مقتطف من رواية نورا ناجي: بيت الجاز

30 December, 2024
رضا عبد الرحمن، «سر»، تيمبرا وأكريليك على لوح، 8×10.5 سم، 2021 (بإذن من الفنان).
حصريًا، ننشر مقتطفًا من أحدث روايات الكاتبة المصرية نورا ناجي «بيت الجاز»، تصدر الرواية قريبًا في معرض القاهرة للكتاب يناير 2025 عن دار الشروق.

 

نورا ناجي

 

تصدر رواية «بيت الجاز» قريبًا عن دار الشروق.

سقطت مرمر أمام عينيّ يمنى كما يسقط الكوب من يدها في لحظة غافلة، وكما يسقط رماد سيجارة أبيها، وكما ستشعر دومًا بأنها تهوي لأسفل. يسقط شيء ما داخلها في لحظات الخوف والقلق والحزن والألم والانهزام. يهوي إلى قدميها ويتركها فارغة، وكأن ما يشغل فراغ جسمها ليس الأعضاء التي تعرفها وتحفظ مواضعها وأسماءها ووظيفتها، ليس القلب والرئتين والمعدة والكبد والطحال والأمعاء والرحم والدماء والشرايين. بل هو شيء أكبر، مثل خرافة، مثل نفسها الصغيرة، مثل هيئتها المنكمشة أسفل طبقة خارجية بذات الملامح وذات الملابس وذات الأفكار والمخاوف.
هي امرأة داخل امرأة، امرأة تعيش تحت جلدها، لا تفعل شيئًا سوى تأمل لحظة اشتعال مرمر، وامرأة خارجية، تذهب إلى المدرسة، وتتفوق في دراستها، وتدخل كلية الطب، وتحتفل مع العائلة، وتخرج مع الأصدقاء، وتبكي وتفرح وتتزوج، ترتدي فستان عرس أبيض وتستسلم ليدي الكوافيرة وهي تغطيها بالمكياج والألوان والطرحة المطرزرة بالكريستال اللامع. وتستسلم لجسد رجل يخترقها ويسحقها أسفله كلما أراد، وتنجب طفلة لم تردها، وتبدأ في تحضير الماجستير، وتعمل في مستشفى الجذام بروح متبلدة أمام أجسام ناقصة وهشة.
لن تعرف نفسها أبدًا. ولن تستطيع إلقاء نظرة على نسختها المبطنة لجسدها الحقيقي. لكنها تشعر بها وكأنها تذوب أسفل قدميها كلما أقدمت على شيء، كأن تقول لا، لا أريد دخول كلية الطب، لا أريد الزواج من هذا الرجل، لا أريد إنجاب تلك الطفلة، لا أريد أن أعمل في هذه المستشفى، لا أريد أن أجلس أمام مكتب معدني متسخ أكتب روشتات معادة لأدوية لا تتغير لمرضى لا يتغيرون ولا يتحسنون ولا يتحولون إلى أي شيء. نفس الوجوه والأصوات والنظرات الخائفة داخل عينين مثل ثقبين ضيقين. لا تواسيهم بجملة عابرة، ولا تسأل عن حالهم. لا شيء سوى وصفات لأدوية يأخذونها بانتظام، يتناولون الروشتة، ويرحلون، بلا أثر متخلف عنهم، لا رائحة عطر ولا عرق، لا صوت ولا بحة ولا حتى دعوة طيبة للطبيبة التي تهتم بهم، لأنهم يعرفون بأنها لا تهتم، وأنها ستغادر المستشفى في الساعة الرسمية لانتهاء العمل، وستذهب إلى العيادة الراقية في وسط المدينة، لترتدي معطفًا أبيض ناصعًا أنيقًا يحمل اسمها وشعار العيادة، وتضع نظارتها المعتمة على عينيها، وتزيل شعر النساء الجميلات من مناطقهن الحساسة بجهاز الليزر. ستجلس لترى الكثير من الفروج والسيقان والأذرع والظهور والبطون والآباط. تضع النظارة المعتمة وتطلق دفقات الليزر على المناطق المحددة. تتأوه السيدة من ألم الومضة، تتشنج يدها أو ذراعها أو فرجها، ثم تعتاد الألم. كل الألم يمكن الاعتياد عليه. كل الآلام مجرد ومضات حارقة تتلاشى في لحظات. هذا ما آمنت به يمنى. ولهذا عليها أن تتمسك بقرارها.
ستسقط يمنى الطفل في بطنها. ستسقطه إلى أسفل ليتلاشى. لن تستطيع أن تنجبه أبدًا، لن تستطيع أن تعيش تلك اللحظات مرة أخرى. أن يتكون شخص آخر داخل جسمها، ثم يلفظه. قصة مرمر التي تحكيها النسوة على مصاطب الشوارع في حيها القديم منحتها ربما ما يشبه الأمل. أو الغضب. أو شعورًا آخر لا تعرفه.
يقولون إن الطفلة لم تعِ ما حدث لها، لم تفهم أن ثمة شيء يخترقها في تلك الليلة، وسط أبخرة الحشيش والظلام والرائحة الرطبة للبيت الغريب، مثل بيت الأساطير، كل غرفة في هذا البيت تحوي قصة، وتحوي أشخاصًا لا يعرفون أنهم محض قصص في مخيلة أحدهم. تفكر كثيرًا في هذا البيت وهذه العائلة، وكأنها تنتمي بشكل ما إليهم، أحيانًا ما تحسدهم، ربما على العيش من السطح. الحياة بأكملها لا شيء سوى لحظات تافهة تمر، لا ماضٍ ولا مستقبل، مجرد لحظة حالية، حاضر مستمر. تجلس النسوة على المصطبة أمام البيت يجففن أرغفة الخبز ويطحنّها ثم يبعنها لمحلات الطيور والحيوانات، أو يرسلن بناتهن إلى البيوت لخدمة آخرين، أو يخدمن هن آخرين، يحصلن منهم على نقود قليلة وثياب قديمة وأحذية ممزقة. هؤلاء النساء والأطفال والرجال الذين يرتدون ملابس آخرين وأحذية آخرين، مجرد نسخ مقلدة، كل هؤلاء البشر أمام عينيها يعيشون حيوات ليست لهم، هم بلا حيوات أصلا، مجرد أجساد شمعية تتحرك، مجرد بالونات منتفخة تطير.
لكنها كلما عادت من المدرسة ورأت حذاءها القديم الذي صار حذاء مرمر، على عتبة البيت، بينما تقف البنت بالداخل حافية تغسل الصحون أو تساعد أمها في تنظيف غرف النوم، تشعر بأنها هي من يتخلى عن حياتها، أو أنهما تتبادلان الأماكن، جزء منها يتحول إلى مرمر، وجزء من مرمر يتحول إليها. ربما لذلك، لا تستطيع أن تتخلص من طيفها داخلها، من مشاعرها التي انتقلت إليها. كل الألم، والتجمد والحيرة والقلق والتعب والخوف، وأيضًا الاحتراق.
من هذا البيت، يخرج الرجال بعربة الجاز ليتجولوا في الشوارع بلا هدف، حتى حصانهم الذي نفق بعد سقوط مرمر بشهور، بدا وقتها مثلهم، لا يشعر بشيء، يسير بهم في الشوارع ويعود لينام واقفًا بجوار جدار، لا فرق كبير بين الحصان وبين أي إنسان في هذا البيت، وأحيانًا ما تفكر أنه لا فرق بينه وبينها أيضًا، هي كذلك تسير مغماة العينين، تجر قاطرة من الأفكار والهموم وحياة اختارها لها آخرون. هي مثل مرمر، لا ينقصها سوى صفيحة جاز وعود ثقاب وسطح تهوي من أعلاه لتصل أخيرًا إلى نقطة جديدة.
تتحدث النساء، جاراتها القديمات اللاتي يزرن المستشفى طلبًا لعلاجات لا يحتجنها، وممرضات المستشفى، وبائعة ورد المقابر، بأن القبر الذي دفنت فيه مرمر صار ضريحًا لأجنة مجهضة. اختارت النساء أن تدفن تلك الكتل المبهمة المدماة التي تسقط فجأة من أرحامهن بجواره، أسفل التراب أو حتى فوقه بعد مداراته بأوراق وأكياس. لو كان جنينًا أكبر سيدفعن رشوة لصبي اللحاد من أجل أن يدفنه داخل القبر، علهن يراضين مرمر بأطفالهن الذين لم يوجدوا قط. وكأنهن يمنحنها عوضًا عن طفل لم تره، سقط من نافذة حمام حقير في مستشفى جامعي أمام عينيها دون أن تتمكن من إنقاذه.
كل هؤلاء الأطفال المجهضين، الأجنة بلا ملامح، أو بملامح بارزة مثل كائنات فضائية، رؤوس ضخمة شفافة وذراعين مثل زعانف سمكة وظهور محدبة وسيقان ملتوية. كل التحولات التي درستها سنين في كلية الطب، وشاهدتها في الصور التوضيحية وامتحنها فيها الأساتذة شفويًا وتحريريًا، كلها ترقد تحت التراب بجوار وداخل قبر مرمر. وعليها أن تضيف إليها تحول جديد، لجنين يبلغ من العمر ثلاثة أسابيع فقط.
ربما تقدر على إضافة أسبوع آخر إليه، لتجعله في الأوراق الرسمية ينتمي فعلًا إلى زوجها. لكنها ستعلم دومًا، أن هذا الطفل ينتمي للحظة عابرة، تحول فيها الخيال إلى حقيقة. لحظة ما استسلمت لرجل آخر، ونسيت كل ما تتشبث به من أفكار والتزامات ومسؤوليات. لحظة نسيت فيها أنها زوجة، وأنها أم، وأنها ابنة، وأنها طبيبة، وأنها تسخر من النساء اللاتي يفعلن ذلك، وتحكم عليهن وتندهش منهن.
كل الحكايات التي تحكيها الممرضات، والمريضات، والصديقات وأصحاب المشاكل على صفحات الفيسبوك، والمتصلات بالشيوخ في برامج التلفزيون، لم تحمها من الوقوع في نفس التجربة. من السقوط في تلك الهوة التي ابتلعتها، على شيزلونج جلدي أسود فوقه كشافات ضخمة. شيزلونج تكرهه لأنه بشكل ما يذكرها بأضرحة تقديم القرابين، أو هكذا قالت لطبيب الأسنان الجديد في الغرفة المجاورة لغرفتها في العيادة الخاصة التي بدأت العمل بها قبل شهور. الطبيب الذي يشبه نور الشريف جدًا، حتى بنفس كرمشة الأنف عند الابتسام. والذي ينظر إليها دومًا بانبهار لم تره من قبل سوى في أعين رجال خيالها.
اليوم، بينما تجلس على قاعدة الحمام، تنظر إلى الخطين الداكنين، تعرف أنها سقطت في تلك الهوة بسبب نظراته تلك. النظرات التي تختلف عن نظرات زوجها إليها، ربما عليها أن تقول : اللا نظرات، لأنها تشعر أحيانًا بأنه لا يراها. هي مجرد كائن يعيش معه في نفس البيت، ويربي له طفلته، ويعد له طعامه، مجرد طيف يمكن أن يتجاوزه ببصره لينظر إلى أشياء أهم، شاشة الموبايل، وخزانة ملابسه عندما يقف استعدادًا للخروج، وابنته ومرآته.
عندما شعرت بحملها رغم اللولب داخل رحمها، ورغم سفر زوجها الذي استمر شهرًا هذه المرة، لم تندهش، ربما توقعت ذلك، أن يعاقبها الكون فورًا على الخطأ الوحيد الحقيقي الذي وقعت فيه. وكأنه اختصار لخياناتها الوهمية المستمرة لزوجها داخل خيالها منذ زواجهما إلى اليوم. أحيانًا ما تشعر بالذنب، لأنها تتخيل زوجها رجلًا آخر في السرير، تتخيله واحدًا من أبطال خيالاتها، ممثل تركي أو سوري أو أجنبي أو مصري، كل فترة تختلق بطلًا جديدًا لأحلامها طبقًا لآخر مسلسل شاهدته وأعجبها، تبادله الحديث طوال اليوم، وتبتسم من مزاحه وهي واقفة في المطبخ وحدها أو بين الكشوفات الطويلة أو وهي جالسة لساعات توجه جهاز الليزر لأجسام النساء، أو وهي تسير في الشمس من البيت إلى المستشفى كل يوم. تشعر بالذنب من كل العشاق المتخيلين، وكأنهم هم آباء هذا الطفل وليس الرجل الحقيقي الوحيد الذي سمحت له بلمسها.
