"ملوث" – قصة قصيرة لمي حداد

28 أغسطس، 2023
تكشف محادثة عن الاختلافات بين الأجيال؛ جيل أقدم يتمسك بالمعتقدات التقليدية، وآخر أصغر سنًا، يتشكك في العادات القديمة وقدرتها على حل الأزمة الملحة في العصر الحديث.

 

مي حداد

 

امتدت الليلة الباردة لفترة أطول مما يمكن لأي شخص في الكوخ الوحيد أن يتذكرها. كانت النوافذ مثبتة بكل ما يمكن للعائلة الحصول عليه، تم تثبيت الأواني والمقالي المتاحة تحت كل ثقب وشق في السقف المؤقت. أولئك الذين اعتقدوا أنه من الأفضل النوم خلال المشكلة بأكملها، تراجعوا مبكرًا، على أمل أن تخفف الراحةُ عن أذهانهم، لكنهم وجدوا القليل من الراحة على أسرة القش والوسائد المصنوعة من جلد الحيوانات التي يتعين عليهم الآن التعود عليها.

ترك هذا أم كاملة وحفيدتها، نهلة، وحدهما في الصالون. الأولى تطنطن الترانيم التي يمكن أن تتذكرها من طفولة شعرت أنها مرت منذ فترة طويلة، والأخيرة تعبث متململة بأداة وجدتها أثناء البحث الأخير مع أطفال العائلات الأخرى الذين تقطعت بهم السبل في تلك القرية. لم يكن لدى أي منهما الكثير لتقوله للأخرى في الساعات التي مرت في عزلة مشتركة، وهكذا كانتا ستستمران في الصمت مع اشتداد العاصفة لو لم تتعب نهلة أخيرًا من اللعب بالتروس المكسورة التي بدت ذات يوم أنها تأسرها. بدلًا من ذلك، سارت إلى جدتها الجالسة على وسادة من الملابس القديمة بجانب النار التي تموت في الموقد، ومن دون أن تنبس ببنت شفة، استلقت في حضنها كما اعتادت عندما كانت أصغر سنًا. الآن تحدق من النافذة التي كانت تواجههما، بدأت نهلة في التفكير في العالم من حولها...

"تيتا"، قالت نهلة، منهية الصمت الذي تغلب عليهما في تلك الليلة. "كنت أتساءل..."

"نعم، حبيبتي"، أجابت أم كاملة وهي تعبث برفق في شعرها. "ما سؤالك؟"

"إذا كان عالمنا معلقًا في الفضاء..."

رفعت أم كاملة حاجبها. "نعم؟"

"...ما الذي يمنعه من السقوط في الهاوية؟"

"أوه، يا إلهي"، ضحكت أم كاملة، مدت ذراعيها إلى السماء. "ما الذي يمنعه؟ ملاك بالطبع".

اتسعت عينا نهلة من الإثارة: "ملاك؟!"

"نعم، ملاك يحمل العالم بأجنحته الرائعة". نشرت أم كاملة ذراعيها. "الأجنحة التي تمتد على الأرض من القطب إلى القطب!"

نهضت نهلة من حضن جدتها.

"ولكن على ماذا يقف هذا الملاك؟" سألت.

"هذا الملاك يقف على لوح"، أجابت أم كاملة وهي تحوم بيديها في الهواء أفقيًا. "لوح من أجود الأحجار الكريمة".

"لوح من الأحجار الكريمة؟" لم تكن نهلة متأكدة من هذا. بدا الملاك طبيعيًا بما فيه الكفاية، منطقيًا حتى مقارنة بما قيل لها عن الملائكة من قبل، لكن الأحجار الملونة التي غالبًا ما كانت تقذفها جانبًا أثناء بحثها لم تحمل مثل هذا اللمعان في ذهنها. "هل هناك سبب لوقوفها على الأحجار الكريمة بالذات يا تيتا؟ ألن يكون الفولاذ أكثر ثباتًا؟"

"ليس لي أن أجيب عن هذا السؤال". ابتسمت أم كاملة. ولكن، لمرة واحدة، بدت مجبرة على الكلام ومتوترة حتى. "ألا تريدين أن تعرفي ما الذي يدعم اللوح؟"

أومأت نهلة، التي كانت لا تزال تريد إجابة عن سؤالها السابق، برأسها. "ما الذي يدعم اللوح؟"

حركت أم كاملة يدها بحيث لامس ظهرها شفتها، وبدت أصابعها بارزة منها وكأنها زوائد غريبة.

