"تفاحتين" – قصة قصيرة بقلم م. خ. حرب

4 فبراير، 2024
يمضي ابن العم في الطرق السرية لبيروت من أجل مساعدة ابن العم الآخر على تحقيق رغبته في عيد ميلاده، مقابل ثمن ما.

 

م. خ. حرب

 

بدا لمالك أنه لا يمكن أن يكون بعد ظهر يوم أحد مملًا مثل هذا اليوم. جدته، عنبرة، أمسكت أرجيلتها العجمية ونفثت دخانها، دائرة تلو الأخرى، فوق أفق بيروت. كان في حضنها وسادة كستنائية فخمة ذات كريستالات تتدلى من ثناياها، الوسادة عرشٌ غالبًا ما يكون مخصصًا لقطها عنتر. اليوم، استضاف العرش صينية من القهوة التركية، تحب أن تشربها مظبوطة، متوسطة الحلاوة. كلما دخنت عنبرة وجهت انتباهها إلى شخص قريب منها، وثبتت نظراتها واسترجعت إهانة مؤطرة كذكرى. 

حدقت إلى مالك وقالت: "عندما أرسلت والدتك إلى المدرسة الإنجيلية الأمريكية، كان من المعتاد أن تكون الطالبات من المجتمع الراقي وبنات الدبلوماسيين. أهذه هي الطريقة التي ترد بها الجميل؟ تقطيع وزنها في البقدونس! 

ضحك مالك وقال: "تعليم أمريكي من أجل التبولة!" 

رسمت نادين على وجهها ابتسامة مدفونة تحت "الأف" غير المعلنة، وألقت سيقان البقدونس الصفراء والذابلة في وعاء بلوري وقالت: "ماما أنت تتذمرين وتشكين بسبب حياتي، لكنك أول من يقفز ليأكل طعامي." 

سحبت عنبرة نفسًا قويًا من الأرجيلة، غرغر الماء ونفثت الدخان ليعود إلى بيروت. قالت: "أنا لا ألومك يا نادين، ألوم زوجك. إنه الشخص الذي جعلك تتخلين عن وظيفتك في السفارة اليابانية. ربما كنت الآن تعيشين في طوكيو وتتحدثين اليابانية وتأكلين السوشي، وربما حتى تتزوجين زوجًا ثانيًا وسيمًا من اليابان. من يدري..." أضافت وهي ترفع صوتها حتى يسمعها زاهي. جلس زاهي على الحافة البعيدة للشرفة على مسافة مريحة مكونة من أواني مليئة بنباتات الزعتر والأوريغانو والمريمية والياسمين التي اشتروها من شاحنة رجل على جانب الطريق، أثناء قدومهم من الغريفة. كانت نادين تسمي الزهور دائمًا على اسم بائعيها. "وأنتِ اسمك نادر"، قالت للياسمينة التي تتفح ليلًا، ووضعتها بجانب جورج وفريد. 

أعلنت "نادر" أن الشمس قد غربت بعد تفتح أزهار بيضاء صغيرة في جذعها، ملأت الشرفة برائحة قوية وحلوة، وللحظة وجيزة سكن الجميع، واستنشقوا الأزهار الداكنة. كان غروب الشمس بمثابة بداية النهار بالنسبة لزاهي، حيث رحب به بذكر أسماء الله الحسنى على المسبحة ، تحركت كل حبة مسبحة في تناغم مع فمه، عيناه مثبتتان على الماء، ظلت النشوة حاضرة حتى ذكر الأسماء التسعة وتسعين بتبجيل عميق. أحبت عنبر أن تسخر من طقوس زاهي، مع العلم أنه لا يشترك في المحادثة مهما حدث. "تعال وتأمَّل وأنت تشرب الشيشة"، صرخت من الحدود الغربية للشرفة. لم يرد زاهي، لكنه ذكر بعض أسماء الله بصوت عال: "المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر"، مشيرًا إلى أنه اقترب من النهاية. عندما انتهى زاهي، فتح عينيه، وعاد إلى عالم الشرفة وشعر بملل ابنه. "لماذا لا تذهب إلى محمصة ربيع وتشتري لنا بعض الكري كري والمشروبات. سيأتي إخوتك في غضون ساعة تقريبًا"، قال لمالك، وأخرج 20000 ليرة من محفظته. وافق مالك وذهب إلى غرفته للاستعداد. لم تسمح له والدته بالذهاب إلى المحمصة بغير الملابس الرسمية. "إن ذهبت إلى البقال فعليك أن ترتدي ملابس كأنك ذاهب إلى سهرة"، اعتادت نادين أن تقول. في الغرفة، رن جرس الهاتف، كثيرًا ما تجنب مالك الإجابة مع العلم أن اتصال يوم الأحد يعني إما أن عمته تتصل لتطلب مالًا أو أن عمه يتصل من باريس ليقول إنه يريد زاهي أن يدعو من أجل "أطفاله المضطربين". لكن اليوم، كانت المكالمة الهاتفية هي الحدث الأكثر إثارة. التقط السماعة وضبط صوته وقال: ألو مرحبا. 

