مقتطف من رواية ليلى المطوع الأخيرة «المنسيون بين ماءين»، التي استقبلها النقاد بترحاب كبير.
تكتب ليلى في روايتها الثانية عن البحرين والماء، وتصف ببراعة علاقة أهل البحرين بالبحر، كما تتحدث عن مشاعرها المركبة تجاه موت البحر.
ليلى المطوع
يسحبه العمّ محمّد حين يكون البحر هادئًا، يعلّمه السباحة، يرميه في الماء ويدخّن النارجيلة، يتركه يصارع، يبتلع الماء المالح ملوحةً ينقبض لها بلعومه، فيبكي، وكلّما بكى، عاقبه. «لا بكاء هنا على الجزيرة» يقول محذّرًا. يخاف ترك جسده في البحر، يخاف حين لا يشعر بالأرض أسفله، بعدم قدرته على الوقوف. أمّا سعود فيعلّمه السباحة بطريقة مختلفة؛ يضعه على ظهره ويسبح به نحو العمق، ثمّ يغوص، يطلب منه فتح عينيه داخل البحر، ولكنّه يرفض. لا يصرّ عليه، بل يتركه، يضعه على المنارة، طولها لا يرتفع عن مترين. يُريه كيف يرفع البحر جسده من دون جهد: «اترك جسدك له، فسيحملك؛ ولكن حين تخاف، ستغرق». أمّا حسن فيسبح به إلى المنارة ويتركه هناك، يطلب منه العودة إلى الساحل. يخاف من وحشة البحر حين يترك وحده، ولا قدرة له على البكاء كي لا يُحرم الغداء. يتمسّك بها وهو ينظر إلى سعود، عرف طباعهم ومن هم أشدّ حنانًا عليه من طريقة تعليمهم إيّاه السباحة. عرف أنّ أكثرهم رقّة هو سعود. ينادي لعلّه يساعده على العودة، ولكنّه لا يأتيه. مشغول بالعمل على تجفيف الأسماك، وحمايتها من طيور النورس التي اجتمعت محلّقةً فوقه صائحة تطالب بنصيبها.
شعر بالجوع والتعب. لن يأتي أحد لإنقاذه، سيترك هنا، أنزل جسده ببطء في الماء، انتفض من برودته، عيناه على الرجال، هل يعلمون بقراره؟ سيسبح. هل سينقذه أحد إذا غرق؟ صرخ ليخبرهم أنّه سيفعلها، ولكن لم يلتفت إليه أحد. الجزيرة الصخرية لا تبعد عنه إلّا مسافة بسيطة. سيسبح نحوها، مثلما علّمه سعود: «اترك جسدك للماء»، فعل وترك المنارة. ترك جسده في البحر، شعر بالفزع، ولكنّه تماسك، أخذ يحرّك ذراعيه فاتحًا إيّاهما، يحاول السباحة نحو الجزيرة، يركل بقدميه، يصارع، يغمض عينيه وفمه بإحكام. يشعر بالتعب ولكنّه يحاول بجهد. إنه يسبح. الماء يرفعه. شعر بالبحر يحمله على كفّه، كما في القصص التي يرويها له سعود عن البحر عندما يخاف الليلَ والجنَّ. وصل إلى الجزيرة الصخريّة بعد عناء. رفع رأسه فرحًا ليرى هل رأوه وهو يسبح، كان سعود يحمل سعفة يهشّ بها النوارس، وحسن يُحكم الشباك على السمك، أمّا العمّ محمّد فغفا، وهلال في الحقل. هو أقرب ممّا كان عليه، يرفع صوته مناديًا سعودًا وحسنًا. التفت الأخير إليه، رفع صوته ليسمعه: «لا أمان على هذه الجزيرة، هيّا، اترك عنك الخوف، واسبح». ولكنّ مهنّا الذي أمن في الأرض، وشعر بأنها أشدّ سلامة من البحر، أبى مغادرة الجزيرة. ظلّ فيها. رآهم يضعون الغداء ويتناولونه، فنادى سعودًا، لعلّه يعيده إلى الجزيرة، ولكن لم يلتفت إليه. فاته الغداء فبكى. ما الذي سيُحرَمه؟ أخذ يجمع القواقع الملتصقة بالأحجار، يمصّ ما فيها، مالحة وترابها يقرقش في فمه، يلتهم ما في داخلها، طعمه مرّ فعافه. اصطاد عنكبوت البحر، وحاول أكله ولكنّه تردّد، حركته سدّت شهيّته، فأفلته. شعر بالعطش والجوع والتعب. اليابسة مظلّلة بالغيوم، ولكنّه مرهق. غلبه النوم، استسلم. نهض على صوت حسن يناديه، هل سيأتي لينقذه؟ ولكنّه قال: «حين تغرب الشمس، ستختفي الجزيرة تحت الماء، هيّا، اسبح واترك عنك هذا الجبن».