الوحيد؟ على يمنى أن تعترف اليوم، بينما تتأمل مصيبتها الكبيرة المتجسدة في الخطين الداكنين، أنها ليست بهذه البراءة، منذ رأت جسم زيزو فوق مرمر عبر شباك البيت وهي تشعر بشيء ما يأكلها من الداخل. شيء مُلح يدفعها لفعل أمور لا تفهمها، ولا تدري حتى بأنها تفعلها. حركات ونظرات وإيحاءات تخرج منها رغمًا عن إرادتها، وتشعرها بالذعر إن استجاب أحدهم لها، فتهرب فورًا.
تذكر مثلًا وقوفها في فناء المدرسة الإعدادية، تنظر بثبات إلى مدرس العلوم الجالس على ديسك خشبي يراجع كشاكيل الطلبة، مدرس ضئيل الحجم بوجه نحيل وشعر خفيف، لكن عينيه الزرقاوين شغلتاها، وقفت تنظر إليه طويلًا حتى رفع عينيه ورآها، ارتبك لأنها لم تتحرك ولم تدر وجهها، كل يوم، تقف أمامه هكذا، تنظر إليه فيتصبب عرقًا.
ذات يوم، تبعها وهي تغادر المدرسة، سار وراءها طويلًا، عبر الشوارع التي تعمدت السير فيها، شوارع تبعدها أكثر عن البيت وعن المدرسة، تلتفت إليه فيسرع للحاق بها لكنها تستدير وتركض هاربة.
استمرت في ذلك أيام طويلة، ثم بادرت بالتوقف والحديث، وبادرت بإرسال الخطابات العاطفية التي أذابته تمامًا، سمحت له بلمس يدها، والالتصاق بها أحيانًا في الشوارع الهادئة، ثم قاطعته. توقفت عن النظر إليه، وتوقفت عن السير طويلًا بعيدًا عن المدرسة، صارت تركض مسرعة إلى البيت مع زميلاتها. وفي المدرسة، لم تنفرد بنفسها قط لتمنعه من الاقتراب منها حتى استسلم، اكتفى بالنظر إليها نظرات مستعطفة مثل كلب جائع حتى انتهت السنة الدراسية، وفي السنة التالية علمت بنقله إلى مدرسة أخرى.
هذا ما تفعله دومًا، قبل ارتداء الحجاب، كانت تسمح لمصفف الشعر بلمسات غير بريئة على عنقها وجيدها، ولصاحب مقهى الإنترنت بتقبيل يدها، ولمدرس الرياضيات في الدرس الخصوصي بأكثر من ذلك، وفي كل مرة، بعدما تنال ما تريده؛ تلك النظرات المتلهفة نحوها، تلك اللمسات التي تشعر بها مثل قطع ثلج على جلدها، تتحول إلى شخص آخر، متجمد، أعمى، أصم، غريب. تتجاهل أصحابها حتى يملوا ويبتعدوا.
لماذا تفعل ذلك؟ لم تطرح السؤال من قبل على نفسها، لكنها تتساءل اليوم بينما تتأمل اختبار الحمل، الخطان اللذان تكونا ببطء أمام عينيها، واضحان جدًا، على عكس الاختبار الأول الذي بشرها بالطفلة، بدا الخطان فيه باهتين، مترددين ربما مثلها في ذلك الوقت، بين السعادة والخوف، وبين الحياة الجديدة التي تنتظرها، والحياة الجديدة التي تتكون في بطنها.
الخطان الواضحان حاسمان مثل قرارها بإجهاض الطفل الذي لا تعرفه، ليس طفلًا حتى، مجرد كيس صغير يقبع ساكنًا في نقطة ما على جدار رحمها، كيس بلا روح، ستسقطه دون ذرة ذنب، ودون أن يشعر بوجوده أحد. ماذا سيتغير في العالم لو لم يأت هذا الطفل؟ هل ستتوقف مثلًا الحروب في العالم؟ هل سيخترع عندما يكبر دواءً للجذام يعيد الأعصاب لحاملي المرض؟ أو يمنحهم أطرافًا جديدة، أو يعيد لهم شعورهم بالحياة العادية التي تعبر من حولهم دون أن يعوها؟ مجرد كيس لن يعيد ميتًا إلى الحياة، ولن يميت حيًا، ولن يمنحها دهشة رؤية شخص جديد يتكوّن أمامها. ستسقطه ببضع حبات تأخذها كل يوم إلى أن يهوي إلى قاع المرحاض، ثم ستشد عليه السيفون ليتلاشى دون صخب. أو ستلتقطه لتدفنه إلى جوار مرمر كما فعلت وتفعل النسوة في حيها أحيانًا. يدفن الأجنة في قبرها أو أسفل عتبات بيوتهن بلا قلب. الإجهاض ليس قاتلًا كما تصور الأفلام والقصص. مجرد سقوط كتلة متماسكة من دماء الدورة الشهرية، مثل الفوط الصحية التي تلقيها في صفيحة القمامة بلا تفكير. هذا ليس طفلها، تردد في ذهنها عدة مرات لتتمكن من كتابة الروشتة، وختمها بختم العيادة وصرفها من الصيدلية. هذا ليس طفلًا ستقتله، ولا هو جزء من جسمها ستدفنه مثل ساق مبتورة، وتكمل حياتها بشعور أنه لا يزال موجودًا. ستنساه فورًا، بعد أيام من الإنهاك والألم، ستتظاهر أنها تعاني من نزيف حاد هذا الشهر، وستجلس في بيتها مدعية المرض لتحصل على إجازة قصيرة. ثم ستعود مرة أخرى إلى الشارع والعمل، ستزور بيت أهلها دون أن تحكي ما حدث وقبل أن يعود زوجها إلى البيت، وستأخذ الحذر أكثر، لن تثق في لولب ولا حبات، حتى تتمكن من أخذ قرار حاسم بالطلاق أو الهرب أو الموت، ولأنها لا تملك شخصًا ينتزع منها الطفل ويلقيه من شباك بعد ولادته، عليها أن تفعل كل شيء بنفسها، وعليها أن تفعله فورًا. ثم تعود إلى حياتها الميتة.
ما يزعجها فعلًا، هو أنها لم ترتجف أو تبكي أو تستغفر الله أو تخبره بأنها لن تفعل ذلك مرة أخرى، يرعبها عدم إحساسها بأي شيء، لا خوف ولا قلق ولا اضطراب ولا ارتباك، لا شيء مما تراه في وجوه المريضات اللاتي يطلبن نجدتها أحيانًا، أو في وجوه الممثلات في الأفلام. لم تشعر بشيء فعلًا. تبلد لا يمكن التعبير عنه، سكون تام، تجمد في أفكارها لدرجة أنها لم تشعر بمرور الوقت حتى طرقت مساعدتها الباب لأن المرضى ينتظرونها. يبدو أن ثمّة شيء انكسر داخلها ليلة رأت ما رأت، شيء انتزع براءتها وتركها ببراءة مزيفة تحاكي براءة بطلات الأفلام والمسلسلات التي تراها، براءة تمثيلية، يبدو أنها أفضل من كل الممثلات التي تنبهر بأدائهن.
أخفت الاختبار في جيب معطفها وعدلت حجابها في المرآة، نظرت إلى وجهها فلم تر نفسها، رأت مرمر، تنظر إليها وتبتسم نفس الابتسامة التي سبقت الموت.

 

نورا ناجي، صحفية وروائية مصرية، من مواليد طنطا سنة 1987. تخرجت في كلية الفنون الجميلة. صدرت لها خمس روايات منها «أطياف كاميليا» الفائزة بجائزة يحيى حقي، وكتاب غير أدبي بعنوان «الكاتبات والوحدة»، ومجموعة مثل الأفلام الساذجة الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية، وتعد رواية «سنوات الجري في المكان» عن دار الشروق أحدث رواياتها.

بيت الجازروايةنورا ناجي

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member