"ملوك، أهذا أنت؟" سأل أحدهم. 

اهتز فك مالك بحماس، مدركا أن من يتحدث ابن عمه المقرب إليه أنس وقال: "حبيبي، كيف حالك؟" 

قال أنس: "مشتاقلك مشتاقلك مشتاقلك". 

"مشتاقلك أكثر. ما سبب هذه المكالمة الممتعة؟" قال مالك.  

"حسنًا، أنت تعلم أن عيد ميلادي الثامن عشر سيحل في غضون أيام قليلة. ولدي جميل أطلبه منك"، أجاب أنس. 

"أي شيء من أجلك، خاصة في عيد ميلادك. هل تريدني أن أنزل إلى دمشق؟" قال مالك. 

"لا، في الواقع سآتي إلى بيروت صباح الأربعاء، وقد ينضم بقية أفراد العائلة في عطلة نهاية الأسبوع. سنقيم في فندق ميديتيراني. لكن لا تخبر أحدًا، هذه مفاجأة". 

"الحمد لله أنك قادم، أشعر بالملل الشديد في دار المتقاعدين هذه. بس لماذا تسافر بمفردك؟" سأل مالك. 

"اسمع، لديَّ رغبة ملحة أحتاج إلى إرضائها. وهل هناك أفضل من بيروت لخربسة إصبعي؟" سأل أنس. 

"ما فهمت. ماذا تقصد؟" قال مالك. 

"أف يا مالك. أنت دائمًا ضائع تمامًا. أريد أن أمارس الجنس. ولا أستطيع أن أمارس الجنس في سوريا! الجميع يعرف من أنا، لذلك سآتي إلى بيروت"، قال أنس بصوت خافت. 

أبعد مالك الهاتف عن أذنه اليمنى وقال لنفسه: "يريد أن يمارس الجنس؟" سكت لمدة دقيقة وقال: "أنس، ماذا أعرف عن الجنس؟ عمري ستة عشر عامًا. إذا كنت ترغب في ذلك، يمكنني حجز عشاء لطيف في "لامب هاوس" ويمكننا تناول بعض الإسكالوب والنبيذ. لكني لا أستطيع فعل ما أكثر من ذلك!"

ضحك أنس وقال: "ملوك، أنت تتظاهر بأنك لا تعرف، ولكنك بطريقة ما تجد طريقة. هناك قول مأثور في دمشق مفاده أن كل حي له قواده. من فضلك يا مالك سأفعل ما تريد في المقابل. ابحث عن القواد". 

وافق مالك، الذي لم يكن ليرفض صفقة تجارية، وقال: "حسنًا. سأفعل ذلك من أجلك وفي عيد ميلادي الثامن عشر ستعطيني سيارتك". 

"البورش؟ اطلب شيئًا آخر يا مالك"، قال أنس بنبرة مختلفة. 

قال مالك: "لك أن تقبل الصفقة أو ترفضها". 

"حسنًا، إنها لك. والله لك"، قال أنس. 

ابتسم مالك ابتسامة أكبر من غروب الشمس وقال: "أراك يوم الأربعاء".


في الصباح ، استيقظ مالك على باقة من الروائح الحلوة المثيرة للغثيان. مشى إلى المطبخ ووجد والدته وجدته تجهزان الطعام كما لو أن تانهار قد انتصف بالفعل. قال: "لا تزال الساعة الثامنة صباحًا، لماذا تطبخان مبكرًا؟" فتحت نادين الخزانة، وأخذت كيسًا من مسحوق عبيدو السبع توابل، وأضافت ملعقة كبيرة منه إلى القدر. "أحضر "مغلي" لحفلة نادي الكتاب الخاصة بي الليلة. في الصيف نكون بحاجة إلى بعض الحلوى. هناك زعتر وتوست لك على الطاولة." رفعت عنبرة ذقنها عن عرشها، ممسكة أوراقًا نقدية من فئة مائة ألف ليرة، وقالت: "لقد جعلتني أسهو عن العد. أعتقد أننا الآن عند خمسة ملايين ليرة". 

"لمن هذا المال؟" سأل مالك. 

"هذا من أجل نادي الكتاب الخاص بأمك. ربما إذا انتهت جلستهم بالرقص، سأرمي بعض المال عليهم. نادين وصديقاتها بحاجة إلى المزيد من الهز".  

قالت نادين: "ماما، أرجوك اذهبي إلى مقهى القصر الليلة بعد التبرع بالمال للمسجد وأريحيني وأصدقائي". 

جلس مالك على طاولة الطعام المخصصة للصباح وواجه النافذة بالقرب من موقف السيارات. ارتشف قهوته وابتعد ذهنه عن الأمهات، شغلته فكرة واحدة، تساءل: أين يمكن أن يمارس أنس الجنس؟ استحضر شوارع بيروت، ربما سينما مودة في طريق الجديدة، بجوار الكراكة حيث حصل على شطائر اللحم البقري المشوي، كثيرًا ما رأى رجالًا يتربصون هناك يحدقون في الملصقات الإباحية خارج أبوابها. لكن لا، لن يقبل أنس الذهاب إلى هناك والبقاء بالقرب من رجال مسنين. بالإضافة إلى ذلك، إن المكان سوقي جدًا بالنسبة إليه. أوه، ربما حمام السعادة، فكر مالك. نعم، لقد تذكر عندما اختبأ من المطر في مقهى فندق بريستول، سمع رجلًا يرتدي معطفًا رماديًا واقيًا من المطر يقول: "أوه، لقد فركني فركًا رائعًا بالصابون". لا، أنس لا يريد رجلًا!

استيقظ مالك من أحلامه على جدته وهي تقول: "أوه، هل أخبرتك؟ اتصلت فاطمة بأختي. نحن نعرف أخيرًا أين هي. بعد مرور عامين". كانت فاطمة ممرضة فيّ، اعتادت أن تعتني بها بين نوبات الصرع. هربت مع رجل من صيدا، ولم تظهر مرة أخرى، كانت علاقة لم يهتم بها أحد باستثناء سكان مبنى السلطان الذين عاشوا وتنفسوا الفضائح. 

"والله؟ أين هي؟" سألت نادين. 

قالت عنبرة: "إنها تعمل مع زوجها البخيل في كازينو فريد الأطرش. تطبخ المزة وهو يدير الشؤون المالية للمكان". قال مالك: "كنت أهرب من في إلى ذلك المكان أيضًا. على الأقل تلك الوظيفة أكثر إثارة". قالت عنبرة: "اسكت! هذه ليست محادثة للأطفال".  

"كيف لا يزال الكازينو مفتوحًا؟ اعتقدت أنه أفلس؟" سألت نادين، مضيفة اللوز المقشر إلى المغلي.

"حسنًا، لن تصدق هذا. على ما يبدو، أصبح الكازينو مكانًا للمهاجرين الفلبينيين في بيروت. يذهبون إلى هناك بعد الكنيسة يوم الأحد، ثم تبدأ حفلة مثيرة من الظهر حتى المساء. أخبرتني فاطمة أنهم يكسبون الكثير من المال في أيام الأحد، ولا يفتحون أبوابهم لنصف الأسبوع". 

سأل مالك: "واو، أين هذا الكازينو يا تيتا؟" أجابت عنبارة: "لماذا تريد الذهاب إلى هناك والاحتفال معهم؟"، اهتز كتفاها من الضحك. "إنه خلف تلفزيون المستقبل"، أجابت والدته. "مالك، هذه المنطقة كانت..." قالت عنبرة، شعر مالك بالخوف عندما عرف أن الوقت قد حان لحكاية أخرى عن بيروت المدمرة. وضعت عنبرة عرشها على الأرض ما سمح لعنتر بالعودة إليه، تابعت: "حيث يستقر الكازينو الآن، كانت منطقة مليئة بالفيلات المرفقة بأكثر الحدائق إبهارًا. بساتين كبيرة، مستقرة مثل الرجال الأقوياء، تحرس الشوارع من الشمس، لذلك كلما دخلت في أزقتها كان هناك نسيم لطيف يدعوك للدخول. كان هناك بيت الورود، حسنًا، كانوا أول من استورد الثريات من إيطاليا، حيث تألقت العديد من البلورات في غرفة المعيشة الخاصة بهم، كان عامل المنارة يتصل بهم ويقول: "أنتم تحجبون رؤيتي!" قالت عنبرة بضحكة حزينة. قالت نادين: "أخبريه عن فيلا أبو جميل". قالت عنبرة: "مالك، كانت فيلته لا مثيل لها، قد تظن أنك في الأمازون. كان أول من زرع أشجار الأفوكادو في بيروت بعد عودته من أبيدجان. كنا دائمًا نخرج من منزله بأكياس وأكياس من الفواكه والخضروات، لكنه كان لصًا رحمه الله، لم يمر شيء عبر مرفأ بيروت من دون أن يُدفع له نصيبه"، قالت عنبرة، "في ذلك الوقت، كانت المنازل تقع إلى جانب البحر، امتداد لمياه بيروت. ليس مثل الأثرياء الجدد الآن، الذين يريدون فقط الاستمتاع بالبحر من الأبراج البيج!  

"ماذا حدث للفيلات يا تيتا؟" سأل مالك. 

"الآن؟ تمامًا مثل الكازينو، ابتلعت الشوارعُ الثريات والأفوكادو، واستضافت الرجال الأشرار والنساء الراقصات". وقف مالك مبتهجًا لأن القصة تحمل إجابة، كان يعلم أن عليه أن يسير في إثر النساء الراقصات. 


عند الظهيرة، وقف مالك خارج مبنى تلفزيون المستقبل. رأى موقف سيارات فارغًا خلف المبنى وسار عبره. أوقفه رجل يجلس على كرسي دوار وسأله: "إلى أين أنت ذاهب؟" كان فمه كبيرًا لدرجة أنه بدا كما لو أنه تحدث فقط من زاويته اليسرى، زحف صوته من كهوف بطنه الداخلية. 

قال مالك: "كازينو فريد الأطرش"، وهو يزيد من خشونة صوته. نظر الرجل إلى عينيه في حيرة، وقال: "كم عمرك؟ يبدو أنك أصغر من أن تدخله ". أجاب مالك مستاءً: "هل يمكنك حتى العثور عليه بين ثنيات كرشك؟" انفجر الرجل ضاحكًا، اهتزت أرض موقف السيارات إلى أن سعل سعالًا مليئًا بالبلغم. قال: "هناك"، مشيرًا بإصبعه إلى زقاق متعرج. "شكرًا"، قال مالك بأدب تلميذ. سار عبر الزقاق المليء بزجاجات بيرة ألماظة المحطمة، وورق لف المناقيش الملوث بزيت الزيتون، وبعض علب البيبسي المسطحة. وصل إلى باب خشبي كبير موضوع بين أربعة قضبان معدنية، فوق الباب كان هناك ملصق لامرأتين شقراوين تتزلجان على الماء حول صخرة الروشة. نظرا إلى مالك بابتسامتين كبيرتين وبين جدعيهما حلَّقت عبارة: بيروت، مدينة العالم. وضع يده اليمنى من خلال القضبان ودق جرسًا أخضر. "يلا"، قال صوت من الداخل. فتح الباب وظهرت فاطمة أمام مالك. صُدمت، صرخت "ييي" وغطت وجهها بحجابها الأصفر، محاولة إغلاق الباب. 

"فاطمة، لا تقلقي، لا أحد يعرف أنني هنا. من فضلك أنا بحاجة إلى مساعدة"، قال مالك.  

"مالك، اذهب الآن. هذا ليس مكانًا للأطفال. إذا اكتشفت جدتك أنك هنا، فسوف تشنقني على شاطئ رملة البيضاء". 

أجاب: "لن تكتشف ذلك"، وهو يمرر حقيبة من خلال فتحة الباب. "هذا لك، هدية صغيرة. حصلت تيتا على جبل من التبغ العجمي من وكيلها في تركيا، ولن تلاحظ اختفاء القليل منه"، قال مالك، وهو يضع على وجهه ابتسامة المعاملات. اعترفت فاطمة بأنها مفتونة برائحة التبغ القاسي المغطاة بحلاوة العسل. "حسنًا، بسرعة، لكنني لن أفتح الباب، هذا ليس مكانًا للأطفال"، كررت. 

"أنس ، ابن عمي. أنت تعرفينه، الشخص الذي يأكل المحمرة دائمًا على الإفطار. إنه قادم إلى بيروت ويريد امرأة ليقضي الليلة معها".

"أعوذ بالله! لقد جننت يا مالك. لماذا تعتقد أنه يمكنني المساعدة في ذلك؟" قالت.

"أنا لا أقصدك أنتِ يا فاطمة! لكنني سمعت تيتا تقول إنك تعملين مع راقصات. ربما يمكن لإحداهن الترفيه عن أنس"، أجاب مالك. 

قالت فاطمة: "يمكنني ترك منزل جدتك ولكن لسانها لا يمكن أن يتركني. اسمع يا مالك، طالما أنا على قيد الحياة، فلن تطأ قدمك هذا الكازينو. لكنني أعرف مكانًا يمكنك الذهاب إليه، بار البستان. إنه على الطريق من هنا في زقاق خلف فندق دوروي. اسأل عن توني، سيكون قادرًا على المساعدة".
 

"فاطمة، أنت تعرفين دائمًا ماذا عليك أن تفعلي"، قال مالك وهو يهز القضبان المعدنية.

قالت: "يلا ارحل"، وهي تطرده بيدها. أغلقت فاطمة الباب وفتحت الكيس وشمت رائحة التبغ حتى وصل إلى حلقها وقالت: إنها ليلة كبيرة، الليلة. 

عاد مالك عبر موقف السيارات إلى الرجل الجالس على الكرسي الدوار الذي التهم سندوتش فلافل بشغف هائل. مسح شفتيه الملطختين بالطحينة وقال: "شو؟ لم تجد شخصًا في عمرك؟". 

نظر إليه مالك وقال: "لا، لم أجد، قالوا إنك أكلتهن كلهن". 

صرخ الرجل: "يا عكروت"، وضرب الأرض بساقه اليمنى، وتقيأ خطبة من الشتائم.

خرج مالك إلى بيروت ورأى علامة فندق دوروي، وسار نحوها، متفحصًا ما يحيط به، حتى وجد زقاقًا آخر، كان هذا الزقاق مغطى ببركة من مياه الصرف الصحي، ما جعله يسير على رؤوس أصابعه منتبهًا لحذائه الجديد. وصل إلى باب آخر، باب خشبي مكتوب على منتصفه "البستان" باللون الأحمر. طرق الباب وقلبه يدق بقوة، ثم فتح رجل يرتدي قميصًا ذا مربعات بيضاء وسوداء، غير مزرر إلى منتصفه، وقال: "من أنت؟" 

سأل مالك، متحدثًا إلى شعر صدر الرجل الأسود المجعد: "هل أنت توني؟".

"نعم، لماذا؟" أجاب. 

قال مالك: "أرسلتني فاطمة. قالت إنك يمكنك المساعدة. انظر... ابن عمي قادم..."، فقط ليسكته الرجل الذي وضع أصابعه على فم مالك. "لا أريد أن أسمع الحكاية. هل يمكنه الدفع بالدولار؟" سأل توني. "نعم، يستطيع"، أكد مالك. "عد إلى هنا في الساعة الخامسة مساء الغد. ولا ترتدي هذا الشورت. هذا مكان محترم"، قال الرجل. 

أومأ مالك برأسه. 

في المنزل، هرع مالك إلى غرفته، والتقط الهاتف، متكهربًا بالأخبار التي كان على وشك إخبار أنس بها، اتصل به وقال: "لقد وجدت لك شخصًا ما، لكن عليك أن تكون هنا بعد ظهر الغد". قال أنس: "كنت أعرف أنه يمكنك فعل ذلك. كنت متأكدًا. أراك غدًا".


في الساعة الرابعة مساءً، انتظر مالك أنس خارج محطة الطبش، وعندما رأى سيارة بورش كايين سوداء تمر، ابتهج لأنه تذكر أنها يتكون ملكه في المستقبل. تجمع الحاضرون في محطة الوقود حول السيارة - متحمسين - وقدم كل منهم خدمة بواسطة إيماءاتهم. رفع رمزي ذراعيه متظاهرًا بمسح الزجاج الأمامي للبورش ووضع طارق يده بجانب وسطه وحركها عارضًا غسل السيارة بالخرطوم. قال مالك: "خلاص شباب"، وشكرهم وطلب منهم المغادرة. فتح أنس نافذته، وكان يرتدي نظارة شمسية داكنة الإطار من طراز راي بان وقميصًا أسود ضيقًا لدرجة أنه أظهر ذراعيه الرفيعتين وكأنهما معضلتين. جلس مالك إلى جانبه، وأطلق نفسًا بصعوبة وقال: "هيا بنا". 

"سروال جميل"، قال أنس وهو يضرب فخذ مالك الأيسر.