تشجّع، وضع قدميه في الماء، شعر ببرودته، تراجع، عاد حسن للجلوس إلى الجماعة، العمّ محمّد يدخّن النارجيلة، وسعود يعدّل أوتار آلته، وهلال يشرب القهوة. سيتركونه وقد صار موج البحر أعلى ممّا كان، وصار يصعد الجزيرة الصخريّة. لمح حدودها اختلفت، البحر يغطّي جزءًا منها، فزع، تكوّر على نفسه. وبينما البحر يمدّ جلده المائي من الجهتين ليستر الأرض، نهض. الماء يعلو، غطّى قدميه، صرخ حسن: «اسبح يا ولد»، فبكى مهنّا، «اترك عنك البكاء، فلن يأتي أحد لنجدتك!»، وعاد إلى الجماعة. يناديهم مهنّا، فلا يلتفتون إليه. حين لجّ البحر وغطّى صدره، قرّر السباحة. يلطمه الموج، موجة تسحبه إلى الوراء وأخرى تدفعه، نهض سعود يراقبه، حسنًا لن يتركوه يغرق، سيحاول وإذا ابتلعه البحر، فسينقذونه. كان يقاوم، يضرب بذراعيه، يفتحهما على اتّساعهما ويطوي ساقيه، أحجار الفشت صخريّة موجعة تمزّق القدم، يتذكّر العمّ محمّد وهو يقول له: «افتح ذراعيك على وسعهما، مدّهما، فالبحر لا يقبل الضعفاء». يركل البحر، يتذكّر كيف ركل النوخذة حين حمله، يتذكّر كيف صارعه هو والعبدَ الذي رفعه عاليًا، وسحبه من حضن أمّه. راح يركل، ويقاوم، وعيناه على النار وعلى الجماعة الذين تجمّعوا على الساحل، ينظرون إليه يقاتل البحر، موجة عالية تسقط عليه من السماء، لا يعرف من أين أتت، يشعر بعينيه تحترقان، وبالماء المالح الذي دخل فمه، فيسبح، ويقاوم بكاءه، لن يبكي. ولكنّ موجة مندفعة سحبته. يرى أنّه ابتعد عن الساحل، تيّار ماء عنيد يشدّه إلى داخل البحر. لن يدع البحر يهزمه، يحاول ولكنّ موجة أخرى سقطت عليه، وأدخلته إلى قاع البحر، شعر بلحظة اصطدامه بالرمال، وبحجر ضخم كاد يشقّ ساقه. فتح عينيه، هذه المرة لم يشعر باحتراقهما. غابت الأصوات. التيّار يأخذه نحو العمق. الهواء ينقطع. شعر بأذرع تلتفّ حوله، ترفعه، هلال وحسن قفزا إلى البحر وجذباه، حمله حسن على ظهره. أنزلاه على التراب، ربَّت سعود على ظهره، تقيّأ ما ابتلعه من ماء، كاد يبكي، ولكنّه رأى ابتسامة العمّ محمّد الذي ربَّت على ظهره بفخر، وقال: «لن تغرق، حين يشمّ البحر رائحتك، ويشعر بمائه في دمك، فيعلم أنّك منه فلا يُغرقك». أجلسه قربه ومنحه طعامًا، وصبّ له هلال، لأوّل مرّةٍ، القهوةَ في الكوب الفخّاري، علّموه: «أمسكه من الأطراف، هكذا»، والعمّ محمّد يرفع الكوب أمامه: «أنت رجلٌ الآن». شربه بلذّة المنتصر، والرجال حوله فرحون به.
في نهار اليوم التالي كرّر حسن ما فعله، ولكن قبل ابتعاده رمى مهنّا جسده ولم يتعلّق بالمنارة، سبقه عائدًا للجزيرة، عرف طعم الغرق فلم يعد يخشاه، اقترب منه الموج شامًّا رائحته: «إنّ البحر في داخلك»، رفعه الماء: «أنت منه»، فأخذ الموج يدفعه إلى الساحل. تعلّم مهنّا السباحة، ولم يعد يخشى البحر، بل صار يلاعبه، تعلّم قراءة تيّارات البحر القويّة، والخطرة، وأنّها تظهر من العدم. ولكنّه قرأها، عرف أنّها تأتي حين يستاء البحر، عرفها وعرف كيف يبتعد عنها.
يخلقه البحر ليتشكّل جسده معه، تشتدّ ذراعاه، يعرض صدره، ينحت خصره، تطول أطرافه، يتبدّل جلده، تصفرّ بشرته، تخشن، تسمّر، فيصير بلون التمر، شعر رأسه تجعّد، يرمي جسده في البحر مادًّا ذراعيه إلى الأمام، وساقاه منفرجتان قليلًا، يغوص في الأعماق. يستقبله البحر في أعماقه، ليبدأ نهارهما وأحدهما بصحبة الآخر.
يستحمّ مع الرجال في حالة الجزر، يملؤون الجرار بالماء العذب. وحين يبتعد الماء، يتجوّل مهنّا ليرى ما خلعه البحر من لباس، وصار مكشوفًا على مرأى الجميع. يسير على تلال رمليّة، حتّى الحول، حيث بيوت الصافي، يقف على صخورها، وسعود يجهّز الفخاخ، يبحثان عن حشيش كستنائي، يضعانه في القراقير، تحبّه أسماك الصافي، يجلس على صخرة ويتأمّل المخلوقات البحريّة، يجمع ما يصلح للأكل. ولكن وبّخه العمّ محمد ذات مرّة لجمعه كلّ ما عثر عليه، قال له: «عليك أن تعرف ما تأخذ وما تترك، لا تكن طمّاعًا، فالبحر يكره هذه الصفة». عليه أن يفعل مثلما يفعلون بمصيدة السمك، يعيدون الأسماك الصغيرة للبحر، ويتركون جزءًا منها ليُربّى في الحظرة. ينبّهه سعود إلى ألّا يتعدّى الزيّ النابتة، بعدها يصير البحر عميقًا، أدرك أنّ ما أمام الزيّ ضحل، وما خلفه عميق، وأنّ تيّارات تسحبه إلى وادي الخريس.
يعدّون المحمّر في قدرٍ أسفله خشب. وفي الليل يستلقي على ظهره مقابلًا السماء، الكواكب واضحة، والنجوم كذلك، ذات ليلة مدّ يده باتّجاه النجوم، تمنّى لو لديه القدرة على خطفها من السماء، نهض صباحًا ووجد نجمة بحر على الساحل، فرح بها، كان يؤمن أنّ البحر معطاء، يمنحه كلّ ما يهوى. إنّه جزء منه، ولا قدرة على كراهيته، كما لا قدرة له على كراهية النخلة التي أوقعته رافضة تسلّقها. يشعر أنّها أمّه، وكلّما اشتاق إلى حضن يحتويه، نام أسفلها. أحبّ هذا الشعور حين يفتح عينيه ويجدها ترفرف بسعفها، والنور يدخل من بين الأوراق.
تتلاشى اليابسة من أحلامه، ومنامه، لا يحلم إلّا بالبحر، يتقلّب في نومه، مثلما رأى الجماعة يفعلون في البداية، تتحرّك أجسادهم على اليابسة وكأنّهم يسبحون، ما إن تغفو أعينهم.
البحر طريق إلى كلّ الأشياء، يمرّ سرب من بقر البحر مبشّرًا بهدوئه. تأتي السفن من كلّ مكان إلى الجزيرة، يدفع المبحرون لأجل ماء الـﭽوجب، ولصيانة سفنهم، وتنظيفها من الأعشاب العالقة، ينزل قلّافهم من السفينة ليتحدّث إلى العمّ محمّد، وحسن، يشرح لهما ما وقع بالسفينة، وفي أحيان يقيمون أيّامًا طويلة، وبعضهم يغادر بعد التأكّد من سفينته. الصيّادون هنا كثر، يبيعونهم كلّ الحاجات التي نسجها سعود من سعف النخلة، وكلّ ما تمنحهم إيّاه العنيدة يستخدمونه، ولكنّها بخيلة، فتدفعهم الحاجة إلى إحضار السعف من الجزيرة الأمّ.
عرف مهنّا أنّ العمّ محمّدًا هو أكبر من سكن هذه الجزيرة بعد رحيل من قبله، يقول له: «هذه الجزيرة كانت أكبر بكثير ممّا تراه الآن، ولكنّها هبطت في الماء. حين تبحر في الشمال أو الغرب، تجد دلائل على أرض مسكونة غاصت في البحر، ربّما أغرق الله من سكنوها عقابًا لهم». وحين سأله مهنّا عن الذنب، قال: «إنّ الله عادل لا يظلم، ولا بدّ من سببٍ حتّى وإن كان مجهولًا». أتى العمُّ محمّد الجزيرةَ، وهو طفل صغير، مع خاله، ثمّ انتشر الطاعون في الجزيرة الأمّ، فلم يعودوا إليها، مات خاله، أمّا العمّ محمّد فوعد نفسه ألّا يعود إليها أبدًا، لم يقل السبب، لماذا سجن نفسه هنا في هذه الجزيرة؟ أمّا حسن فهو غوّاص تعب من البحر فتركه، كان ينزف من فمه وأنفه، صحّته لم تساعده، سدّد دينه وفرّ. في حين جاء سعود من مكان مختلف، بعيد، لا يجاوره الماء، هاربًا من قبيلته يقول: «هذه الجزيرة هي أبعد مكان استطعت الوصول إليه». يغنّي في الليل لعشق ابنة عمّه، يسأل بصوت عالٍ إن ازداد طول أبنائها ليصلوا إلى طوله فتنساه، أخبرته بحزن: «لن أنساك حتّى أنجب أبناءً يطولونك». قاس قامة مهنّا بعد سؤاله عن عمره، ثمّ حدّد طوله على العمود، وصار كلّ مدّة يطلب منه الوقوف، ليرى طوله إلى أين وصل، فيشتدّ حزنه، وهلال لا يتحدّث، كان صموتًا لم يعرفوا قصّته. عرفوا حكاية فقده ساقَهُ في هجوم لسمكة مفترسة. يترك الجزيرة في الليل فلا يجدوه إلّا وعاد مع الشمس. وهم الأربعة من ظلّوا هنا، يأتي في أوقات رجال يسكنون عندهم ليالي، ثمّ يرحلون. تخيفهم وحشة المكان، وجنون البحر حين يهيج ويغمر اليابسة بالماء، فيهربون.
يمرّ بهم الصيّاد صالح في قاربه، يبيت حين تفاجئه العواصف. تقترب السفن ليلًا من الجزيرة، تقف خلف «المنارة» ولا تتعدّاها؛ فالماء ضحل بعدها، ستعلق السفن فيه. ينامون في السفينة ليحموها، لم يفهم مهنّا يومًا لِمَ لا يترك البحّارة سفنهم في أثناء العاصفة ويحتمون بالجزيرة؟!
تعرف المواسم من المخلوقات التي حولك. حين ينتهي موسم الغوص ويمرّ بلبل البحر، يستبشرون برؤيته. حان القفّال، وسيعود الغوّاصون للجزيرة الأمّ. يطارده مهنّا مفتونًا بريشه الذهبي ورأسه الأزرق، فيصيح سعود: «يا طير القفّال، يا بلبل البحر، بلّغهم سلامي»، أمّا عين العم محمّد فعلى السماء ينتظر نجم سهيل. وتبدأ بوادر الشتاء، يتراكم القصيع الكستنائي على الساحل، تجتمع حول الجزيرة طيور النحام، لم يرَ طيرًا له ريشها الزهري، ويعرف موسم تزاوج بقر البحر إذ تُخرج أصوات صرخات مرتفعة، يقول حسن: «إنّها حوريّة بحر تتزاوج هي وبابا درياه». كلّ ما في البحر يهمس لك، ينذرك بالعواصف، أو يبشّرك بالخير.
الشتاء هنا صعب، الهواء يكاد يفتك بالكوخ، مهما حاولوا تقوية أعمدته، فإنّهم يلجؤون إلى الحفرة الصغيرة التي في وسطه، يلتحفون بصوف الخروف. أمّا هلال فلا يكترث للجوّ، بل يظلّ على عهده يختفي ويعود إلى الجزيرة، حاملًا معه حوائج مختلفة.
يتعلّم القراءة والكتابة على رمال البحر، يمسح البحر ما يكتبه، ليمنحه صفحة جديدة كلّ نهار. يسأل سعود القادمين إلى الجزيرة: من منهم يعرف القراءة والكتابة أو سرد القصص، ليجلس مهنّا إلى جانبه، ويتعلّم. بهذه الطريقة أتقن عدّة جمل من لغات مختلفة، وعرف الحساب، والكتابة والقراءة، وتشبّع بالحكايات الآتية من كلّ مكان.
رائحة كبد سمك القرش منفّرة، نفّاذة، حتّى الطيور التي تأكل كلّ شيء تفرّ منها. عاد هلال من رحلته البحرية حاملًا أربعة قروش كبيرة، كلّ سمكة تساوي طول رجل. رآها مهنّا للمرة الأولى أمامه، وهو الذي تعلّم: «ما إن تلمح الزعنفة، انفذ بجلدك، اهرب واحتمِ بالمنارة، أو الفشوت». ينفر القرش من اللون الأسود، فيرتدونه عندما يسبحون في الأعماق التي تبعد عن الشاطئ. شقّ بطنها وأخرج كبدها وطهاها في قدرٍ على خشب، يعرف مهنّا ما حاجته إلى فعل هذا برغم كرهه الرائحةَ. يحتاجون إلى زيت السمك لطلي السفن، لحمايتها ولصيانتها. اقترب منه هلال ومنحه سلّة محار، سيترك المحار في الشمس ليجفّ، بعدها يفلقونه، أخبره العمّ محمّد: «إذا حصلت على لؤلؤة، فهي لك».
صوت صرخة يصله، امرأة تصرخ متوجّعة تخترق منامه، فزّ ورأى الرجال نائمين حول الكوخ، المكان هادئ، النسيم لطيف، والنار يخفّ وهجها، زاد الحطب ليضيء المكان، وسار نحو البحر، كانت صرخة تذكّره بصوت والدته حين سمع صرخات وجعها وهي تلد شقيقته الصغيرة عذبة التي تصغره بأربع سنوات، حين نهض على صوت صراخ والدته كما حدث الآن، ورأى النسوة حولها، يهدّئن من روعها، ويمسحن عرقها. الآن هو وحده هنا، ينظر نحو الجنوب، هناك أمّه التي اشتاق إليها، وأرضه التي تلاشت من أحلامه، دار حول الجزيرة ليتأكّد من كلّ شيء، ثمّ عاد إلى جماعته واستلقى. حين غالبه النوم، سمع الصرخة بشكل أوضح، نهض وجال على المكان بعينيه، إنّها امرأة تصرخ، لا أثر لأيّ شيء هنا. لمح حركة في الطيور النائمة على الساحل، الصرخة وصلتها فتحرّك السرب، لم يكن يحلم. ابتعد نحو الشمال، هناك الضوء أخفّ، ربّما امرأة علقت في الطين تستغيث. حمل الشعلة وسار باحثًا عنها، لم يتبيّن أيّ إنسان في البحر، دقّق النظر، سمع صرخة أخفّ من سابقتها، وكأنّها تنهيدة تأتي من غربيّ الجزيرة، هرول، ولكن لم يجد إلّا النخلة، وطيور النورس حولها ناظرة إليه.
نهض حسن في إثر حركته، وسأله فقال له: «سمعت صراخ امرأة». طلب منه عدم تتبّع الصوت، إنّها خاطفة الرجال، امرأة تسكن البحر، تخدعهم، تطلب الاستغاثة، وحين يهرعون إليها ويلقون أجسادهم في الماء، يختفون، تنادي البحّارة وهم على سطح السفينة، وتنادي أهل الجزر، تتوحّد في الرجل، تغرقه. هي امرأة حزينة، خدعها صيّاد، وتركها تغالب الشوق، فانتقمت من كلّ البحّارة. طلب منه تجاهل الصوت، والحذر.
في الصباح ناداهم سعود، وأخبرهم: «هناك فسيلة نمت»، احتار العمّ محمّد الذي شرّع أصابع يده يحسب عمر النخلة، إنّها أكبر من قدرتها على الإنجاب. مسح سعود على رأس مهنّا، وقال: «أتيت بالبركة، ها هي النخلة تمنحك شقيقة صغيرة».
وبينما انصرفوا ليتّجهزوا للعمل، وقف مهنّا أسفلها بيقين مدركًا أنّها هي التي كانت تصرخ ليلًا، كانت تلد.
»عليك فلق المحارة، والبحث عن اللؤلؤ… يكون ملتصقًا»، يمدّ إليه حسن المحارة المفلوقة ليرى ما في داخلها، وهو يبحث في أحشائها الرخوة عن اللؤلؤ.
تظهر كلّ أسنان العمّ محمّد الضاحك وهو يرى مهنّا العاجز يحاول فلق المحارة.
»صيّاد لؤلؤ ويداك ضعيفتان! ها!»، يسحب يده ويهزّها أمام الرجال. يغضب مهنّا ويحاول بجهد فلقها، فيحذّره سعود: «أبعد النصل عن يديك، فستقطع جلدك»، ولكنّه بعناد يصرّ متجاهلًا ضحكات العمّ محمّد، حتّى فلقها، كان يبحث في كلّ شقّ عن اللؤلؤ، يزيل الجزء المخاطي، يأخذ النصل ويمرّره على كفّه، ما بين الإبهام والسبّابة. «ستعثر على السحتيت» يشاغبه العمّ محمّد ولا يتركه في حاله، «سأجلب أكبر دانة»، فيُغنّي ساخرًا منه: «مهنّا يدوّر الدانة، والدانة حقّ ربّانه» ثمّ يمازحه: «يا سارق البحر، والله، لو تاخذ دانته لا تمسكك البيمه، تطبق على يدك، يا تقطعها يا تموت». بوجه متجهّم يقول له حسن: «كلّ ما تعثر عليه سيكون من نصيب النوخذة، أنت هنا حرّ، وهناك تكون رهينة لديه». يعبس مهنّا: «ولكنّ دين والدي في رقبتي!». بحدّة يتحدّث حسن: «سقط الدين حين تزوّج أمّك وأنجب منها». ولكن قاطعه سعود: «يا حسن». أدرك من ردّة فعل سعود الإهانة؛ فحسن تفوّه بكلام لا يُقال. نفض مهنّا يده وابتعد غاضبًا، ولم يجد إلّا البحر أمامه، فقفز في حضنه شاكيًا إليه قسوة ما قيل.
سبح مبتعدًا حتّى المنارة الطافية، تسلّقها وجلس موليًا ظهره ناحية الجزيرة، ناظرًا نحو الجنوب مثلما تفعل النخلة. صار، حين يغضب، يترك الجزيرة ويختلي بنفسه هنا، في المكان نفسه الذي عوقب فيه وهو صغير بالربط فيه، صار الملجأ حين اشتدّت ذراعاه.
في تلك الليلة أيقظه سعود، جلسا في شماليّ الجزيرة، والقمر ينير المكان، ونور المنارة يخفت بهدوء خلفهما. «على حزنك أن يكون ذا كبرياء، لا تجعل ما فعلته أمّك إهانة لك». ابتلع مهنّا ما أراد قوله له، ولكنّ سعودًا لمحه في عينيه: «أعلم ما يجول في خاطرك. نعم، إنّ حزني هنا في الجزيرة مشاع، أتركه يصل إلى عنان السماء؛ لأنّي بين أهلي ومن أحبّ، ولكنّ الحزن يجب ألّا يكون ظاهرًا للغرباء».
نظرا إلى القمر يتأمّلان جماله. «أخبرك بذلك؛ لأنّك ستعيش في مصارع مع الرجال ومع مَنْ نفاك من أرضك وأسرك هنا». تفاجأ مهنّا: «هل أنا أسير؟!»، «حين يحاوطك البحر بهذه الطريقة، فحتمًا أنت سجين. هيّا، حانت اللحظة». سارا حتّى الغرب. هناك رأى مهنّا، للمرّة الأولى، مئاتٍ من سلاحف «الحمسة» يخرجن من بيوضهنّ، يتّجهن إلى البحر، يرمين أنفسهنّ فيه. وقفا في وسط هذا الزحف الهائل، كنّ بلا أمّ، يدركن بفعل الغريزة أنّ الماء هو الوطن، هو الانتماء.
نظر مهنّا إلى قدميه وقال: «هكذا أشعر، البحر هو حرّيّتي، لا يمكن، ولا يعقل أن يكون سجني». حاول مدّ يده ومساعدة «حمسة» صغيرة ضلّت الطريق.
«دعها، لا تتدخّل في إرادة الله، إن لم تعرف طريقها، فستموت، هذا هو مصيرها».
تفاجأ من قسوة لم يعرفها في سعود. في عين الصغير يظهر الحزن، يلمحه فيكمل: «عليها أن تموت إذا لم تكن قادرة على المضيّ، فلن يساعدها أحد في البحر».
في الصباح كانت النوارس الصائحة تحلّق فوق البقعة، تأكل صغار السلاحف التي ضلّت الطريق.