله، كان يمكنه من بين فتحات البرسيانة أن يتبيَّن خيالها داخل المطبخ وهي تعود للغناء وغسل الأواني، يحاول أن ينال رؤية جيِّدة لوجهها، شعر بأنَّ جسدها يشبه حبيبته، كانت عيناه تغلبانه إلى النوم، ترك الكرسي وانهار على السرير، نَسِيَ أمر الكتابة، راقب الصَّبَّارة قبل أن يخلد لنومه من سريره، كان شوكها ينسلُّ إلى قلبه، وهو يغالب النعاس تذكَّر آخر ما قاله له أورين:

- يمكنك أن ترى كل النساء يشبهن حبيبتك إن كنت تحبها.
- لكن النساء في اختلاف. قال.

- نعم، تخيَّل امرأةً الآن... مَن تشبه؟
- إنها تشبه المرأة التي أُحِبُّ، ولكن هذا لا يدلُّ على شيء، هناك أكثر من 1500 نوع من الصَّبَّار، والتَّشابُه بينها لا يعني أنها هي ذاتها.

خلدَ إلى النوم تلك الليلة، كان عازِمًا على أن يلقي بالصَّبَّارة إلى القمامة في صباح اليوم التالي.





 

محمد النعاس كاتب ليبي وصحفي مستقل وروائي يهتم بالقصص الليبية البديلة. يكتب عن أدوار الجنسين وحرية التعبير والأعراف الاجتماعية والسينما وغيرها من جوانب الحياة المهمشة في ليبيا. فازت روايته "خبز على مائدة الخال ميلاد" بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2022.

رنا عصفور هي مديرة تحرير مجلة "المركز"، وكاتبة مستقلة وناقدة كتب ومترجمة. ظهرت أعمالها في منشورات مثل مجلة مدام وصحيفة الجارديان في المملكة المتحدة وذا ناشيونال / الإمارات العربية المتحدة. وهي تترأس مجموعة الكتب باللغة الإنجليزية في مجلة المركز، التي تجتمع عبر الإنترنت في يوم الأحد الأخير من كل شهر. إنها تغرد @bookfabulous.

مدينة الياسمينصحفيروائي ليبيكاتب قصة حب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *