غيابة الحب – قصة قصيرة لهشام النجار

في تفسير حديث لإيروس وثاناتوس، يحكي الراوي كيف يمكن أن يؤدي الحب الفاشل إلى عواقب غير متوقعة.

 

هشام النجار

ترجم النسخة الإنجليزية عصام محمد الجاسم

 

للوهلة الأولى عندما رأيته أول مرة، عرفت أن قصة ما ستجمعنا.

أحسست أن شيئًا ما سيحدث بيننا، ولكنى لم أتخيل هذه الأحداث والتفاصيل، ولم أتوقع هذه النهاية.

لا أدرى لماذا أكتب اليوم بعد كل هذه السنين عنه بالذات – أعنى يوسف –
لم أفكر يومًا في الكتابة. لم أقرأ يومًا كتابًا أو حتى جريدة. ألتقط الأخبار سريعًا من نشرات التليفزيون. ولا أهتم كثيرًا ببرامج الثرثرة والتحليلات والمحاورات. كانت كل اهتماماتي في شكلي ومظهري ومكياجي وعطوري. حتى علاقاتي بالآخرين وخاصة الزملاء من الرجال، لم أكن أهتم بها كثيرًا. لم أدون حرفًا منها. لم أكن حتى أميل الى تذكرها والتفكير فيها. فكلها متشابهة حتى أنني كنت أتوقع وأضع نهايات لها قبل أن تبدأ.

أنظر الى المرآة اليوم. أتمنى وأنا أطل على تجاعيدي وشعرى الأبيض الفضي أن أعود الى ما كنت عليه قبل خمسين سنة. لا، لأعيد سيناريو حياتي مرة ثانية. ولكن لأعيش حياة مختلفة، لأكون انسانة أخرى غير التي كنتها.

لماذا أكتب عن يوسف اليوم؟

ربما لأنه أصابني بما يشبه الصدمة. أو لأنه انتشلني من واقعي وغير مسار حياتي. ربما لأنه أفاقني من غيبوبة الأنا والغرور، وفاجأني بالحقيقة، وألجأني الى الحق، ربما لأنه أسكت داخلي عواء النهم والطموح، وأوقف قطاري الجامح الذي لم أكن أدرى الى أين يسير بي مسرعا. ربما لأنه غير نظرتي للأشخاص والأشياء. أو لأنه خلصني من عدو لم أصدق يومًا ولم أتوقع أن يكون عدوًا لي وهو نفسي.

لهذه الأسباب وغيرها الكثير أكتب عن يوسف اليوم. يوسف؟ ومن غيره؟

نعم إنه يوسف الذي ترك في أثرًا لا يمحوه الزمن. وسيظل في ذاكرتي وقلبي وروحي ووجداني الى أن أفقد تلك الذاكرة ويتوقف ذلك القلب وتزهق تلك الروح ويموت ذلك الوجدان.

 يوسف كان جميلًا. هو أوسم من رأيت من الرجال. قابلته أول مرة في مكتب المدير عندما كان يقدم أوراق تعيينه. وعندما وقعت عيناي عليه، قلت في نفسي. هذا هو، لقد وجدت من أبحث عنه. هذا فعلًا هو الجدير بالاهتمام.

كانت كل محاولات الزملاء والعملاء والرؤساء معي مصيرها الفشل. ولكن لا مانع من أن أطيب خاطر هذا بكلمة وذاك بابتسامة أو أمنى ذلك بلقاء. كنت جميلة جدًا. ولا زلت رغم بلوغي السبعين، غير أن نظرتي للجمال تغيرت بفعل يوسف. كان الجميع يخطب ودي ويتمنى نظرة منى.

سألته عن اسمه، قال في خجل: يوسف.

سألته عن عنوانه.

قال في وجل: أقطن حيًا شعبيًا مظلمًا مليئًا بالثعالب والثعابين.

ضحكت. سألته، أين كنت، أين درست، من أين أتيت، لماذا لم أقابلك من سنين؟

يا الله! عام بأكمله، وهذا البارد يأبى ويتمنع، ويرد على كلامي باقتضاب، وينظر الى شذرًا، ويعاملني كأحد زملائه الرجال.
يا الله! ما الذي يجعل رجلًا مثله يرفض امرأة مثلي، أي قوة أوتيها هذا الرجل تمكنه من الإعراض عني؟

كدت أجن وأنا أفقد كبريائي شيئًا فشيئًا أمام هذا المخلوق. آثرت الموت على أن يتمكن من الإفلات منى.

قلت له ذات مرة، من تظن نفسك يا هذا، هل أنت يوسف الصديق هذا الزمان؟

نظر إليَّ بعينين جامدتين ووجه بارد قد جف دمه وسرعان ما اغرورقت هاتان العينان بالدموع. ثم انتفض واقفًا، وخرج من المكتب مسرعًا.

ورأيته بعد قليل يغادر الشركة. تابعته من النافذة، فوجدته يعدو في الشارع بين السيارات كأن أحدًا يلاحقه.

غلبني كبريائي.

لم أفكر ساعتها في اكتشاف هذا الرجل الغامض ومعرفة ما وراءه. لم أكلف نفسي بالبحث عن سره الذي يخبئه. كل ما أردته يومها هو هزيمته وكسره والثأر لكرامتي.

استخدمت نفوذي الأنثوي لدى الزملاء. استغللت سطوتي الطاغية لدى مدير الشركة. ألبت ضده حتى عامل النظافة والساعي الذي يصنع لنا القهوة والشاي. يومان قضاهما بين السخرية والتعليقات الجارحة والتكليفات الشاقة المذلة ثم اختفى. اختفى كأن لم يكن.

انتظرته بمشاعر متناقضة، بين لهفة المتيمة ورغبة التشفي والانتقام.
لكنه لم يعد.

مرت الأيام كأنها سنوات. صرت لا أفكر الا في يوسف. لم تعد لدى رغبة في أي شيء. فقدت شهيتي للحياة.

بحثت عن عنوانه في أوراق تعيينه. ذهبت الى منزله، لم أجد أحدًا. ظللت أتردد على الشقة المغلقة أيامًا دون فائدة. استجمعت قواي واستحضرت شجاعتي واستدعيت جرأتي القديمة، وطرقت الباب على أحد جيرانه.

سألته عن يوسف. قالها، كأنه يقذف بها في وجهي ويصدم بها كياني: البقاء لله.

سألته مذهولة. كيف؟

أخبرني أنه كان جاره وصديقه المقرب. وحكى لي القصة من البداية الى النهاية.

قص على كيف قدم يوسف من القرية هاربًا من إخوته الذين حاولوا قتله بسبب قطعة الأرض التي كتبتها أمه باسمه قبيل وفاتها. حكى لي عن زوجته التي ماتت مع جنينها أثناء الولادة.

قص لي معاناته في الشركة التي التحق بها للعمل. وعن تلك الزميلة الجميلة التي كان ينوي الزواج بها بعد أن تنقضي أحزانه، وتبرد نيران فقده لزوجته وولده.

لا أستطيع أن أخفى توتري اليوم عندما يسألني أبني الأكبر يوسف، لماذا تقومين الليل يا أمي بسورة يوسف بالذات؟ لماذا في كل مرة أسمع نحيبك وبكاءك وأنت ترددين قول الله من السورة "اقتلوا يوسف"؟


 

هشام النجار كاتب قصة قصيرة وصحفي مصري. تنشر كتاباته بانتظام في صحيفة الأهرام المصرية اليومية، ومجلة العرب التي تتخذ من لندن مقرًا لها. نشر العديد من الكتب والدراسات حول مواضيع سياسية واجتماعية ودينية في الشرق الأوسط. تلقت مجموعته القصصية الكراج إشادة من النقاد.

عصام محمد الجاسم كاتب ومترجم سعودي مقيم في الجبيل، المملكة العربية السعودية. قام بتدريس اللغة الإنجليزية لسنوات عديدة في مدارس الهيئة الملكية في الجبيل. حصل السيد الجاسم على درجة البكالوريوس في اللغات الأجنبية والتعليم من جامعة الملك فيصل بالهفوف. ظهرت كتاباته وترجماته في مجموعة متنوعة من المجلات الأدبية المطبوعة والإلكترونية باللغتين العربية والإنجليزية. قام بتجميع وترجمة مختارات من الخيال السريع نشرت مؤخرا Furtive Glimpses: Flash Fiction from the Arab World (2022).

قصة عربيةقصيرة عائلاتالصراع تحبالعمل

4 تعليقات

  1. شعرت بكل ألم مفجع وتمنيت أن أجعل الأمور أفضل.
    لقد كانت قراءة جديرة بالاهتمام.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *