
في رواية محمد عبد الجواد الأحدث «الواقعة الخاصة بأموات أهله»، يكتب بنفس محفوظي رواية أجيال عن عائلة قدم جدها الأكبر حسن الرز من تركيا، ليندمج في المجتمع المصري ويتزوج إحدى أفراده. في الفصل الأول المنشور هنا، نرى المؤلف وهو يرسم لوحته البديعة الأولى، لما ستكون رواية الأجيال المصرية الأفضل لهذا العصر.
محمد عبد الجواد
عندما وقع سطل اللبن في الخامسة صباحًا، بعدما وضعته الست رضا جوار الحوض، فأغرق أرضية المطبخ كلها، سمعته السيدة أمينة رمضان الرُّز، على هيئة جلبة زمن طويل، وهي تجلس في شرفة البيت، تراقب العالم البكر اليومي قبل أن يتداعى سريعًا، فقالت بهدوء: «كبرتِ يا رضا.» ثم أضافت: «وكبرنا جميعًا.»
كانت معلومة واضحة للجميع، ولها قبل أي أحد، ولكنها كانت ترددها كل مرة بإدراك جديد، مع أنها تعدت في مارس الماضي التاسعة والثمانين بكل ثبات وبكامل أعضائها المعروفة وحواسها الست، وتعدت الست رضا نفسها الخامسة والسبعين، ولكنها كانت تظهر أكبر سنًّا منها، وكان ابناها وابنتها يسمعون ذلك كل مرة، فيبتسمون بسخرية أو إشفاق، ويراقبون جسدها العفي، ووجها القمحي الجرانيتي، وعاداتها التي لم تتوقف عنها خلال نصف قرن مات فيه من مات وعاش فيه من عاش، ومر عليه خمسة رؤساء، فيقول أكبرهم، الدكتور لطفي درويش:
– نصف الجيل الحالي ينتهون؛ يأتون العيادة وعندهم أمراض الليل والنهار.
فيرد عليه الدكتور حلمي درويش:
– تناولت أمنا السمن البلدي وقتما كان بلديًّا، وأكلت الدجاجة عندما كانت دجاجة.
وكانت السيدة أمينة رمضان الرُّز تستمع لذلك الكلام بحاسة سمعها القوية، فتتظاهر أنها لا تسمع، ثم تقول للست رضا عندما يذهب أبناؤها وأحفادها من زيارات الجُمَع الممتدة هذه:
– شربت المر في تربيتهم، ويستكثرون عليَّ العمر الطويل! الحمد لله أنني بصحتي ولم أقع بعد.
فكانت الست رضا تجيب:
– بعد الشر عليكِ يا أبلة! الجحود طال كل شيء؛ حتى النيل يا أبلة، يقولون إنه سيجف والجماعة الأحباش سيبيعونه بالدولار.
كانت علاقتهما علاقة سيدة بخادمتها كما كانت في أزمنة البركة، وكانتا تؤديان دوريهما بجدية، ومن دون الالتفات إلى تغير كل شيء من حولهما؛ فالسيدة أمينة رمضان الرُّز، التي تنتمي إلى أسرة قديمة، كانت تحتفظ بالتقاليد الخاصة بالحياة مثل هانم تقاوم الانقراض، بكل ما في كتيبات الإتيكيت من خطوات متربة، مع أنها لم تكن من أصول باشوات كما كانت تردد أحيانًا في مجالس النميمة المكللة بالحلو والأرز بلبن والمهلبية بالفستق.

كان جدها السيد حسن الرُّز مهاجرًا تركيًّا، جاء من ريزا بتركيا في سفينة بحثًا عن عمل حي وحلال بعدما احترق بيته ومزرعته في محرقة غابات بريزا، وقد ورثت منه صلابة الطباع، والرأس التركي الكبير، ونفحة من عينين لوزيتين، وحبًّا للطعام الطيب والشراب الحسن. وقد عمل في البداية ببيع اللبن عندما استقر في السيدة زينب، كما تعلم في ريزا حيث كان يوصله إلى إسطنبول في دلاء ألومنيوم كبيرة بها ثلج، يحملها بعدها عمال ريزويون وصمصونيون، يبيعونها في كل أحياء المدينة الكبيرة وهم ينادون على اللبن الحليب الطازج بهمة باعة البوظة. ولكنه كان يقدمه بنظافة مبالغ فيها، وقد وضع على الأسطال شعارات بتوقيعه كأنه سلطان غير متوج.
وكان كبار الأفندية في حي السيدة زينب -النظيف حينها- يشترون اللبن منه بانتظام، حتى شعر أنه بحاجة إلى نفحة تجديد يواجه به نجاح الأرمن واليونانيين في أغراض البقالة، ودخولهم إلى مائدة باشوات البلاد المتفرنجين، وأعيانها الفلاحين الذين يحاولون التشبه بالمدينة الكبيرة في طرق الحياة، والأفندية الذين يصعدون على سلم المجد ببطء وظيفي، بالبسطرمة والمربى والزبد السايح صباحًا، فقرر صناعة قوالب الجبن التركي التي كان عمه يصنعها في ريزا ويشحنها على إسطنبول متعرقة ولها رائحة مجد التخمر الحلو. وقد نجح في ذلك بجلَد أبناء البحر الأسود وحده؛ فمع انكبابه على العمل مثل حمار، استطاع خلق ضجة محلية صغيرة في حي السيدة زينب، وبدأ الأفندية المحترمون يأتون إليه ليقفوا صفًّا متأنقًا في محل اكتراه بذكائه في موضع مرئي قرب جامع السيدة، يطلبون لفافات الجبن التركي بكرامة، بينما كان خدم الباشوات وعلية الناس يأتونه بطلبات البقالة الصباحية، حتى نفدت ثلاثة أقراص خلال يوم واحد، فقرر حينها التخصص في الجبن التركي، الذي سيُعرَف بعدها باسم الجبن الرومي، وطباعة اسمه على الأقراص الكبيرة الصفراء التي تسر الناظرين، وهو الاسم نفسه الذي عرفه به الناس هنا لصعوبة نطق اسم «الريزوي»، فكانوا يقولون له:
– صباح الخير يا سيد رُز.
فيجيب بطيب خاطر وبلهجة محلية مطعمة بالتنغيم التركي الريزوي:
– الريزوي لا الرُّز؛ القرية لا الأكل.
أهَّله هذا النجاح إلى شراء شقة في السيدة زينب، في شارع جانبي، قريب من عمارة عبد الهادي الحلواني التي ستُقام لاحقًا، وهناك، تزوج فتاة من البلد اسمها فاطمة محمود النمر، ولكن أمها الشركسية علمتها كيف تكون زوجة طيعة في يد زوجها، وتمسك بالبيت بتدبير سيدات الزمن الجميل وتقديسهن، رشحها له شيخ مسجد السيدة الذي أقام معه محبة قوامها الجبن الرومي وليالي الذكر، فأنجبا أورطة من الأولاد والبنات، مات أغلبهم في سن صغيرة، ولم يحيَ منهم سوى رمضان -والد السيدة أمينة- الذي سُمِّيَ بهذا الاسم حتى يحيا؛ ضمن تقليد قديم متبع في البحر الأسود يقضي بتسمية الأبناء بأسماء الشهور الهجرية أو الأشهر الحرم إذا ما ترصد الموت لأسرة ما، وعفت التي سافرت مع زوجها إلى الإسكندرية؛ لتؤسس معه فرعًا آخر من محل الرُّز للجبن التركي توقف لاحقًا بعدها بسنوات بسبب المنافسة الحادة التي دخلها أتراك آخرون في المدينة التي كانت تعج بالعالم كله على البحر.
تُوفِّيَ حسن الرُّز عن عمر الثمانين وهو نائم في المحل، بعد يوم عمل طويل، وترك إدارته لرمضان الرُّز الذي فشل فيها فشلًا ذريعًا؛ لأنه كان بقلب أفندي ومظهر تاجر، وكان قد ترك الجيش بعد أن التحق به ضمن وساطة الأتراك بعضهم لبعض في تلك الأيام، ولكنه لم يُظهِر ميلًا ناحية التدريب والإشراف على الجنود الفلاحين الذين كانوا لا يزالون متشبعين بالروح العرابية، وكان ذا قلب رقيق، يبكي في الأمسيات المظلمة عندما يقرأ شيئًا يمس قلبه، ويحاول كتابة الشعر، حتى ترك الجمل بما حمل بعد فترة من زواجه وإنجابه الأبناء في عمر مبكر يناسب رجال تلك الأعوام، وعمل في وزارة التعليم العالي للغته العربية السليمة، واتفق مع عفت على بيع المحل لمن يديره.
وقد كان؛ بيع المحل كما هو لتاجر موسر من تجار السيدة، أقام فيه تجارة حلوى، ثم بيع بعدها للرحماني بائع البوظة التي عرف أصولها من باعة عثمانلية نقلوها إليه من تركيا، وكانت السيدة أمينة الرُّز تعبر عليه بعدها لتتناول البوظة الحامضة في تقليد خاص، بعد الوجبات الثقيلة تحديدًا، وتشير إليه وتقول: «جدنا كان يبيع فيه الجبن الرومي عندما كان الفلاحون لا يعرفونه بعد.» وكانت تصف بعدها أقراص الجبن الرومي الساحرة المغلفة بعرق خفيف، التي كانت تراها ذهبية في ضوء فسفوري عندما دخلت المخزن مرتين، ورغم رائحتها العفنة، كان طعمها حلوًا، لتصل السيدة أمينة الرُّز بعدها إلى حكمة أن كل شيء حلو في مملكة هذا العالم له رائحة خرائية أو عليه كسوة قبيحة.
دارت أيام، ووُلِدت السيدة أمينة لأم اسمها السيدة شاكر من أب تركي وأم مصرية، على شقيقين، قبل أن يرزقوا بأخت أخرى، اسمها توحيدة، تُوفِّيَت فجأة كما جاءت فجأة بسبب مرض طارئ عندما بدأت تكبر وتزداد جمالًا وتوهجًا لتكون مثل طيف شفاف في عمر السادسة -حينما توقفت- لتقول أمهم لاحقًا إنها لم تُولَد للأرض ولكنها نُذِرت لتكون ملاكًا من اليوم الأول، ولم يتبقَّ منها سوى صورة تكاد تكون حلمًا وهي تقف بجوار السيد رمضان الرُّز وهو ما زال بزيه العسكري في الجيش قبل الاستقالة. وحازت أمينة شقة السيدة زينب، بينما سافر أحدهما إلى الإسكندرية بعدما تزوج ابنة عمته، وأقام الآخر في عابدين، والحقيقة أن الآخر هذا -أو الأخ الوسطاني- كان سبب مأساة ميتين أهلهم منذ البداية.
كان اسمه حسين رمضان حسن الرُّز، وقد سُمِّيَ بهذا الاسم لأنه وُلِد بعد أخيه الأكبر حسن بدقائق، ولم يبكِ فور ميلاده، وهو ما فسرته الدادة المولدة، الست عبلة، بعلامة بؤس حياته وصبره على الشدائد، فقالت بثقة: «حمَّال أسيَّة!» وقد أسماه السيد رمضان الرُّز بهذا الاسم ليكون حسينًا لأخيه الحسن.
ولكن هذا لم يتم أبدًا؛ فلم يكن حسين هذا سوى مشروع ابن ضال، لم يصل معه أي أحد إلى حل؛ فقد شب ميالًا إلى العنف، عصبي المزاج، وكان يختار الأسوأ من الناس فيصاحبه، وكان هذا رغم طباعه الخاملة حتى العاشرة وخجله الفطري الذي يجعله أشبه بالبنات في الطفولة. ولم يدرك أحد أن ما ضيعه تمامًا كان حادثًا صغيرًا جدًّا لم يرَه أحد: كان يلعب في الشارع -النظيف وقتها- مع أبناء بقية الأفندية وبعض من أبناء الطبقات الأفقر، التي كانت تحيا في حارات السيدة الغامضة والمظلمة، عندما ركض ليختبئ ضمن لعبة الاستغماية، وقد حدث أنه تاه في زقاق معتم وهو يمعن في الاختباء بجدية، عندما سمع صوت من يبحث عن المختبئين يقترب، ففتح فمه بذهول، ليسمع صوتًا ناعمًا يهمس له: «تعالَ سأخفيك.»
كان إخفاء الندامة؛ فعندما امتدت اليد الناعمة إليه من رحم الظلام، وجد نفسه في غرفة خشبية تفوح بالبخار ورائحة الصابون والمنظفات، وكانت فيها فتاة عارية، ساح شعرها فوق وجهها وعلى كتفيها، ولها لون غريب سيجده بعد ذلك في لون كيزان البطاطا وحدها، تبتسم وتقول له:
– انظر إلى الحائط، وغير ذلك قلة أدب.
لم ينظر إلى الحائط، ولم ينذهل بسوى التكويرين أعلى الصدر والفجوة المزغبة بشعر بلون شواشي الذرة، فدفن رأسه في بطنها بشر يتنامى داخل البراءة، فضحكت. وبعدما هدأت الأمور، أخرجته سريعًا، وقالت:
– اركض سريعًا؛ فلو رآك أخي لقتلك.
ثم أضافت:
– سبحان الله؛ لك عينان فاحشتان!
لم يخرج حسين رمضان حسن الرُّز منذ ذلك الحين فعلًا، وسيظل يتذكر تلك القصة بشعور عام بالغرابة؛ لأنها حدثت في مكان غير متوقع، ولأنه أُغرَم بقصص «ألف ليلة وليلة»، وابتاع الموسوعة بجزئيها بالطبعة البولاقية الشهيرة التي حققها الشيخ محمد قطة العدوي عام ١٨٣٥، وعدَّ القصة ضمن قصص «ألف ليلة وليلة»، ولكن الحقيقة أن الزقاق، الذي دخله، كان شارعًا تحيا به أسر بعض الحرفيين والعاملين في الصاغة والمذبح، وكانت الفتاة ابنة لإسكافي سيئ الخلق، والبيوت وقتها كانت عبارة عن مستودعات سكنية بغرف لا تنتهي مثل متاهات «ألف ليلة وليلة»، لا حمام فيها سوى حمام عمومي قريب، أو حمام صغير عبارة عن كشك خشبي به فتحة تبرُّز بلدي، وزير ماء، وسطل للاستحمام، وكان سكان المستودعات هذه -التي كانت تُسمَّى «الرَّبع» في أزمنة أقدم- قد أقاموا مثل تلك الأكشاك تيسيرًا على سيدات المكان للاستحمام وقضاء الحاجة، وكانت تحدث فيها مهازل وقصص حب حارقة، وحسين الرُّز هو أحد ضحايا أكشاك الحب والنحس هذه.
أُغرَم بأجساد الحريم منذ تلك اللحظة، وتبدل، فصار أكثر جرأة وعينه مكشوفة، وابتكر ألعابًا ورحلات للبحث عن المكان، وقد عثر عليه فعلًا، ولكنه لم يستطع الجلوس للمراقبة لازدحامه في الوقت العادي، حتى توصل إلى طريقة مناسبة للاختفاء تعلمها من مجموعات الخراء الذين صاحبهم عندما مس وجل الحب الأول، فصاروا يجلسون في خرابة من الخرابات المنتشرة في السيدة وقتها، ويشاهدون كشكًا من تلك الأكشاك، تستحم فيه سيدات المكان، من منظور مرتفع فوق سور شبه متهدم، حتى نضج حسين الرُّز نضجًا سريعًا على هدي التجربة، وبدأت مأساته مع أسرة الرُّز.
درس في الكتَّاب في البداية مثل حسن، وكان الشبه بينهما مثارًا للسخرية لاختلاف الطباع. وبعد ذلك، دخلا الأزهر، فأظهر حسن فتورًا تجاه الاختلاط مع الناس، وكانت له طريقة أبيه في المعاملة الرسمية الجافة، والصوت الجهوري المتأنق، بينما تمرغ حسين في وحل التجارب، حتى وصلا معًا إلى التعليم الأساسي، فأكمل حسن تجربته باستحقاق، ودخل مدرسة الحقوق بعدها ليكون ضمن الرعيل القانوني الأول في البلد، بينما ظل حسين عالقًا في هذه المرحلة، ولم يُظهِر أي نجاح، فأخذه السيد رمضان الرُّز من يديه، وذهب به إلى تاجر بطاطس قريب، وقال:
– علِّمه ما يكسب به.
فنهض تاجر البطاطس، الذي كان اسمه الحاج علوان فرختو، وقال:
– ابن الناس يعمل في الفاعل؟!
فقال السيد رمضان الرُّز:
– حتى يُقوَّم.
رغم ذلك، وجد حسين الرُّز لذته في العمل الذي كان عبارة عن فرز البطاطس المعطوبة من العادية، ووضع بطاطس القلي في مكان على الجانب من بطاطس الطبخ، والغريب أن معلومة قلي البطاطس على هيئة شيبسي محلي وبيعها في حارات لا تدخلها الشمس لم تكن معروفة لأحد قبل ذلك؛ فالبطاطس المقلية لم تدخل البلاد رسميًّا مع البطاطس الفرنسية المقلية كما يتوقع الجميع، وإنما دخلت مع الفقر، كرقائق طعام حلال مقلية، سميكة نوعًا ما ولكنها عامرة بمذاق حي، ويُوضَع عليها الكمون والشطة لتُؤكَل صباحًا ضمن عربات الفول، وهو ما تطور بعدها ليكون شيبسي أكثر رقة وتهتكًا في أزمنة رأس المال، وقد كان اختراعًا قائمًا على الاحتياج في النهاية؛ فمع تعدد موجات الأسعار السيئة والفقر، كانت البطاطس حلًّا مناسبًا، وقد جاءت قبلها من جبال الأنديز مع اكتشاف الأمريكتين، ثم غزت العالم بعد ذلك بصفتها المحصول الأكثر أهمية في التاريخ، والذي لم يذقه أحد إلا وقال «الله!» بلغته، ليبتكر التجار المحليون طرقًا في زراعتها، ويبدؤوا تداولها طعامًا مسلوقًا، ثم يقليها البعض بلا تعيين؛ لأنها تحتمل الحرارة وتشرب الزيت وتصير سكرية، وقيل إن أول من فعل ذلك بائع فول وطعمية في الدرب الأحمر، قرر أن يقليها ذات يوم عندما لاحظ أنها تشبه الباذنجان ولكن بلون بني وأقل نعومة.
وجده الحاج علوان فرختو خامة مناسبة للعمل الشاق، فاختبره في البداية بسرعة تقشير البطاطس لأمور المطاعم، ثم اختبره في سرعة التقطيع بالطول المناسب. ومع أن مظهره كان مظهر عامل زائف فقد أثبت نفسه سريعًا، وفُوجِئ السيد رمضان الرُّز بما جرى مع اعتدال مزاج حسين كأنه جاء على هوى العمل، فقال لزوجته:
– في بيتنا فواعلي بطاطس.
فقالت زوجته بهدوء:
– ورث يدي جده.
وكان حسين الرُّز ماهرًا في أعمال اليد فعلًا، بعيدًا عن أعمال الفكر التي احتكرها حسن الرُّز، أعجوبة القانون في زمنه؛ إذ قرأ قوانين حمورابي القديمة، وكان يؤكد أنها معجزة بشرية تضاهي معجزة بناء الأهرام، ولأنه أُغرَم بها فقد كان يردد بثقة: «كانوا يُفصِّلون قوانين الليل والنهار بينما نقيم هنا أوتاد فرعون وأهراماته.»
لم يكن مؤمنًا بفضائل الحضارة الفرعونية، وعدَّها حضارة ملوك رغم ما فيها من إنجازات، قبل أن يغير رأيه عندما تبحر في ترجمة عربية قام بها صديق لأحد معارفه، اسمه سليم حسن، لبردية وُجِدت في دير المدينة بالأقصر، وبيَّن في عرض مفيد في محاضرة حلوة بحديقة أنطونيادس بالإسكندرية كيف حُوكِم سارقو مقابر الملوك في زمن حكم الكهنة بطرق تفوق الحاضر دقة، ففهم حينها أن حضارة الفراعنة هذه قد غطت على منجزات حضارية بحديث مكرر بلا بصيرة عن أمجاد الفرعون – الذي هو الرب، وشبَّه جداريات المعابد بجريدة الأهرام الرسمية التي تتحدث عن الملك والسلطان ولا تذكر إبداعات الفلاح المصري العادي في تقسيم أراضيه تقاسيم هندسية ومعرفته الحدود بينه وبين جاره. كان قانونيًّا بالدم. ورغم إدراكه الأصل التركي القريب، عدَّ نفسه مصريًّا حقيقيًّا، وآمن بقضية التحرر وكل أمجاد الأزمنة الجميلة، ولم يكن يذكر أصوله البعيدة في بلاد لم يرَها أمام رجال السلطة والقانون الأتراك أو الشركس، ويكتفي أن يقول: «أنا المصري كريم العنصرين.»
عدَّ الجنس المصري مهدًا واضحًا لأجناس شتى، ودعاوى القومية بالدم رطانة غربية تهدف إلى الشر. ولأنه كان يقرأ بلا توقف، ويتعلم الإنجليزية للتريض العقلي، قدم رسالة مهمة ومثيرة للجدل عندما صار مدرسًا في جامعة الإسكندرية -عندما انتقل إليها- عن نفي الفكرة السائدة التي تؤكد أن الأقباط هم ورثة المصريين القدامى دون غيرهم، فقدم دلائل من وثائق قديمة تؤكد أن أزمنة الماضي كانت بلا مواطنة، وأن الوطن والجنسية اختراعات حديثة، ولذلك؛ استقبلت البلاد وفود الأجناس منذ أيام مينا الأول الذي وحَّد بين الشاي واللبن، فخلق أول كوب شاي بلبن منه فيه في التاريخ – كما كان يقول بطرافة، وظلت تستقبل الوفود حتى أُقِرَّت المواطنة حديثًا مع التطورات الأخيرة التي أنشأها محمد علي باشا، باني نهضة مصر الحديثة، وكان ينهي حديثه بمقولة فاصلة: «وليس من العجب وجود أقباط زرق الأعين في رحم أسيوط، ووجود مسلمين يشبهون تماثيل أخناتون يبيعون الفول واللبن في القاهرة والإسكندرية.» ثم محا كل المجادلات بذكائه القانوني عندما قال: «وهل يمكن أن ينفي أحد مصرية محمد علي باشا مع أنه وُلِد في قولة وله بيت وعزوة هناك؟!»
هكذا صار هو منارة العلم في الأسرة الصغيرة، بينما حاز حسين الرُّز نجاحًا مشهودًا في الناحية المقابلة بصفته «عامل بطاطس»، يعود إلى المنزل برائحة مزيتة، يحمل الخبز وبعض الغموس، ثم يضعها فوق الطاولة، ويُطعِم أمينة -الصغيرة وقتها- من يديه، ويقول لأمه السيدة شاكر: «خير ربنا كثير ولكنه ينتظر اليد التي تفهم.»
وقد تطورت يداه في حياة خاصة بهما فعلًا، فاشتد عوده، واحتفظ بجسد جيد التكوين، بينما آل السيد رمضان إلى ضعف الأفندية وشيخوختهم المبكرة، وامتلأ قوام حسن الرُّز مع استدارة قانونية مميزة وصلعة تميز رجال الفكر الجاد، وهما اليدان أنفسهما اللتان طارد بهما فتيات المساء اللاتي كان يراهن عندما يذهب لتوريد البطاطس إلى محال الفول ومطاعم الطبيخ يقفن بفضول لا يخفى، وينتظرن لحظة وضع البطاطس الساخنة في قراطيس الورق، وقد طوَّر علاقة سريعة مع فتاة اسمها رومية شعبان كان يقول لها ساخرًا: «ها نحن نصالح شعبان على رمضان.» وقد كان فيها شبه غائم بفتاة أحلامه المتكررة، العارية في حمام أبدي، ولكنه وجد فيها طباعًا دنيئة عندما لمحها تداعب صبيًّا بالطريقة نفسها التي داعبته بها أول مرة، فمحاها من قلبه، ولم يرضَ بأقل من الحب المكرس له بالكامل، عندما أدرك بحسه العملي وتمرسه في عمله أن الفتيات الأكثر إخلاصًا وسخاءً هن المطلقات أو الأرامل.
عندما تزوج حسن الرُّز بألفت ابنة عمته عفت، كانت علاقته بحسين قد تخطت الدم إلى الرسمية الباردة؛ فرغم إيمانه بصفته رجل قانون بعدالة عمله، كان يرى الزيت، الذي يفوح منه، عائقًا أبديًّا للاندماج، وكان يحلل الأمور في المستقبل فلا يجد أي توازن في علاقة قرابة بين أبناء قاضٍ وأبناء بائع بطاطس، ولذلك؛ ظل يقول بعد ذلك، بحسرة محسوبة، وعندما ضاع حسين إلى الأبد في الشارع: «كان قرار أبينا خاطئًا منذ البداية. لو بيدي لكنت أرسلته إلى الجيش؛ فهو المكان الوحيد الذي يقبل منتصِفي الذكاء ومثيري الشغب وكارهي الفكر.»
عندما شب حسين الرُّز عن الطوق، اكتشف أن له عادات معلمين خاصة لا علاقة لها بجو الصِّبية والهواة، وكان ذلك في بدايات تألق حسن الرُّز طالبًا في العام الأخير بمدرسة الحقوق، يقرض الشعر ويحاول كتابة الروايات ويظهر كرجل مسخوط بشاربه التركي الكبير وصرامة طبيعته؛ فقد كان حسين مثلًا يتناول الإفطار مع زملائه بسطوة واضحة، ويحدد لهم طرق الحركة والطعام، فلا يحب التعدي العشوائي على طبق فول ولا خلطه بالطعمية، وكان يحتفظ معه بصابونة نابلسي شاهين، يستخدمها كلما أراد، قبل الأكل أو بعده، ويجبر العمال على استخدامها في رصانة لها رائحة حلوة ورثها من الجد حسن الرُّز، الذي كان ينظف أقراص الجبن الرومي بقماشة حلوة كل يوم، ويتأكد من صلاحية دلاء اللبن.
كما كان حسين الرُّز يأتي مقر العمل في مصنع خرِب عند تخوم ابن طولون، وهو يرتدي زي تاجر؛ قميصًا قماشيًّا مع بنطال من الخامة نفسها، وشعره كله مصفف بالفازلين بطريقة الممثلين المعجبانية، ولا يتهاون في عمليات تقطيع البطاطس؛ فعندما كان يرى زميل له يقطع ثمرة بها عفن بني، يصرخ فيه ويلقيها جانبًا، وهو ما قدَّره المعلم علوان فرختو، فكانت عيناه الخضراوان تبرقان في سحنته البحيرية وهو يتحدث عنه، ولكنه توقع أن يتركه حسين الرُّز بعد ذلك عندما قال: «صار أكبر من أن يكون صبيًّا عندي.»
وقد حدث ذلك فعلًا مع إدراك حسين الرُّز لتفرده، فبحث عن عمل آخر يؤهل له النجاح ويعطيه المال الكافي ليبحث عن فتاة الحمام الغامضة، العالقة بطفولته، فذهب إلى مصنع البوتاس الجديد وقتها، ولكنه لم يحب الرائحة، وبحث في ورش إصلاح العربات التي كان يديرها معلمون وأسطوات يهود وأقباط، شربوا الصنعة حتى كيعانهم من الطلاينة، ولكن الشحوم والهباب جعلته ينفر من الأمر رغم حبه الواضح لصور العربات النظيفة وطرائق قيادتها، ثم اكتشف أنه يبحث عن عمل يكون فيه رئيسًا لنفسه، وأن كل هذه حجج نظافة، فقرر الاستعانة بخبرته في البطاطس، وفتح محلًّا صغيرًا لعمل رقائق البطاطس المقلية المُبهَّرة بالشطة والفلفل، قبل أن يضيف إليها البطاطس الفرنسية لاحقًا، وكان الأمر بسيطًا: استدان من المعلم علوان فرختو نفسه، وابتاع طاسة قلي، وكان يعرف بقية التفاصيل عن أماكن شراء الزيت وخلافه، خصوصًا الزيت المستخدم مرات عدة في محال كبيرة مثل جروبي، واستطاع إقامة محل صغير في شارع قريب من جامع السيدة ومن بيته، حيث كان يدخل ويخرج كشبح، ويظهر حضوره فقط بما يشتريه من مؤونة للبيت.
أسبوعان وصار يُرى في هيئة طاهية عالمي: يقف وهو يرتدي مريولًا أبيض، ويقلي البطاطس بتمهل فنانين، ويوزعها في قراطيس ورق على المشترين، وقد علم السيد رمضان الرُّز بذلك فلم يستطع المقاومة، وقال لزوجته: «له دماغ أبويا -الله يرحمه- ولكن بطباع ابن شوارع.»