"كيوثاء*، بالطبع".

"كيو ثاء؟" حاولت نهلة نطق الاسم، لكنه بدا غريبًا على لسانها، كما لو انه أتى من ثقافة أخرى لا تستطيع فهمها. "كيوثاء". تمتمت مرة أخرى، منتبهة إلى حيرة حفيدتها، تظاهرت أم كاملة بالصدمة.

"أنت لا تعرفين كيوثاء؟!" صرخت، ثم انحنت وأخذت ترسًا من آلة صدئة وألقت به إلى النار. "الآن، أين كنا؟ أنت لا تعرفين كيوثاء!"

"لا يا تيتا". هزت نهلة رأسها بنظرة إحراج. "ما هذا؟"

"ابنتي". كانت الحماسة الآن واضحة في صوت المرأة العجوز. "كيوثاء هو الوحش الكوني، له أربعون ألف قرن ومثلها أنوف وآذان وأفواه وألسنة وقوائم!"

"أربعون ألف قرن ومثلها أنوف وآذان وأفواه وألسنة وقوائم؟" اهتز صوت نهلة من عدم الارتياح. "كم يبلغ طوله يا تيتا؟"

رفعت أم كاملة يدها بقدر ما تستطيع.

"يُقال إن قرون كيوثاء تصل إلى عرش الله نفسه، وتتشابك معه مثل تاج من الأشواك". ثم رفرفت بذراعيها، واندمجت متعجبة مما تحكي عنه. "أنفه في بحارنا، وفتحتا الأنف مثبتتان على ثقوب في لوح الأحجار الكريمة، ما يمكنه من التنفس، وعندما يتنفس مرة واحدة في اليوم ترتفع البحار وتنحسر!"

ثم قوست أم كاملة ظهرها، مسبحة الله بكل جلاله، حيث بدا صوت الرعد في الخارج فجأة أعلى بكثير بالنسة لنهلة. كانت الأفكار الغريبة تدور في عقلها الصغير، كانت الصورة التي استحضرتها جامحة لدرجة أنها شعرت بالاهتزاز من الجنون المطلق في كل الحكاية. للاعتقاد بأن العالم من حولها يمكن أن يمتلئ بمثل هذه... المعجزة...

"هل يحملنا كيوثاء وحده؟" تجرأت أخيرًا على السؤال، وفضولها يسيطر عليها مرة أخرى.

 


جزر بهموت، أو ملح الأرض



"لا
يا حبيبيتي ، يحمل كيوثاء بهموت، وقبل أن تسألي..." ضحكت أم كاملة مرة أخرى وعينها على العاصفة في الخارج. "...بهموت نفسه معلق في مياه لا نهاية لها، وبهذا فهي مستقرة".

"ولكن إذا كان كيوثاء كبيرًا جدًا، فكيف يمكن لبهموت حمله؟"

قرصت أم كاملة أنف نهلة.

"إن بحار العالم، الموضوعة في إحدى خياشيم ذلك الحوت، بمثابة كومة من الرمال في الصحراء. هكذا يمكن أن يحمل على ظهره وحشًا وملاكًا وبقية الكون، بما في ذلك الجحم الستة، والأرضين، والسماوات".

"لماذا..." كانت نهلة في حيرة من أمرها. "لماذا خلق الله كل هذا؟" 

"نهلة، قبل هذا، دارت الأرض وتحركت بلا نظام أو سبب"، قالت أم كاملة، شاكرة الله بصمت، ثم حدقت في حفيدتها، التي بدت مذهولة من كل ما يحدث خارج تلك النوافذ. "مثل كل مخلوقاته، هذه المخلوقات موهوبة لنا من قبل الله لتجلب لنا السلام".

"سلام؟" نظرت نهلة إلى جدتها بضجر. "كيف؟"

"إنها لا تعمل فحسب على استقرار عالمنا، ولكن عندما تروي عطشها ببحارنا، فإنها بذلك تعيق ارتفاع المد وتمنع عالمنا من الغرق في مياهه".

"يا إلهي..." همست نهلة لنفسها، لأنها لم تستطِع أن تقول شيئًا آخر.

"الله أكبر". أومأت أم كاملة برأسها مؤكدة.

"لكننا لسنا كذلك"، تمتمت نهلة.

"نهلة..." أمسكت أم كاملة بيد حفيدتها، ولاحظت لأول مرة كم كانت صغيرة وخشنة. "أوه، ما الذي حدث للعالم".

ابتسمت نهلة قدر استطاعتها. "هذا لا يمكن أن يكون كل شيء، أليس كذلك يا تيتا؟"

رفعت أم كاملة حاجبها مرة أخرى. "ماذا تقصدين يا حبيبتي؟"

"هناك دائمًا المزيد..." تمتمت نهلة لنفسها. "هل هناك أي شيء تحت حوت بهموت؟"

"أوه، نعم يا عزيزتي". أجبرت المرأة العجوز نفسها على ابتسامة خبيثة. "ولكن هل تريدين حقًا أن تعرفي؟"

صمتت نهلة متسائلة لأول مرة في حياتها عما إذا كان من الأفضل عدم القيام بذلك. لكن جدتها استمرت، على أمل تخفيف الحالة المزاجية.

"تحت بهموت يوجد الثعبان العظيم فلك، المقيم في الدائرة السابعة من الجحيم". حركت أم كاملة يدها بشكل هزلي نحو وجه نهلة وشبكته أمامها كأنها فك حيوان مفترس أمام فريسته. "فلك عظيم جدًا لدرجة أنه يُقال إنه يمكن أن يلتهم عالمنا كله".

"تقصدين... يمكن لعالمنا أن ينتهي؟"

داعبت أم كاملة خد حفيدتها وابتسمت.

"نعم، كل الأشياء يجب أن تنتهي. لكن لا تقلقي يا طفلتي. هذا لن يحدث قريبًا، أؤكد لك أن فلك لن يكون أبدًا ما يأكلنا".

ثم انتقلت المرأة العجوز لاحتضان حفيدتها... فقط لترتد عندما سألتها نهلة بأخفت صوت: "لماذا أنت متأكدة من ذلك؟"

"لماذا؟ لأنه يخاف الله سبحانه وتعالى، العليم الرحيم يمنعه من ذلك، بالطبع".

أخذت نهلة نفسًا عميقًا، في محاولة لتهدئة نفسها قبل أن تضيف جدتها: "وكما تعلمين، سيكون الله معنا دائمًا".

"تيتا..." وجدت نهلة فجأة صعوبة في الكلام. "كيف تعرفين كل هذا؟"

"طفلتي، هذه هي القصص التي انتقلت إلينا منذ البداية"، استرجعت أم كاملة الأغنية التي سمعتها ذات مرة، فقط لتتوقف للحظة وتتحسر: "وهذه القصص ستكون معنا حتى النهاية..."

مرت لحظة صمت، لحظة بدت وكأنها أبدية بالنسبة إلى نهلة الصغيرة، التي تجد الآن صعوبة في التنفس.

"لكن يا تيتا"، كسرت أخيرًا هذا الصمت، واتسعت عيناها من الخوف وهي تنظر إلى العاصفة المستعرة أمام نوافذها، "إذا كان كيوثاء وبهموت يتغذيان بمياه الأرض..."

"نعم؟"

"ماذا يحدث الآن بعد أن لوثنا الماء بآلاتنا؟"

أخذت أم كاملة نفسًا عميقًا - كانت تأمل ألا ينتهي - لتجد نفسها متمسكة بحفيدتها بكل قوتها. 

"تيتا؟" سألت نهلة مرة أخرى عندما خمدت النار في الموقد أخيرًا. "ماذا سيحدث لنا؟"

لكن كان كل ما أمكنها أن تقوله: "من الأفضل عدم التفكير في الأمر يا حبي..."

 

* بهموت وكيوثاء من المخلوقات الأسطورية الموصوفة في كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، للعالم الكوني والجغرافي زكريا القزويني، المولود في قزوين - إيران، العام 1203 م.

مي حداد كاتبة خيال تأملي عربية أمريكية، تتناول أعمالها التجربة العربية عبر الزمان والمكان، وتتطرق إلى مواضيع الحنين والعزلة والذاكرة والشوق. بداية من هذا النص المنشور، يمكنك العثور على عملها في مجلة المركز ومجلة Nightmare.

باهاموت خيال الأجيالكويوثاالخيال التأملي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *