قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية

30 June, 2025
نجلس في منتصف المقهى، أمامي بابا في فمه مبسم وفي يده لي الشيشة وعينه عليَّ، وأنا في يدي نسكافيه وحتِّة من الفطيرة، اتصنع الاستمتاع وأخفي إني خرمانة أثناء لعبنا المحبوسة. (بإذن من مينا فيجوالز).
تمضي مي المغربي في رحلة تكرر بلا نهاية في أحياء الإسكندرية بحثًا عن مكان للقعدة ولشراء السجاير، في عالم حدوده المقاهي والمحامين وسندوتشات الكبدة والفانتا، في لحظة تدرك الشخصية الرئيسية أن كل شيء يتكرر، وتتساءل متى ستتوقف الدورة.

 

مي المغربي

 

وقفت أمام حلة كبيرة من الستانلس ستيل بداخلها زيت لونه أسود يصنع موجات صغيرة فتطفو فوقه قطع خضراء منكمشة على نفسها، شيء بداخلي أخبرني أن ذلك هو البحر. الوصول للبحر يعني أن التوهان انتهى، وبإمكاني أن أبدأ من جديد. لكن ما الذي انتهيت منه أصلًا؟ كنت خرجت من قهوة الجمهورية متجهة إلى الجندي المجهول لأركب مشروع يوصلني لمحطة الرمل ومنها إلى بيتي في العجمي. وحدي، ورائحة الجو مزيج بين مطر ورائحة قلي، دُخت، وربما تقيأت، وغالبًا مشيت حتى وصلت للبيت. لا أعرف المدة لكن نهارًا جديدًا طلع عليَّ وأنا أمام باب الشقة. نزلت مرة أخرى ووصلت عند أول الهانوفيل وركبت أول مشروع رايح للشاطبي لأصل للكلية. أمام البوابة أخرجت كارنية الفرقة الأولى رغم أنني في الثالثة – لأن الخمسين جنيه لزوم تجديد الكارنيه أحس أني أولى بيها – بعد أن دخلت قررت الزوغان والبحث عن مكان أدخن فيه. مشيتُ حتى المنشية، وهناك وصلت للقهوة الخضراء. عرفتُها بسبب بائع سجائر سريح. وقتها كنت أبحث عن شيئين، علبة سجائر سعرها مناسب وأستطيع تخبئتها بسهولة داخل ملابسي، ومكان أدخن فيه دون أن يحاول أحد شقطي أو أن يراني أهلي أدخن، تحديدًا بابا، حدسي أخبرني أنه سيضربني إن عرف، هو يعرف عني كل شيء، أين ذهبت ومع مَن، ومتى عدتُ، دون أن يسألني. أرتعش أمام قدرته على معرفة أدق تحركاتي، مع الوقت نبت فوق كتفي برج مراقبة، أصفر وجاف، بشباكين متقابلين وفرد أمن على شكل بابا يراقبني أينما ذهبت، هذا البرج كان يثقل خطواتي، لكنه مكنني من رسم خرائط لأماكن لا تصلح للتصعلك: هنا يمكن أن يشيش بابا، هنا جلسنا مرة، هذا الشارع يتقاطع مع شارع يسكن فيه صاحبه، وتلك قهاوي يجلس عليها بابا، هو أيضًا يحب أن يصطبح بالشيشة قبل العمل على القهوة يقرأ كتابًا، كم كانت مساحة السرمحة التي أريدها تتقلص بسببه! يكفي أن السرمحة في العجمي أُغلقت في وجهي تمامًا، حيث يُكتب بوضوح على منيو قهاوي الصعايدة والعرباوية: ممنوع دخول السيدات، أو ممنوع تدخين السيدات هذا مقهى عائلي. كان يوقظني في الرابعة صباحًا يعرض عليَّ أن نشتري فطيرًا وجرائد من البيطاش، ومنه نتحرك لأبو يوسف حيث قهوة باسم عائلة من عائلات العرب. نجلس في منتصف المقهى، أمامي بابا في فمه مبسم وفي يده لي الشيشة وعينه عليَّ، وأنا في يدي نسكافيه وحتِّة من الفطيرة، اتصنع الاستمتاع وأخفي إني خرمانة أثناء لعبنا المحبوسة. كنت من الخصوم السهلة، أحاول ألا أكشف قشاطي، أحبس نفسي قبل أن يحبسني هو، فيضيع كل تركيزي على هذه الخدعة حتى أجدني محبوسة قرب بيتي، ويرزع كل قشاطه أمامي، هكذا كان يُرسم لي هامش صعلكة.
