في روايته "أصدقائي"، يعيد المؤلف النظر إلى بعض المخاوف التي كتب عنها في أعماله السابقة، وهي الديكتاتورية وأدواتها القمعية العنيفة، وقسوة المنفى.
أصدقائي لهشام مطر
Random House , 2023
الترقيم الدولي 9780812994841
أديب رحال
"وربما هذا هو المسار الطبيعي، عندما تصل الصداقة إلى نهاية لا يمكن تفسيرها، أو تتضاءل، أو تذوب ببساطة إلى لا شيء، فإن التغيير الذي نشهده في تلك اللحظة يبدو حتميًا". هكذا يقول راوي رواية هشام مطر الأخيرة " أصدقائي" في السطور الأولى. الموضوع المتكرر في الحكاية هو الفكرة الحزينة القائلة بأنه على الرغم من أننا قد نحاول إقناع أنفسنا بخلاف ذلك، إلا أننا إلى حد ما سنظل غرباء عن أنفسنا وعن أعز ما لدينا إلى الأبد. خالد عبد الهادي، الراوي، متضارب بشكل خاص مع هذا الواقع. إن ظروف حياته، التي شكلها إلى حد كبير حكم القذافي في ليبيا مسقط رأسه، لا تؤدي إلا إلى تفاقم اضطرابه الداخلي. على الرغم من أن محتوى "أصدقائي" السياسي ثقيل، إلا أن نطاق الرواية يتعدى بكثير مجرد المحتوى السياسي. يتم تناول الجانب غير المستقر وحتى المتناقض في كثير من الأحيان من الذات الداخلية للفرد في سياق الديكتاتورية والثورة، بالإضافة إلى دراسة مسألة كيف يمكن أن يؤثر ذلك على عملية صنع القرار عن قرب وبنتيجة مجزية في النهاية.
تمتد الرواية على مدى ثلاثة عقود تقريبًا، من منتصف ثمانينيات القرن العشرين إلى السنوات التي أعقبت سقوط القذافي في العام 2011. وهي تجمع بين الاضطرابات السياسية في ليبيا وتشكيل نفسية الراوي في لندن، التي انتقل إليها خالد في العام 1984. خطة خالد الأصلية هي قضاء يوم واحد فقط في لندن. سيحضر مظاهرة مع أحد أصدقائه في السفارة الليبية قبل أن يعود إلى اسكتلندا، التي انتقل إليها قبل سبعة أشهر من ليبيا كمنفى. ومع ذلك، تأخذ الأمور منعطفًا غير متوقع لينتهي به الأمر بالبقاء في لندن إلى الأبد. هناك يقيم خالد صداقة راسخة مع ليبيين اثنين، مصطفى وحسام، بالإضافة إلى رنا، وهي طالبة لبنانية في كليته. تلعب رنا دورًا أقل أهمية في حياته من دوري صديقيه الآخرين، ولكنه دور مهم مع ذلك، وهي تعمل عن غير قصد كمحفز للقاء حسام.
بمرور السنين، يتم اختبار الصداقة بين خالد ومصطفى وحسام. في كثير من الأحيان، يرجع هذا إلى الأحداث المتعلقة بليبيا. تتحول تلك المظاهرة في السفارة الليبية إلى مظاهرة عنيفة بشكل فظيع، ما أدى إلى إصابة خالد بجروح خطيرة. وبصرف النظر عن الصدمة النفسية التي لم يشف منها، تبقى الندوب الجسدية، كما تبقى صعوبة تفسيرها:
كان لديَّ بعض العشيقات. لم يستمر أي منهن طويلًا. عندما نصل أخيرًا إلى السرير وقبل أن تُخلع الملابس، أتأكد من إطفاء المصباح. إذا استقرت يدها على الندبة، أو العلامة في ظهري، وطُرحت الأسئلة، أردد الكذبة التي اقترحتها رنا عندما كنا في البحر معًا: "حادث سيارة عندما كنت طفلًا".
هناك أيضًا فكرة باقية غير معلنة مفادها أنه لو لم يقترح مصطفى أن يحضروا المظاهرة عند السفارة، لما حدث أي من هذا، وبالتالي فهو يتحمل اللوم إلى حد ما. في طريقهما إلى المظاهرة، يواجه الصديقان صعوبة في تحديد مكان السفارة، كاد خالد يتمنى لو فشلا في الوصول في الوقت المحدد: "أصبحت متفائلًا. ربما لن نجدها أبدًا، أو سنصل إلى هناك بعد وقوعها. تخيلتنا بعد سنوات نروي كيف كانت نوايانا سليمة، ولكن بسبب معرفتنا الضعيفة بالمدينة، ضللنا طريقنا". غني عن القول، أنهما يصلان في النهاية، وما يحدث يغير حياتهما بشكل مهم وإلى الأبد.
مع اندلاع الثورة في ليبيا بعد سنوات، في العام 2011، يأتي وقت الحساب بالنسبة إلى الأصدقاء الثلاثة، عند هذه النقطة تتباعد مساراتهم. قرر مصطفى وحسام الانضمام إلى الثورة والمساعدة على الإطاحة بالقذافي. لكن خالد اختار البقاء في لندن. بالنسبة له، وعلى الرغم مما حدث في تلك المظاهرة المشؤومة، تمكن بمعجزة لاحقًا من صياغة حياة تشبه الحياة الطبيعية، بما في ذلك علاقة حب مع هانا، وهي فتاة ذات روح طيبة التقى بها أثناء دراسة الشعر في الجامعة. علاوة على ذلك، يبدو أن لدى خالد شعور عميق بأنه إذا شارك في المذبحة التي تتكشف في بلده، فإن ذلك سيضر به إلى الأبد: "أخشى أنني إذا غادرت فلن تكون لديَّ الإرادة للعودة، وبعد ذلك سأضيع مرة أخرى، كنت قد ضعت من قبل، وسأفعل أي شيء حتى لا أضيع مرة أخرى و [... ] لا أعرف ما إذا كان هذا جبنًا أم شجاعة ولا يهمني أن أعرف، قررت من دون أن أقرر".
هل يمكن لوم خالد على تردده في التخلي عن هدوئه النسبي، وترك حياته الهادئة اللطيفة وراءه سعيًا وراء المثل الأعلى؟ صديقه مصطفى يلمح بنفس القدر. يقول لخالد: "أنا لا أفهمك، أنت تمضي فحسب وكأن شيئًا لم يحدث". ثم يضيف: "بلدك بحاجة إليك". لكن حسام يعتقد خلاف ذلك. يبدو أن لديه فهمًا أكثر عمقًا لنفسية خالد، ولإنسانيته المتحمسة ومقته لإراقة الدماء. إنه يفهم أن هناك أشخاص لا يتحملون العنف، وأن خالد واحد منهم. "إن بقيت في الحرب لفترة كافية، فإنها تقسي قلبك"، يعترف حسام.
كما هو الحال مع كل روايات مطر، وبمعرفة ما نعرفه عن حياة المؤلف، يبدو أن هذه الرواية تتضمن عناصر من سيرته الذاتية. يجدر إلقاء نظرة إلى أعماله السابقة، حيث يجد المرء بعض القواسم المشتركة عبرها. تركز روايته الأولى "بلد الرجال" على تأثير دكتاتورية القذافي الوحشية على الراوي سليمان البالغ من العمر تسع سنوات وعائلته وأصدقائه، والشعور الشديد والمزمن بعدم الارتياح الذي يحمله العيش في مناخ يتخلله تأثير عدم الثقة وجنون العظمة والخوف على عامة سكان البلاد. يمكن لأي شخص أن يكون مخبرًا، يفسد جو الإرهاب الناتج عن ذلك المجتمع. في "تشريح الاختفاء"، الموضوع الرئيسي هو اختطاف والد الراوي الشاب نوري، بالتوازي مع تجربة المؤلف الخاصة. وفي كلتا الحالتين، لا يزال مصير الأب مجهولًا. في الحكاية، سُئل نوري عما يعتقد أنه حدث لوالده. يجيب: "لم أكن أعرف كيف أجيب. الحقيقة هي أنني لا أعتقد أن الأب قد مات. لكنني لا أعتقد أنه على قيد الحياة أيضًا". في مذكراته "العودة" يعود مطر إلى ليبيا ما بعد القذافي بحثًا عن إجابات بشأن مصير والده، الذي كان حاضرًا دائمًا، غائبًا دائمًا. في مرحلة ما، يأسف المؤلف: "في النهاية، فإن الخسارة الأصلية، نقطة الانطلاق، النقطة التي تغيرت بعدها الحياة بشكل لا رجعة فيه، أصبحت تشبه وجودًا حيًا، له قوته ومزاجه الخاص".
في روايته "أصدقائي"، يعيد المؤلف النظر إلى بعض المخاوف التي كتب عنها في أعماله السابقة، وهي الديكتاتورية وأدواتها القمعية العنيفة، وقسوة المنفى. المنظور مختلف قليلًا هذه المرة، ولكن أيضًا، والأهم من ذلك، نرى كيف يتشكل جزئيًا على الأقل من خلال علاقات خالد العميقة مع الأصدقاء الذين يصادقهم في لندن. تأثيرهم على فهمه للعالم واضح تمامًا. كما أن حياة الأصدقاء الثلاثة تتميز بشكل ثابت بما يحدث في بلدهم، وإن حدث هذا بطرق مختلفة. "نحن بين مد وجزر"، يعلن حسام في الأيام الأولى للربيع العربي، "فيه ومنه. من الحماقة الاعتقاد بأننا سنتحرر من التاريخ، كما هو الاعتقاد بأننا سنتحرر من الجاذبية".
يبدو أن كتاب "شهر في سيينا"، الكتاب غير الروائي الذي يسبق مباشرة رواية "أصدقائي" وربما أكثر أعمال مطر شخصية وفلسفية حتى الآن، لا علاقة له بليبيا، ومع ذلك فهو يركز على ما حدث هناك وكيف أثر على حياة المؤلف. يقضي مطر شهرًا في المدينة الإيطالية التي يحمل العنوان اسمها، ويزور المتاحف ويتأمل اللوحات لساعات متتالية. إنه يسمح لهذه اللوحات أن تكون بمثابة بلسم لحزنه على مصير والده الحبيب المجهول وكوسيلة للتفكير في طبيعة الحالة الإنسانية على نطاق أوسع. يدور الكتاب أيضًا حول تقدير أرقى الأشياء في حياتنا الهشة وغير المستقرة. مصيبة كبيرة يمكن (ينبغي؟) أن تجعلنا أكثر انسجامًا مع شاعرية الوجود. يشبه هذا الاستنتاج الذي يصل إليه الراوي في أصدقائي ، وهو أيضًا المكان الذي يجد نفسه فيه منفصلًا عن مصطفى وحسام على مستويات متعددة.
كم عدد الهزات التي يمكن أن يتحملها الانسجام الجوهري بين أقرب الأصدقاء قبل أن تبدأ خطوط التصدع في الظهور؟ لا يقدم مطر لنا إجابة قاطعة. يترك للقارئ أن يستخلص استنتاجاته الخاصة. في نهاية المطاف، يختار الأصدقاء الثلاثة تلك المسارات التي يعتقدون أنها تفضي إلى رفاههم الفردي. تبين أن هوياتهم الأساسية ليست متوافقة مع بعضها البعض كما افترضوا في البداية، على الرغم من أن الرابطة بينهم لا تزال عميقة، شيء أقرب إلى الحب. مرة أخرى، نعود إلى إحدى أفكار مطر في أصدقائي ، وهي، بشكل مأساوي، أن عدم القدرة على معرفة ما يكمن في قلوب أولئك الذين نحبهم هو الذي قد يؤدي إلى انفصالنا المدمر عنهم.
مثل كل الأدب الجميل، تتخطى روايةأصدقائي الموضوع الذي يزعم أنها تدور حوله. تتعرج الرواية من خلال تعقيدات عقول شخصياتها التي لا تهدأ أبدًا، وتسمح للقارئ بالنظر إلى طبيعة وجودنا وعدم استقراره، بكل ما فيه من هشاشة وشكوك، وسمو وحلم، من زوايا متعددة، مستخدمة ملحمة ليبيا كنقطة انطلاق لهذه التأملات. إن القلق الذي يحيط بعالم خالد تخففه إمكانية السمو اللحظي. "أخبرني حسام أنه يعتقد أن أهم الأعمال الدرامية الإنسانية لا تحدث في ساحات القتال ولكن في ساعات الهدوء"، يتأمل خالد.
يبدو أن مطر يشير إلى أنه بسبب مأزقنا المأساوي ككائنات واعية في عالم غير مبال، سيكون من العار التخلي عن جمال تلك الساعات الهادئة، أينما وكيفما نجدها، سواء من خلال الشعر والفنون أو شيء بسيط ولكنه مجزي للغاية مثل إجراء حوار مع صديق أثناء تناول القهوة. الصداقة تكاد تكون مقدسة بالنسبة لخالد، وهو شخص علماني تمامًا. كما يقول حسام أثناء بداية تعرفه إلى خالد: "صديقي. يا لها من كلمة. معظمهم يستخدمونها ليصفون أولئك الذين بالكاد يعرفونهم. بينما هي أمر مبهر".
