
في حوار مع مجلة المركز، تتحدث الروائية البحرينية ليلى المطوع عن نصوصها وما يؤثر عليها. نشرت ليلى روايتها الثانية «المنسيون بين ماءين» منذ شهور قليلة، كتب عنها عدد كبير من النقاد والروائيين العرب، في حفاوة لم تتكرر منذ مدة.
TMR
المركز: كيف تعرِّفين ما تكتبين؟
ليلى: أكتب من خلال مشاهدَ عالقةٍ في الذاكرة، ثمّ ينمو المشهد في مخيلتي، يخلق شخوصه وبيئته وأحداثه، أكتب معتمدةً على متعتي المتمثلة في الاكتشاف، في رحلة البحث، وفي معرفة ماذا سيحدث، وهكذا أبحث في هذه الجزيرة، في الكتب، والخرائط، وفي ذاكرة كبار السنّ، المعرفة تأتي لاحقًا. النصّ مثل الإنسان لا يكشف عن نفسه إلّا حين يمضي في طريقه، حين يأخذ وقته في التكوُّن، لتتملّكني الدهشة حياله. النص الذي يأسرني سنواتٍ لأُتمَّهُ هو النصّ القابل للنموّ، أراه كائنًا حيًّا.
المركز: ما الحدث صاحب التأثير الأكبر على ما تكتبين؟
ليلى: لطالما أحزنني مشهد البحر المسجون في مكعّبٍ رمليٍّ، حين تُحاوَط مساحاتٌ منه وتُقسَّم في مربّعاتٍ استعدادًا لدفنه، هذا المشهد حين لا يستطيع البحر أن يجزر بمائه فيفرّ، ولا يمدّ ماءه فينتقم، مشهدُ سكونه وهو محاصرٌ بلا قوّةٍ، طُوِّقت ذراعاه، ثم يبدأ ماؤه بالركود، يخضرّ، تتغيّر رائحته، يتعفّن، وتأتي الشّاحنات بالرمل لتخنقه.
هذا المشهد وغيره من مشاهد علاقتنا بالماء، مثل مشهد طفولتي حين تصف جبالًا من الرمال قرب الساحل، فيتلاشى ازرقاقه، ويتحوّل إلى رملٍ. كان هذا المشهد مرعبًا، ولكأنّ هناك كائنًا حيًّا في آخر أيام حياته، وأمامه كومةٌ من التراب لدفنه، نودّعه مثلما نودّع الجثث.
أشعر أنّي خُدِعت؛ إذ إنّ ما ظننته يابسةً كان بحرًا مدفونًا، منزلي الأول كان على بحرٍ مدفونٍ، والنوارس – حين تقف في الصباح على الأرصفة صارخةً – تنهرني، تُذكّرني بأن هذا بحرها، وأني أغتصبته منها، وقتلته. إن الطبيعة تتربّص بنا، حتى لو ظننا أن صمتها يعني استسلامها لواقعٍ فرضه البشر عليها. وهذه الجزيرة منذورةٌ للغرق، وهذه النبوءة التي تتنبأ أن البحرين ستعود للماء تدفعني إلى طرح الأسئلة. لذلك كان موت البحر وغدرنا به هما صاحبي التأثير الأكبر.
أضفْ إلى ذلك، أحاديثَ كبار السنّ في الجزيرة ممّن يعرفون المكان من حدود البحر؛ فنحن أهل ماءٍ، هكذا نعرف حدودنا، ونرسمها. «كان البحر هنا، ثم دفن»، دائمًا ما تبدأ الحكاية والحدود والذّاكرة بهذه الجملة.
المركز: ماذا تقرئين الآن؟
ليلى: أقرأ الأجزاء الخمسة لكيليطو، وأعمال الروائي الكبير أمين صالح.
المركز: ما الشخصية الخيالية التي تفضّلين أن تكونيها؟
ليلى: تعامة، الإلهة السومرية التي نَبَع نهر الفرات من عينها المالحة. فمن ملوحة تعامة، وهي البحر أو المحيط، جاء نهر الفرات الذي يدل اسمه على العذوبة.
أُريد أن أكون ماءين، مثلما أنا الآن، بحرينية، أي مخلوقة من ماءين: عذبٍ ومالحٍ.
المركز: ما «مخدرك» المفضل؟
ليلى: المشي والتنزّه وسط مزارع النخيل حتى أصل إلى البحر. أتأمّل كل ما حولي، وأشعر أني في عالمٍ موازٍ. فبينما يتراكض مَنْ حولي، يندفعون نحو قمّةٍ لعلّها تُحقق طموحهم وهم مأسورون بها، أسير أنا ببطءٍ، أُكوّن أسئلتي الخاصة التي تنقلني إلى عالمٍ خلقتُهُ، عالمٍ لا جواب فيه ولكنّه يسحرني. في حكاية أخرى أكون أنا السلحفاة، ومِنْ حولي يتقافز الأرانب الذين ضلّوا الطريق.
مخدّري هو البطء والتأمُّل، ولا أصل إليه إلّا حين أتنزّه.