"لا شورت حسب كلام توني. اسمع يا أنس، لا يمكننا تناول الكحول في تلك الزنزانة. أتذكر أنني رأيت في التلفزيون في أمريكا، الناس لا يشربون في مثل هذه الأماكن، قد يخدرونهم. لن يتم تخديري في الروشة!". 

ضحك أنس وهو يخرج من محطة الوقود وقال: "أنت قلق للغاية".

"ماذا ستفعل هناك على أي حال؟ هل تعرف كيف تفعل ذلك؟" سأل مالك. 

"حبيبي، سأفعل كل شيء. حسنًا... باستثناء الخلفي. قال معلم اللاهوت الخاص بي إن هذا شيء كبير بالنسبة لنا".

عندما وصلا، سار مالك بسهولة في الزقاق الذي أصبح الآن أكثر نظافة وطرق الباب، ثم خلع نظارة أنس الشمسية أثناء انتظارهما. قال: "أنت تبدو أحمق!". ظهر توني، هذه المرة مرتديًا قميص بولو رالف لورين أخضر. قال: "أنتما دقيقان مثل المصرفيين. الفتيات لسن مستعدات، لكن يمكنكما الدخول وتناول مشروب". دخل مالك وأنس إلى عالم خافت الإضاءة، جلسا على مقعدين في البار. كان هناك مزهرية من الكريستال بداخلها أربع ورود حمراء مصنوعة من الورق، وبجانبها بخور محترق ملأ الغرفة برائحة راتنجية. ذهب توني خلف البار، ووقف تحت صورة امرأة ترتدي فستانًا أبيض، ولآلئ تتدلى من أذنيها، وشعرها مصفف لدرجة أنك تستطيع شم رائحة الرذاذ الذي يربطه معًا. قال توني: "أمي، الله يرحمها، كان هذا المكان ملكًا لها أثناء الحرب. كانت أفضل خبيرة بالزهور لبنان. كانت مشهورة جدًا لدرجة أن الناس جاءوا من جميع أنحاء لبنان من أجل أعمالها الفنية. في مرحلة ما حتى الرئيس شمعون طلب تنسيق باقات القصر هنا"، مشيرًا بإصبعه إلى الحائط خلفهما، هانك قاعة خاصة بالسياسيين والمطربين البائدين. "لقد ماتت وأردت الاحتفاظ بالمكان، كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لفعل ذلك. الزهور لا تجلب الكثير من المال بعد الآن. لكن أمي باعت المتعة، لذلك أبيع المتعة الآن بطريقتي الخاصة"، ووضع كأسين على البار أمامهما. قال: "اثنين من الفودكا للسادة". قال مالك وكأنه أم حريصة: "أوه لا، لا بأس. سنشرب بيبسي فقط". ضحك أنس وانضم إليه توني وهما يقولان: "استرخي". ثم قال توني: "حسنًا، ستكون الفتيات جاهزات في غضون بضع دقائق. ولكن عليك أن تدفع مقدمًا. أربعمائة دولار مقابل ثلاثين دقيقة مع اثنتين من لآلئ بيروت". 

اعترض مالك: "فتاة واحدة فقط. لأنس فقط. لن أفعل أي شيء". 

قال توني: "القواعد هي القواعد". 

"لا بأس يا مالك. يمكنك الجلوس معها وتناول القهوة أو شيء من هذا القبيل. ربما كانت من النوع الذي يعجبك"، قال أنس وهو يسلم الرجل ربطة من الدولارات ملفوفة بشريط مطاطي. 

"إنها بالتأكيد ليست من النوع الذي أفضله"، قال مالك بتأكيد صارم. أمسك توني بالمال وفتح الدرج وأعطاهم فاتورة. 

سأل مالك: "ما هذا؟". قال توني: "فاتورة لعشرين باقة من الأزهار لحفل زفاف في فندق رويال بلازا المجاور، كما تعلم.. في حالة قيام أي شخص بإيقافك أثناء مغادرتك".

وقف توني في منتصف الغرفة وقال: "يا أولاد، هذا مكان عمل محترم. لا تصوير فيديو، ولا لعب أدوار، ولا ربط أو تعليق. أنت ستفعل ما ستفعل ثم تغادر بسلام، اتفقنا؟".

"اتفقنا يا توني"، قال مالك وأنس. 

استدار توني إلى الوراء وصرخ: "يا لآلئ"، وفي تلك اللحظة غمرت البرودة مالك، معتقدًا فجأة أن الحياة لم تكن حيَّ كري كري ممل مكون من الكوابيس، وأن فيديو كايلي مينوغ كان على وشك أن يصبح حقيقة أمامهما، حتى ظهرت إحدى اللآلئ، جسد مستدير وضخم، وشعر أشقر رمادي لدرجة أنه يشبه باروكة محترقة. شعر مالك بالرعب، واقترب من ابن عمه وقال: "يا إلهي، هل هذه أورسولا من فيلم حورية البحر الصغيرة".

"إنها من أريد. يمكنها أن تخبئني وتضغط عليَّ داخل كل ركن من أركان جسدها"، قال أنس وعيناه تظهر عليهما النشوة. مشى نحوها وقبَّل يدها اليمنى وقال: "وما اسمك يا جميلة؟" أجابت: "تفاحتين"، وهي تحرك يديها على صدرها وتحاول إصدار صوت خجول وبناتي يختبئ بداخله صوت أكثر رعبًا. كان لدى تفاحتين ابتسامة توقعت مال أنس السهل، ومالك الذي ما زال لا يصدق أن هذه اللحيمة هي ما رغب فيه ابن عمه، تجمد على كرسيه. تجنب التحديق مباشرة في السيدة الأخرى، التي كان أصغر سنًا وبشعر أسود وعينين عسليتين وجسم نحيف لدرجة أن مالك أصبح جائعًا. كانت ترتدي تنورة قصيرة من الجينز، وانبعثت من الهواء حولها رائحة زهر البرتقال. اقتربت من مالك ووضعت يدها اليمنى على ظهره ما تسبب في انتصاب شعر ذراعيه وقالت: "أنا أماني". استدار مالك وقال: "هل تريدين مشروبي؟" 

قالت أماني: "رجل كريم"، مقرة لتوني الذي أومأ لها مشيرًا إلى أنها يمكن أن تشرب الفودكا. قالت: "دعنا ننتقل إلى الطاولة ونستريح"، ما دفع مالك إلى السير إلى الطاولة الأقرب إلى الستائر. قال توني: "سأخرج وأدخن". 

جلسا وحدهما بجوار قاعة المشاهير الغابرين، وأشعلت أماني سيجارة، وفحصت مالك من رأسه إلى أخمص قدميه، وقالت: "شو؟ هل تريد أن أمصك؟"

"لا، لا. لقد دفعنا وستحصلين على حقك"، قال مالك وهو يسحب الفاتورة. "لكني لا أريد شيئًا، هو فقط من يريد"، قال بينما كان صوت أوركسترا من الأنين والشخير يأتي من خلفهما. 

أجابت أماني غير منزعجة: "حسنًا، حسنًا"، ما أدى إلى تعطيل الاتصال البصري الإغرائي الذي حاولت القيام به. 

"حسنًا، إنها وظيفة مثيرة للاهتمام. لماذا تفعلين ذلك؟" سأل مالك ويداه في حجره كما لو كان هو الشخص الذي تجري مقابلته. 

فوجئت أماني بسؤاله، وأشارت بأصابعها المرصعة بالماس إلى هاتف آيفون الخاص بمالك وقالت: "أنا أدخر من أجل شراء هذا، وبعض الأشياء الأخرى".

"آها فهمت. وبعد الهاتف؟ ماذا بعد؟" سأل مالك. كانت أماني على وشك الإجابة لكن صوت "تفاحتين" صدح بينهما وهي تصرخ: "اركع وقل لي إنني أفضل أرجيلة دخنتها على الإطلاق." 

"أنتِ، أنتِ، أحلى تبغ في المدينة"، كرر أنس باستسلام متعمد. 

"لم أقل أنك يمكنك أن تنهض، أيها الصبي الصغير"، صرخت. 

"أنا آسف يا تفاحتين"، قال أنس. 

صمت مالك المنزعج من الصور التي وصلته طوال الدقيقة السابقة. قالت أماني: "لدى تفاحتين لسان قوي، على السرير وخارجه"، مدركة عدم ارتياحه، "لكنك تعلم أن الرجال اللبنانيين يحبون أن يكونوا تحت السيطرة. أوه، لو أخبرتك عن هؤلاء الرجال؛ المصرفيين وسائقي الشاحنات والأطباء، يأتون هنا كي تسيطر تفاحتين عليهم". 

"لماذا تعتقدين أنهم يحبون ذلك؟" سأل مالك.  

"الجميع في هذه المدينة يعاقبون شخصًا ما، وأحيانًا يريدون فقط أن يعَاقبوا. ثم تأتي تفاحتين لتؤدبهم بالكثير من الحب، لدرجة أن شفاههم ترتجف طلبًا للمزيد".
 

"وأنتِ، ما أسلوبك؟" سأل مالك. 

"أنا عشيقة أكثر، المرا التي تشتري أنت لها عطرًا باهظ الثمن من أرقى درجة. ديور من مول ABC الأشرفية"، قالت أماني وهي تحتسي المزيد من الفودكا. 

استمرت تفاحتين وأنس في الكشف عن أعمق أصواتهما الجسدية، حاول مالك تجاهلهما حتى التقط ألحان السعادة في صوت ابن عمه، الذي تحول إلى صوت ناعم أنثوي بعض الشيء مع ازدياد متعته، وتخيل أنه في تلك الغرفة القذرة، التي كانت رائحتها مثل الديتول، كان مثل "نادر" وياسمين الليل يزهر في جذعها.   

ذهبت أماني إلى البار لتصب مشروبًا آخر وقالت: "أوه لقد نسيت أن أخبرك. لن أمارس المهنة هذه إلى الأبد. أنا في انتظار البطاقة الخضراء. خطيبي يعيش في ديترويت، إن شاء الله سأنتقل إلى هناك".

قال مالك: "أردت دائمًا الذهاب إلى أمريكا". 

"أنا أيضًا. خطتي هي فتح صالون للأظافر هناك". 

بعد فترة قصيرة ظهر أنس من خلف الستائر المزينة بالخرز، وسرواله عند أسفل ساقيه، وفخذاه المشعران والهزيلان لا يزالان يرتجفان. رفع سرواله بابتسامة مهتزة. سأل مالك: "شو، انتهيت؟". "إيه يا خلاص"، قال أنس وحلم يطلب التحقق ظاهر على وجهه. 

ودع مالك أماني: "آمل أن تصلي إلى ديترويت". ثم أمسك ذراع أنس وخرجا مرة أخرى إلى بيروت، وجدا طوني جالسًا في الخارج يأكل سندوتش شاورما. قال: "مرة أخرى، في الموعد بالضبط مثل المصرفيين". أومآ برأسيهما وابتعدا، ولم يرغبا في الاعتراف بالمزيد مما حدث في الداخل. 

أثناء مغادرتهما، وقف مالك أمام أنس وقال: "لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدًا. في المرة القادمة التي تريد فيها ممارسة الجنس، عليك أن تفعل ذلك بنفسك". قال أنس وهو يعبث بشعر مالك: "أوه، هيا  أنا متأكد من أنك استمتعت قليلًا يا ملوك!". ثم قال: "كان جسدها مثل، مدينة ملاهي ضخمة، لقد لعبت بها حتى استخدمت آخر وأكبر تذكرة. في النهاية شعرت وكأن نهرًا يمر بين ساقي". هز مالك رأسه وقال: "خلاص، لا أريد أن أسمع المزيد عنك وعن أورسولا. يلا، أنت مدين لي بعشاء فاخر". سارا إلى المطعم في الطابق الأرضي من فندق دوروي، جالسين على شرفة ذات إطلالة صغيرة على الماء، مدسوسة في ماضي الفيلات السابقة، والبساتين الميتة، وعامل المنارة المهووس وزجاج الثريا المحطم. أخذ النادل طلبهم: الكبة، التبولة، الحمص، بطاطا حارة، بابا غنوج، لفائف الجبن، الفطاير، ورق العنب، المحمرة، السفن أب، الكفتة، ولكن بعد ذلك طلب منه أنس، الذي جلس وساقاه منفرجتان لأقصى درجة، قائلًا: "أوه، وأرجيلة واحدة".

"أي نكهة؟" سأل النادل. 

"تفاحتين"، أجاب أنس.

 

محمد خليل (م. خ.) حرب كاتب من بيروت. حصل على شهادته العليا في دراسات الشرق الأوسط من جامعة هارفارد في عام 2018 حيث كتب أطروحة حائزة على جوائز حول الهروب من الواقع في بيروت. يشغل حرب حاليًا منصب محرر متجول للبنان في مجلة Asymptote Journal ، حيث يقوم بتكليف الكتاب وكتابة المقالات المتعلقة بالأدب العربي المترجم. تم نشر أعماله الروائية وغير الروائية في The White Review و The Bombay Review و BOMB Magazine و The Times Literary Supplement و Hyperallergic و Art Review Asia و Asymptote و Scroope Journal و Jadaliyya. يعمل حاليًا على مجموعة من القصص القصيرة المتعلقة بشبه الجزيرة العربية.

حياة مدينة بيروتالأدب اللبنانيالحب والجنس

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *