بعد الإمساك بهم، يظل ضحايا داعش محبوسين في مخزن بمدينة الموصل.
ضياء الجبيلي
في الماضي، قبل سنوات بعيدة، حينما كانت تتمنى أن تتحول إلى فتاة حقيقية من لحم ودم، اشتراها رجل من محل لبيع الدمى في مدينة الموصل، وقام بإهدائها لابنته غادة البالغة من العمر سبعة أعوام، بمناسبة تفوقها في المدرسة، وانتقالها للصف الثاني الابتدائي.
كانت غادة فتاة طيبة، مهذبة وجميلة، لا تعمد إلى خلع أطرافها، أو اقتلاع سرّتها، كما تفعل الأخريات، ما أن تشعر الفتاة منهن بالسأم. كانت تحممها، تمشط شعرها، تلبسها ثيابًا تخيطها والدتها، تهدهدها وتلّف عنقها بوشاح أرجواني طيلة الوقت، وتنومها على صدرها إلى أن تغفو وهي بين ذراعيها. وفضلًا عن ذلك أسمتها تالا، وكانت تصحبها معها أين ما ذهبت، باستثناء المدرسة.
حين كبرت غادة، ودخلت الجامعة، لم تتخل عن دميتها، أو ترميها في مكان مظلم من الخزانة، أو تهبها لفتاة من عائلة متعففة، بل احتفظت بها، وعلقتها أعلى مرآتها.
فجأة، في يوم من أيام شهر حزيران عام 2014، هجرت العائلة منزلها، لأسباب بدت مجهولة لتالا في حينها. لكنها استشفت، من خلال حالة الذعر والإرباك، أنها كانت بصدد الهروب من شيء ما، يبدو خطيرًا ويهدد حياة أفرادها. لم تصحبها غادة معها. منذ فترة طويلة وهي لا تفعل ذلك، بحكم تقدمها بالعمر.
بقيت تالا في المنزل، وحيدة، لا تعرف ما العمل، وماذا تفعل. تقضي وقتها بالنظر، من وراء زجاج النوافذ، بانتظار عودة غادة وعائلتها، لكن من دون جدوى. لم تكن تعلم ماذا يحدث في الخارج، كانت تسمع أصوات أعيرة نارية فحسب استمرت ليومين، قبل أن يعم السكون في اليوم الثالث.
«الحرب» قالت في سرها، «ومن عساها تكون؟».
في ذلك اليوم، ليلًا، سمعت تالا جلبة آتية من الحديقة. استبشرت خيرًا، وكل ظنها أنها عائلة غادة، وقد عادت إلى المنزل أخيرًا. لكنها صُدمت فيما بعد، حينما اكتشفت أنهم ثلاثة أشخاص مسلحين وملثمين، كسروا قفل الباب ودخلوا إلى الصالة، حيث كانت هي ملقاة هناك، على إحدى الكنبات. بات الأشخاص الثلاثة ليلتهم تلك، في المنزل. وفي الصباح غادروا، بعد أن أخذوا معهم بعض الفرش والأواني المنزلية، بالإضافة إلى تالا، فقد قام أحدهم بالتقاطها، وشرع بتفحصها، ليتأكد من أنها ما زالت قادرة على إصدار ذلك الصوت، الذي يحاكي البكاء، وهو ينبعث من سرتها.
كانت تالا تجهل ماذا يفعل هؤلاء بدمية صغيرة مثلها. ظنت أنها أعجبت الرجل الملتحي، الذي التقطها، وصار في نيته أخذها إلى ابنته الصغيرة، لتلعب معها. إلا أنها فوجئت برميها في غرفة مظلمة، في مكان مجهول من هذه البلاد العجيبة، التي لا تعرف الاستقرار. ولم تعلم تالا أين هي، إلا في صباح اليوم التالي، عندما استيقظت، ووجدت نفسها، مذهولة، في غرفة وضيعة أشبه بمخزن للبضائع، محاطة بدمى مختلفة الأنواع والأحجام والأشكال، وكانت تنظر إليها على نحو غامضٍ، وبأعين مرتابة لم تتبين نواياها، حتى سألتها دمية أنابيل عن اسمها.
«تالا» أجابت.
«أهلًا بكِ في سجن الدمى..»، قالت الدمية أنابيل، بعد أن فرقت بقية الدمى عنها : «تمنّي ألا تكوني التالية!».
لم تفهم تالا ماذا عنت الدمية المخيفة بقولها:
«ماذا يحدث هنا؟».
لم تكد تالا تنهي سؤالها، حتى سمعت صوت دمية جورب عند الباب، وهي تردد كلمة غامضة، فهمت تالا على الفور، أنها كلمة تحذير:
«آآآآرياريا!».
استلقت الدمى، في أوضاع تحاكي الجثث الهامدة، في كل مكان، وفعلت أنا مثلها، وكأني تلقيت تدريبًا مسبقًا على ذلك. سمعت بعدها صرير الباب وهو يُفتح، ثم وقع أقدام ثقيلة على البلاط. يبدو أن شخصًا ما دخل في تلك الأثناء، وراح يرفس الدمى في طريقه، مزيحًا إياها بقدمه، وأحيانًا يسحقها، فتصدر تلك الأصوات، التي تتميز بها دمى القماش والسيليكون والدمى المطاطية الناطقة عن غيرها. توقف على مقربة من تالا، التي سمعت أنفاسه وهو ينحني، ليلتقط دمية الى جانبها، ثم يغادر الغرفة.
نهضت الدمى، وراحت تتفقد بعضها البعض، وسط اللغط والضجيج، اللذين سادا في المكان، حول الضحية التالية.
«أين باربي؟» صاحت الدمية أنابيل، «هل رأى أحد منكم باربي؟».
صمت الجميع، في حالة من الترقب، قبل أن تعلن دمية بينوكيو قائلة بصوتٍ أشبه بالنعي: «باربي مفقودة!».
وقالت دمية من النسيج مؤكدة:
«لقد أخذوا باربي!».
أجهش الجميع بالبكاء، كالأطفال، باستثناء دمية كبيرة اسمها آنا كارنينا، ظنت تالا بداية أنها ربما تكون فتاة حقيقية، على كبر حجمها واقتراب شكلها من شكل فتاة في الثامنة أو التاسعة عشرة من عمرها. ولا تبدو هذه الدمية الفتاة عابئة بما يحدث، وقد يكون هذا هو السبب في ازدراء بقية الدمى لها. إنها تحشر نفسها طيلة الوقت، في زاوية، وتشغل فراغها بطلي شفتيها بقلم أحمر، بينما هي تنظر في مرآة صغيرة. كانت ترتدي ثوبًا، أقل ما يقال عنه أنه ثوب فاضح من أجل الإثارة. حدست تالا منذ البداية، أنها منبوذة من قبل الجميع، ومعزولة، لا أحد يقترب منها أو حتى يكلمها. ألقت عليها نظرة غريبة، غامضة، ثم عادت لتنظر إلى المرآة. سألت تالا الدمية أنابيل عنها، فنصحتها هذه بألا تدنو منها كثيرًا.
«لماذا؟» سألتها.
«لأنها فتاة سيئة!» ردت.
«أين أخذوا باربي؟» سألتها مجددًا.
«إلى ساحة التدريب!».
ردت الدمية، وهي تمرر سبابتها على نحرها، في إشارة إلى عملية النحر.
«حقًا؟!» هتفت تالا مذعورة.
«أجل..» ردت الدمية، «إنهم يستخدموننا لتدريب الأطفال على كيفية نحر الضحايا!».
من شدة الخوف، لم تنم تالا في تلك الليلة، خصوصًا وأنهم أخذوا آنا كارنينا، إلا أن أحدًا من الدمى لم يكترث لمصيرها، أو حتى يفتقدها، باستثناء تالا.
«لا تخشي عليها..» قالت الدمية أنابيل «تعرف كيف تنقذ نفسها!».
«كيف؟» سألتها.
«ألم أقل لكِ من قبل؟» صاحت الدمية وكأنها تنهرها «إنها فتاة سيئة.. سيئة!».
عندئذ، فهمت تالا، مرددة : «ربما ليست أكثر منك سوءًا، وأنتِ أنابيل، الدمية المرعبة!».
وفعلًا، ما أن أشرقت شمس اليوم التالي، حتى ألقوا آنا كارنينا في الغرفة مجددًا.
في ذلك اليوم، أخذوا دمية ماتريوشكا مع بناتها السبعة، فضجت الغرفة بالبكاء والعويل، وتعجبت تالا، كيف سيتعاملون مع دمية الخشب هذه.
كانت تالا قد بدأت بالاقتراب من آنا كارنينا، متجاهلة تحذيرات الدمية أنابيل، حتى تعرفت عليها عن قرب، وأصبحتا صديقتين، مما أثار ازدراء الدمى في الغرفة.
«كيف أدخلوك؟» سألتها تالا، «أعرف أن هذا النوع من الدمى محظورًا في هذه البلاد!».
«وصلت من الصين عن طريق التهريب..» أجابت آنا، «اشتراني من السوق السوداء شخص أعزب، في منتصف العمر، يسكن لوحده في شقة، وسط المدينة. عاملني كما لو كنت زوجته، وقلما كان ينال متعته مني. أطلق عليّ هذا الاسم بعد قراءته كتابًا ضخمًا، قد تكون رواية. كانت له أمنية غريبة، هي أن ألد له طفلًا، رغم علمه أن ليس بوسع الدمى فعل ذلك. كان وديعًا، وكئيبًا، ويفضلني على النساء الحقيقيات، اللائي يقول عنهن، أنهن متبجحات ودائمات التقلب، وخائنات. كنت ما أزال أسكن معه، حتى تم أسري، حين داهموا الشقة، ولم يجدوا فيها غيري!».
«غريبة أمنية مالكك!» قالت تالا «لكنها ليست أقل غرابة من أمنيتي».
«وماذا كنتِ تتمنين؟» سألتها آنا.
«كنت أتمنى لو أن امرأة أنجبتني..» ردت تالا، «وأن أكون طفلة طبيعية، من لحم ودم، وأنمو، وأكبر وأصبح فتاة بالغة، مثل غادة».
«من هي غادة؟» سألتها آنا.
«غادة صديقتي» ردت تالا.
«أظنها أمنية لا طائل منها..» قالت آنا، «البشر قساة على أي حال!».
«ربما..» ردت تالا، «لكن بالتأكيد ليس جميعهم».
«لماذا أنتِ ودودة معي هكذا؟»، سألتها الدمية الفتاة.
لم ترد تالا.
يومذاك، أخذوا خمسة من الدمى، دبدوب، فلّة، تشاكي، بيلد ليلي، و آنا كارنينا.
في اليوم التالي، عادت آنا مرهقة ومتعبة، في حين لم يظهر أحد من الدمى الأربعة الأخرى.
«أخشى أن يحين دوري قريبًا» قالت تالا لآنا.
«سمعت من آخر مسلح رافقته إلى فراشه، أنهم بصدد تصفية الدمى، التي تتخذ أشكال الأطفال»، قالت آنا كارنينا.
«حقًا؟»، سألتها تالا، وأجهشت.
مرّت ثلاثة أيام، أخذوا خلالها أكثر من عشرين دمية. وفي صباح اليوم الرابع، حينما أفاقت الدمى المتبقية في الغرفة، لم تجد تالا، كما اختفت آنا كارنينا أيضًا، ولم يعد أحد يراها.
بعد تحرير المدينة من الجماعات المتطرفة، اكتشف أحد المزارعين مقبرة جماعية، تضم نحو ثلاثمائة دمية مختلفة، وكانت جميعها من دون رؤوس، باستثناء دمية سليمة تحاكي طفلة صغيرة تلف عنقها بوشاح أرجواني، وجدت داخل جوف دمية كبيرة، يبدو من حجمها الكبير أنها دمية جنسية.
إلا أن أحدًا، من الذين قرأوا الخبر، وشاهدوه في التلفاز، لم يصدق أن تلك الدمية كانت حاملًا.