حصريًا ينشر المركز بالعربي الفصل الأول من رواية «دار خولة» للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، التي صدرت عن منشورات تكوين هذا العام.
الأمرُ الذي تكرههُ خولة أكثر من الشَّيخوخة هو التَّصابي، والأمر الذي تكرهُهُ أكثر من التَّصابي هو أمريكا.
وفي صباح ذلك اليوم، قرّرت خولة أنَّ «التَّصابي والتَّأمرك أمران متلازمان»، والحقُّ أنها تجد التَّأمركَ ممزوجًا بكل ما لا تحبُّه، لذا عزمت على إظهار آثار شيخوختها، مثلَ ميدالياتٍ فخريَّة، وراحت تتخيّل، أمام المرآةِ، ما ستبدو عليه لو أنها عادت إلى الشَّاشة، بشعرٍ أشمطٍ، وغضونٍ حول الفم، وكيسٍ جلديّ متدلٍّ من الرَّقبة، وجيوبٍ ليلكيةٍ تحت المحجرين. قد ينتبه البعض إلى الخشونةِ الترابية في صوتِها، بالمقارنة مع آخرِ ظهورٍ إعلامي لها، قبل سبع سنوات.
ولأنَّ فريق الإعداد يعرفُ أنَّها ليست من النَّوعِ الذي يُفجعُ أمام سؤال؛ كم عمركِ؟ فهي تتوقع سؤالا كهذا، آملة ألا يخونها صوتها إذا أجابت بأنّها تجاوزت الخامسة والخمسين منذ شهرين، وأنها قرَّرت أن تشيخ بكرامةٍ، رغم أنَّ «الشَّيخوخة في جوهرها إذلالٌ وئيد».
ما تزال خولة قادرة على العيشِ مستقلّة، إلا فيما يتعلق بتبديلِ اللَّمبات المحترقة وفتح البرطمانات، وقد وجدت أنَّ البيتُ يتوحَّشُ أكثر ما يتوحَّش في الصَّباح الباكِر، وفي آخر اللَّيل.. عندها تكتشفُ أن وراء الصمتِ صمتٌ ثانٍ، وتحدسُ أن وراء الصَّمت الثاني صمتٌ ثالث، ورابعٌ وعاشرٌ ومئةٌ وألف. تكتشفُ خولة متاهة الصَّمتِ – وهي متاهة مؤلَّفة من غيابِ اللغةِ المحض، لا من قصورها – وتتحسَّسُ جدرانها كل صباحٍ وكل ليلةٍ، عندما تأكلُ وحيدة، إذ يندر أن يرغب أيٌ من يوسف وحمد في الأكل في الموعد ذاته، وكلاهما يفضّل أن ترسل صينية الطعامِ إلى غرفتهِ في الوقت الذي يشتهي، وكان وجودهما في البناءِ ذاته – المدعوّ البيت – يملؤها مرارة، لكنها تستأنسُ بالاحتمالات، تعوّل عليها؛ أن يمرَّ أحدهما بها صدفة، ويراها جالسة أمام التلفزيون مع علبة الزبادي وأصابع الخيار، ويقرّر أن يأخذ قضمة. لهذا السَّبب تمتلئ طاولاتها، طوال العام، بحاويات الشوكولاتة والفستق الحلبيّ وحلوى راحة الحلقوم؛ «فخاخٌ منصوبة لأمومة معطّلة»، شيء لا تجسر على قوله في البرنامج.
وإذا فكّرتْ في الأمر قليلًا، ستجد أنها قد تشاركت مع يوسف قضمتينِ في الأسبوع الماضي، وأن حمد أيقظها من نومِها قبل يومين وهو يردّد؛ «يمه يوعان!»، وتتذكّر كيف خبّت لتعدّ له شطيرة لبنة مع الزعتر الأخضر وكانت الساعة قد قاربت الواحدة بعد منتصف الليل، جالسته لربع ساعةٍ كاملة، وراقبته مسرورةً وهو يمضغ، وكانت تملّح له شرائح الطماطم وتدسّها في فمِه، الأمر الذي يؤكد نظريتها؛ يجب أن يكون المرءُ جاهزًا للفرص عندما تأتي، وأن يعوّل على الاحتمالات، لكنها تريدُ المزيد، وهي في كل صباح، عندما تعجز عن فتح برطمانات الزيتون الفلسطيني والعسل اليمني والمكدوس ومربى الورد، تحسُّ ببرودة مفاجئة في عظامها، وتتساءل إن كانت «الشَّيخوخة والوحدة أمران متلازمان»، لكنها لم تصبح عجوزًا ميؤوسًا منها، ليس بعد، فهي ما زالت قادرة على صعود الدَّرج متظاهرةً أنَّ قلبها لم ينخلع من مكانه، ولم تفقد أيًا من أسنانها بعد، عوضًا عن كونها تتبضّع وحيدة؛ تشتري السَّمك الإيراني الطازج و«نصف ذبيحة – خروف عربي» من الجزّار، والخضراوات الورقية من المزارع المحلية، وتحرصُ على شراء التُّوت الأزرق والشَّمندر وبذور الكتّان وحليب اللَّوز غير المحلّى وكلّ الأشياء التي زحفت إلى قائمة تسوُّقها في السَّنوات الأخيرة؛ مقادير احتياطية لولائم متخيّلة، نابضة وعامرة بالمسرَّات.
تحلمُ خولة بالولائم عندما تخرجُ للتبضّع، تفكّر بها طوال الوقت. تتخيّلها حين تقرأ، وحتى وهي تصلّي. لكنها في الغالبِ تأكل وحيدة، لأنَّ «البيوت أضحت فندقيّة إلى حدٍ بعيد»، ولأسباب أخرى تتعلّق بشخصها. لذا لم تنم ليلة أمس. تململتْ في سريرها لساعاتٍ، ثمَّ حاولت أن تقرأ كتابًا يجلبُ النعاس، لكنها اندمجت في الموضوع وصارت تمدُّ الخطوط تحت السُّطور وتدوّن الملاحظات على الهوامش. أطبقت دفتيّ الكتاب، أطفأت الأباجورة، بحلقت في الظلام مردّدةً أذكار النوم، قرأت المعوذات وآية الكرسي وما تيسَّر من سورةِ الرحمن، ثم جرّبت تمارين التَّنفس التي يقول الجميع أنَّ لها مفعول السحر، لكنهم يبالغون بشأن كل شيء هذه الأيام. تعرف خولة أنَّ المبالغة ليست اختراعًا أمريكيًا، «لكنها قطعًا استفحلت هناك، منذ أن كانت هيروشيما هي الرد على بيرل هاربر». حتى حبة الـ 5 غرام من الميلاتونين لم تنفع، فانتهت إلى خيارٍ لا تحبّه، لأنه بمثابة إعلان فشلها في عيشِ يومٍ عادي، مثل امرأة جليلة غير مبالية بالتَّوافه. فتحت الجرّار، تناولت نصف حبة من شريط حبوب «الزاناكس»، ونامت بعد أن صلَّت الفجر. استيقظت في السابعة، مشدودة الجذعِ مكهربة، في رأسها صورٌ لطبخات وقوائم مشتريات وخيالاتٍ جذلة لعشاءٍ عائليّ حقيقي.
ستحظى خولة أخيرًا بعشاء عائليّ، مثل «أسرة سعيدة في فيلمٍ هوليوودي عن عيد الشُّكر»، وأحسَّت بالتناقض ينخر عظامها وهي تقرُّ بأنَّ تلك الصُّورة البرّاقة لعائلةٍ أمريكية تتبادل الأنخاب حول ديكٍ روميّ محمَّر، بكنزات خريفية وكؤوس كريستالية شبه ممتلئة بالنبيذ، تعجبها جدًا. ثمَّ طمأنت نفسها أنَّ كراهيتها لأمريكا ينبغي ألا تخلو من استدراكات، «حتى تصبح موقفًا، لا مجرّد تعصُّب». كان أكثر ما تنتبهُ له خولة في الأفلام الأمريكية هو المطبخ وغرفة الطعام، ومن شيمها أن تقطع المشاهدة عدة مرّات، لتلقي نظرة على مطبخها وغرفةِ طعامها، متسائلةً أين تكمن المشكلة.
عندما اتصلت بها المعدّة قبل أيام – فتاة «نطّاطة ولحوح» اسمها رندة – قالت أنَّ برنامج «تفاصيل»، بخلاف البرامج التي سبق لها الظهور فيها، مهتمٌ بما أسمتهُ؛ «جانبها الإنساني»؛ الخاصرة الرُّخوة في حياةِ خولة، إذا أخذنا بعينِ الاعتبار توحُّشها المزمن ونزقها المتزايد وسمعتها الضَّاربة كامرأةٍ مولولة. وتساءلت إن كانَ بالإمكان، عبر جانبها الإنساني هذا «إذا سلّمنا بوجوده»، أن تؤخذ، لمرةٍ واحدةٍ «على محملِ الجد». سيطلبون مداخلاتٍ من أشخاص في محيطها الاجتماعيّ، وكلمة محيط هنا مضللة؛ فليس لديها محيط، بل حوض أسماكٍ بالكاد. فكَّرت ببعض زملائها من الجامعة، وبسكرتيرة القسم التي «تصرُّ أنَّ المسخَّن لا يعدَّ إلا على خبز الطابون»، ثم فكّرت في أولادها الثلاثة، وأنَّها لو سُئلت عنهم، ستراوغ مثل السِّياسيين المتمرّسين لتريح الحشريين من سكّان الكوكب مما لا تجدي معرفته، وتقول إنّهم «خلقوا لزمانٍ غير زمانكم» أو تستعير كلمات جبران الصَّداحة، «إنجيل العقوق المقدس»؛ «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة»، لكنها تعرفُ أنَّ هذا كلامٌ غير صحيح، فالواقع أنَّ «أولادكم ليسوا أولادكم، أولادكم أبناء النِّظام». ستعرفُ البلادُ أنَّ كل تصريحٍ صبّته في الحطِّ من الأجيال الجديدة منشأهُ فشلها كأم. لكن أيّ فرصة كانت لديها لكي تنجح أصلًا؟ لقد حُسمت المعركة منذ زمن طويل، لأنَّها عندما انتبهت إلى وجود معركة، كان النظام مشغولًا بجمع الغنائم؛ أطفالها الثلاثة.
«عْوير، وزْوير.. واللي ما فيه خير».
غنائم النظام.
في مكالمتهما الهاتفية، قالت رندة أنَّ الناس «يستحقون معرفة د. خولة سليمان على نحوٍ أعمق»، وهو ما جعل دَمها يفور، «فالنَّاس لا يستحقون أيَّ شيء!»، لاسيما منها. ثمَّ راحت المعدّة، بشيءٍ من «السَّذاجة المراوغة»، تتحدث عن توقها للتعرف على خولة الأم والابنة والزوجة. بل إنّها لجأت إلى الحُجَّة المبتذلة التي يستخدمها كل من يحاول النفاذ إلى مثقفٍ يعاني إحساسًا بالإهمال؛ السّاحة تفتقدُ صوتكِ، في تلميحٍ «خبيثٍ ومدروس» إلى ضرورةِ وجود المثقَّفِ في الميدان، وهو ما تتعفُّف عنه خولة منذ سبع سنوات.
نفضت عنها أفكارها لتتخيّل ما سترتديه على العشاء؛ «درّاعة» قطنية بيضاء مع شال بشمينا فيروزي، حليّ أمازيغية مُعشقة بالمرجان، وشِبشب جلديّ مدبَّب. تساءلت إن كانت تبالغ، لكن الفرصة قد تسنح – إذا سار كل شيءٍ على ما يرام – لالتقاط صورةٍ عائلية، فهي لا تتذكر آخر مرّة التقطوا فيها صورةً كهذه، وكل امرأةٍ في عمرها تتباهى بصورها العائلية على الانستغرام وفي مجاميع الواتس آب. تساءلت إن كان الأولاد سينشرون الصورة في حساباتهم، وتخيّلت ما سيكتبه كل واحدٍ منهم أسفل الصورة؛ «عشاء ملوكي مع الوالدة» أو «تسلم إيدﭺ يالغالية»، وكثير من الكلام المعسول، رغم أن الثلاثة قد عمدوا، في السَّنوات السَّبع الأخيرة، إلى التنصّلِ من كل ما يربطهم بها أمام العالم.
إذا سار كل شيءٍ على ما يرام، ستلتقط صورًا عائلية. تسارعت ضربات قلبها، حاولت أن تمنع نفسها من الإفراط في التفاؤل، «فليس الأمر مهمًا»، ليس بأهميّة أن يقضي الجميع وقتًا طيبًا لدرجةٍ تجعل الأولاد «يطالبون بعشاءٍ آخر»، أو ربما؛ بعشاء أسبوعي، شهري، أو حتى كل شهرين. لا مشكلة، وبما أنَّ رمضان على الأبواب، ستقترح خولة «أن نفطر معًا»، وستكون تلك مناسبة مثالية للمِّ الشمل، بل ولاستعادة ناصر، ولم تكتفِ بتخيُّل الأولاد يتقاسمون كعكة التمرِ والجوز، أو تشريبة اللحم مع خبر الرَّقاق واللومي الأسود، والجريش المنهنه المزيّن بالزبيبِ والبصل المكرمَل، بل ذهبت أبعد في خيالاتها ورأتهم، بتلك الدَّشاديش البيضاء النَّاصعة، عائدين من صلاة الجماعةِ في المسجد، كلٌ يحاوطها بذراعهِ، مثل إعلانٍ تجاريّ مبتذل لمسحوق غسيل..