في كل ذلك خبرة مكنتني من التعامل في المقاهي من سن صغير، أعرف كيف أطلب الشيشة، وما هي أنواع أحجارها ونكهاتها، أعرف كيف ألعب طاولة محبوسة ودومنة. لكن تلك الخبرة لم تسعفني في الوصول لنوع سجائر مناسب لمصروفي وصدري، ومكان أجلس فيه لأدخن بأمان. كان صدري يشخلل بسبب سجائر ماركة pine، طعمها لا يختلف عن طعم المبيد الحشري لكنها بـ 13 جنيهًا وهذا يناسب مصروفي. مشكلتها أنها كأي علبة سجائر، مربعة وبزوايا حادة، وتبرز من تحت الملابس. لم أكن أعرف وقتها أن هناك سجائر سليم بعلب نحيلة يمكن إخفاؤها في أي مكان. رأيتها في المنشية عند بائع سجائر أمام بنك الـ cib فيما يشبه البنيكة ولكنها زجاجية، تتدلى منها ولاعات سخان وأقلام. لفت نظري اللون الوردي ورسمة الفراولة ومكتوب عليها oris. تخيلتها مستكينة ومخفية تحت التيشيرت، فشاورت له عليها فأخبرني أنها سجائر صيني ومهربة وبطعم الفراولة. الله… أليس كل شيء في المنشية مهرب وغير حقيقي؟ لا يمكن أن تكون المنشية نفسها حقيقية وبها قهوة الجمهورية، حيث كل شيء فيها أخضر، الكراسي الطاولات ومفارش الطاولات البلاستيكية، حتى القيشاني أخضر، تبعد الجمهورية عن مجمع المحاكم المتناثر بمسافة سيجارة وبصقتي بلغم على الأرض بإيقاع رجل سريح. نعم السريح هو الذي أوصلني هناك دون قصد، كان يمشي وعلى كتفه لوحة خشبية مرصوص عليها بتحدٍ للجاذبية كل أنواع السجائر الصيني المهربة، ورأيت oris التي بحثت عنها بجنون ولم أجدها. كانت خطواته سريعة، حاولت قفشه من موقف محطة الرمل حتى المنشية ومنها تاه مني عند محكمة الأسرة، جنني. في المطاردة أوقعت فاترينة قواقع وصدف، وخبطت ناسًا وتكعبلت في نائمين على الرصيف فأيقظتهما، وعلى نفس الرصيف التفت لي أخيرًا وأنزل لوحته الخشبية. موَّنت من الـ oris خزين أسبوعين دون التفكير في كيفية تخبئة كل تلك العلب. تركني أمام كوة كبيرة خضراء مكتوب عليها قهوة الجمهورية، وأسفل قدمي الاثنين اللذين دست عليهما، بتثائب وبطء لما بطاطينهما والعديد من أفراخ الكرتون. لماذا يفضل البعض النوم هنا، أمام الجمهورية؟ لم يدعني أحد فدخلت، ولم ينظر لي أحد فجلست. كان الجميع يشربون فانتا برتقال في أكواب بلاستيكية بيضاء، فطلبت مثلهم وجلست أدخن. الجمهورية مطعم وقهوة في نفس الوقت، والتوقيت فيها يفرق كثيرًا، فهي مكتب محاماة طيَّاري حتى الخامسة عصرًا، وبعدها مطعم للعائلات المحترمة حتى التاسعة، وبعدها لا أعرف، فلم أجلس حتى التاسعة. لا يوجد تلفزيون أو ساعة، يوجد كاشير بجانبه ثلاجة مياه غازية ولوح زجاجي يفصل بين القهوة والمطبخ، والأخير عبارة عن رخامة طويلة مفرغة على شكل حلل غويطة وطاسات من الستانلس ستيل، بداخلها زيت أسود تطفو بقع خضراء عليه وكبدة أو كلاوي في قاعه. جذبني وقتها أن أحدًا لم يهتم بوجود فتاة وحيدة تدخن، ربما هي في انتظار محامٍ أو انتهت مع المحامي للتو، بالتأكيد هي في كرب.
كنت في الوردية الأولى حيث محاميي الطُرقة الذين نجحوا في شقط وكلاءَهم من على سلم المحكمة أو الشَهر العقاري، يستدرجونهم حتى الجمهورية للتفاوض والاستشارة. كنت أتابع محاميًا بعينه يوميًا يستفهم، يوعد، يقبض، يترافع ويخذلهم، فيشقط غيرهم ويستدرجهم للجمهورية ويطلب لهم الكبدة والفانتا، يدخل آخرون منهارين مشقوطين للتو من أمام المحكمة، ينهي الأوائل القصة بينما يبدأ الآخرون قصتهم.