ظل يؤجل قراره بإبعاده عن الشقة؛ لأنه خشي أن يؤثر بسمعته على سمعة أخيه، حتى حدث الفراق الحتمي عندما تردد أن حسين الرُّز على علاقة بأرملة معلم طرشي كبير، كانت تورد إليه جرادل الطرشي الخشبية، وتُشرِف على غلام سوداني رهيف الحس، له جسد حصان، يحمل الجرادل حتى مكان حسين الرُّز، ثم تقف بجانبه لتأخذ حقها عدًّا ونقدًا.
كانت لها طبيعة رجولية لا تخفى على أحد، تعلمتها من حياة السوق، وهو ما أعجب حسين الرُّز؛ لأنه مخالف لفتاة أحلامه التي ضيعته بالدلال، فبدأ يغازلها بين الحين والآخر، ورأت فيه ابن ناس ضيعه الأمل، فأعطته عينًا، واستقبلته بعدها في محلها أكثر من مرة، حتى تردد الكلام عن زواجهما القريب، وقد جاء حسين الرُّز بالفعل إلى السيد رمضان، وقال له بهدوء:
– أريد الزواج بفتاة أصيلة.
فقال السيد رمضان الرُّز منهيًا النقاش من أساسه:
– لن تدخل واحدة في عمر أمك إلى بيتنا، ولن تناسب البصل المزنخ واللفت.
كان يبالغ؛ لأن الأرملة، التي كان اسمها فاتن عباس فتيحة، كانت تكبر حسين الرُّز بخمسة أعوام فقط، وتملك فضيلة عدم ظهور علامات السن عليها، ولكنها كانت ذريعة لإعلان غضبه على قراره القديم الذي ضيع حسين تمامًا، وأعطاه مسوغًا ليكمل طريق ضياعه بلا تعليم.
تتذكر السيدة أمينة رمضان الرُّز مشهد خروج أخيها دائمًا وهو مغلف بغبش الطفولة، وتُكسِبه نكهات لم تكن فيه لتحكيه لأحفادها كأنه مشهد فيلم قديم، كما كانت تتذكر حسين في هيئة لم يكن عليها: نصف شيطان يواجه أباها بصوت عالٍ ويُشوِّح بيديه. وهو ما لم يحدث فعلًا؛ فقد تلقى حسين الرُّز الرفض بلا اهتمام، ودخل غرفته، فجمع أغراضه، ثم خرج من البيت بلا ضجيج. ولم يكن قراره سوى ابتعاد حتمي عن بيت يعامله معاملة الأطفال، كما أنه كان قد ضاق بتمييز حسن الرُّز، وكتبه التي تملأ الأرجاء، وتعاملهما الفاتر معًا. ورغم بكاء أمه الشديد بعدها، طمأنها أنه سيبعث إليهم إخطارًا بين الحين والآخر ويزورهم، ثم قال: «وفي النهاية، سأظل في السيدة؛ فهي البقعة التي كتبها ربنا علينا.»
تحكي السيدة أمينة رمضان الرُّز أن حسين الرُّز لم يكن قط شقيقًا حانيًا، يقترب ليدللها كما يفعل حسن الرُّز، كما أنه لوث الشقة كثيرًا برائحة العرق والبطاطس، ولكن الحقيقة أنه كان يُقبِّلها كثيرًا ويلاعبها بضمير، بينما ظل حسن محتفظًا بمسافة علمية محايدة من العاطفة، غير أن السيدة أمينة رمضان الرُّز كانت تُقدِّره أكثر من تقديرها لحسين؛ لأنها كانت مصابة بداء تقدير العازفين عنها وبخلاء المشاعر منذ نعومة أظفارها؛ إذ نشأت بعاطفة حادة، تخضع لأهواء القلب وحده، وكان حسين الرُّز يشبهها في ذلك بصورة لافتة، وهو ما جعلها تشوه صورته القديمة المبكرة هذه، حتى تُدلِّل أن ما فعله بعدها متوقع. وعندما ماتت أمها، بعد الخطبة السريعة لحسين الرُّز على فاتن عباس فتيحة، إثر مرض غامض، فسرت ذلك -كما قال أبوها- أنه لنشوز حسين الرُّز، وإصراره على إدخال عِرق الطرشي في الأسرة، ولم يعرف أحد أبدًا ما كانت الأم تفكر فيه فعلًا، ولكن السيدة أمينة أجملت كل شيء بقولها: «كان العالم عالمًا والدنيا دنيا قبل أن يتلفها حسين.»