بافتعال شديد لملامح الكرب على وجهي أجلس في ركن ناحية اليسار تاركة الجمهورية من الخارج للمستعجلين بشدة ومن الداخل للمنهارين بشدة. لن يأتي بابا إلى هنا أبدًا، بل لن يأتي أحد أعرفه إلى هنا أصلًا – في ذلك مرارة وسعادة – لأن من أعرفهم يفضلون المحامي الذي يعمل في مكتب. في مرة جعت، اكتشفت أنني جائعة لأن المحامي الذي أتابعه جاء بنفس الناس حوالي خمس مرات إلى القهوة. ما إن ينتهوا من أكل الكبدة يخرجون من القهوة ثم يدخلون إليها ليعيدوا ما قالوه وما أكلوه مرة كمان. أكيد هذا هو الجوع. وقفت أمام الكاشير وطلبت ساندوتشي كبدة، ثم وقفت أمام حلة الستانلس ستيل منتظرة إعداد طلبي، بداخلي شيء أخبرني أن هذا هو البحر، غير متذكرة متى خرجت من القهوة ومتى عدت إليها، لأني وجدت نفسي أتابع المحامي وهو يعيد مشهده فأحسست أن هذا هو الجوع فطلبت ساندوتشي كبدة ونظرت في الحلة فأخبرني شيء بداخلي أن هذا هو البحر. لطمت على وشي.
المنشية مكان غير حقيقي، أخبر نفسي بذلك بعدما تأكدت أنني علقت في ديلمة مرهقة بل ومملة. المنشية مكان غير حقيقي أقولها وأنا أحاول المشي في اتجاه مختلف لكني أعود وأجد نفسي في قهوة الجمهورية وبيدي سيجارة صيني مهربة، وفي أنفي رائحة مطر وقلي، وجزمتي ملطخة بتأوه شخصين كانا نائمين أمام القهوة دست عليهما بدون قصد فأيقظتهما. تستمر الدوامة. في اليوم التالي دست عليهما بقصد ودخلت القهوة ولم أدخن ولم أطلب الفانتا، وحاولت ألا أجوع، لكن متابعة المحامي جعلتني أشعر بالجوع فأضطررت للوقوف أمام الحلة، حاولت ألا أنظر وأن أغمض عينيَّ لكن شيء بداخلي كان يصر على أن أفتحهما وأن أنظر داخل الحلة.
عدت هذا اليوم بأشكال مختلفة لأكثر من ثلاثين سنة، كان ينتهي بي الأمر في القهوة، في كل مرة أحاول أن أفهم أين هي النهاية؟ لأن البداية تأتي لحظة وقوفي أمام البحر. في كل ذلك شيء من الفشل وشيء من الخفة أيضًا حتى أن برج المراقبة الواقف فوق كتفي كان يتفتت سنة وراء الأخرى. حتى وصلت للمرة/ السنة الحادية والثلاثين، وفقدت قدرتي على تتبع من أين تأتيني السجائر، أو إن كنت أكملت تعليمي الجامعي أم لا. أكيد هذا هو التعب، فذهبت للحلة دون أن أمر على الكاشير ونظرت بداخلها وتأملت كثيرًا في الزيت الأسود، وجدت أن الجزء الذي يخص البحر والذهاب مشيًا إلى بيتي ثم الجري وراء بائع السجاير السريح قد تم حذفه من المقرر، واليوم يبدأ بأنني أشتري السجائر من أمام قهوة الجمهورية بينما قدمي نصف مرفوعة تفكر هل تدوس على الاثنين المفترشين الرصيف لتوقظهما، أم تخطو بجانبهما وتتركهما نائمين في وداعة.

مي المغربي كاتبة وصحفية من مصر، تخرجت في كلية الآداب جامعة الإسكندرية قسم علم نفس في العام 2019.
نشرت عددًا من القصائد والنصوص والمقالات النقدية والحوارت في عدة مواقع وصحف، منها مدى مصر، مجلة فم، مدينة، معازف، آخر قصة، Arabpop، چيم، باب مصر، سرد أدبي. حصلت على منحة المورد الثقافي لإنتاج روايتها الأولى «الخروج من غيط العنب» في العام 2023.

النوم أمام قهوة الجمهوريةقصة قصيرةمي المغربي

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member