قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

4 November, 2024
شذى الصفدي (مواليد مجدل شمس، 1982)، «الانفصال #3»، نقش على كرتون، 35×55 سم، 2018 (بإذن من جاليري زاوية، رام الله).
شذى الصفدي (مواليد مجدل شمس، 1982)، «الانفصال #3»، نقش على كرتون، 35×55 سم، 2018 (بإذن من جاليري زاوية، رام الله).

 

حصريًا ينشر المركز بالعربي قصة قصيرة للكاتب المصري أحمد وائل، حيث يتحول كاتب إلى تجارة الأسماك، ثم يتورط في قضية غامضة ويصبح متهمًا بالتجسس.

 

أحمد وائل

 

يحدَّثني عن الكتاب الذي غيَّر حياته، وبسببه ترك الأدب وتحوَّل إلى التجارة. تفرقّت بنا السُبل مثل أي كاتبين لا يحب الواحد منهما ذوق الآخر، حتى جمعتني به صدفة داخل محل يبيع الأسماك، واكتشفت أنه صاحبه.

الكتاب الذي يبشر به ينتمي إلى نوعية من الكتب مثل: «في سبيل الحرية» و«فلسفة الثورة» و«البحث عن الذات» و«انتحار رائد الفضاء» و«الكتاب الأخضر» و«زبيبة والملك»، وغيرها من مؤلفات الحُكَّام الذين يزاحمون الأدباء في فنونهم، ونظل نخمن مؤلفيها السريين من الكُتَّاب المعروفين.

يُعتبر مؤلف الكتاب الذي غيَّر حياته كاتبًا فوق العادي، فهو ليس من النوع الذي يحقق نجاحات محدودة مثل نفاد عدة طبعات من كتابه، بل يعلمنا هذا الكاتب من واقع تجربة عملية كيف يُدار اقتصاد دولة عظمى.

«لو طبقتُ حكمته في مشروعي تخيل مكسبي»، يقول بينما يرفع صندوقًا تتصاعد منها رائحة السمك النفاذة. في الصندوق سمكة تناسب وجبة اليوم، قشر بياض حجمها وسط، دهنها معقول، لا دسمة ولا قِلَّة، وخياشيمها لونها يطمئن، وفوق ذلك رائحتها غير زفرة. «كفاية عروض كتب يا زعامة» يقاوم تبديل دفة الحديث معارضًا ومدافعًا عن مؤلف كتابه المُفضل، بأنه «لا يشبه باقي الرؤساء ممَن يزاحموننا في الكتابة».

يحيرني تمييز هذا الرئيس عن نظرائه من مقتحمي عالم الكتابة، يفلت مني تساؤل عن سبب إقبالهم على التأليف، لا تخيفني المزاحمة، لكن يحيرني السبب، لماذا يكتبون؟ بل كيف يفكرون؟ ما دوافعهم؟ نحن مثلًا نكتب بدافع من رغبتنا في تلبية نداء داخلي، مثل ذلك النداء الذي يجذبني إلى هذه البياضة الحلوة، وترك أسئلتي في فراغ محل بيع الأسماك بلا إجابات.

«ممكن نوزن البياضة الحلوة؟»، بحنان ومودة يمسد السمكة الشهية التي قبضتُ عليها من ذيلها على كف الميزان ليرقمنه بسعر مخصوص، ويشير إلى الرقم على الشاشة. ومن وقتها كل الأمور المالية بيننا تحدث عبر الميزان: يُدخل السعر، وتخبرني شاشة الميزان بالمطلوب، والدفع عند المُحاسب.

كل شروة سمك، يخبرني عن صفقة يدرسها.

مانجو من أسوان. بلح من سيوة. عنب من الشام. بن من اليمن. لحم من السودان.

وأمام إغراء كل صفقة، ينصب تركيزي على المكان مُتجاهلًا المنتج وأرباحه المحتملة، ينطلق ردي على العرض بوصف رحلة أسوان التي قرأتُ خلالها «نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم وبحثت عن بيت العقاد، من دون ذكر للمانجو، أو علمي بزراعتها في مكان آخر غير الإسماعيلية. أخبار رحلتي إلى سيوة تتجاهل بلح الصفقة، كما تحوي برنامج الرحلة كاملًا شاملًا والكتاب الذي قرأتُه في الواحة، وهو «خطوط الضعف» لعلاء خالد، وتذوق أجمل زيتون في الواحة، وكيف صنع أهلها منه كل شيء مُستشهدًا بمربى الزيتون. إن كانت نفسي قد عافت القهوة إلا أنني لا أنكر رغبتي في السفر إلى سقطرى اليمنية. وفي مسألة الشام، فإن من أحلامي تناول كبّة نية وقراءة إميل حبيبي في بلاد الشام بما فيها فلسطين التاريخية، كلامي يلعن الاحتلال ولا يأتي على ذكر عنبه أو نبيذه. وعلى سيرة السودان تجاهلت اللحوم وحدثته عن كُتابه من أول الطيب صالح حتى بركة ساكن وحمور زيادة. لكن كل ذلك كوم، والصفقة الصينية كانت كومًا آخر. لم يسبق الأحداث بذكر منتج صيني، بل أطال وعدَّل من طريقة العرض، وعمل على التشويق؛ تفكيره في مشروع أدبي، رحلة ميدانية داخل الاقتصاد الذي تُيِّم به بسبب قراءة كتاب بينغ، مُستعينًا بصيني يرشده ويترجم له اللغة، على أن تقدم خلاصة هذه الرحلة في كتاب.

«الله»، أقولها بنبرة إعجاب صادقة، وبعدها أطلب جمبري لإعداد وجبة ينضج فيها الجمبري مع الزبد والثوم بعد تقشيره مع الإبقاء على ذيله، تُسمى هذه القصة «البترفلاي»، أو «الفراشة» إذا ترجمناها حرفيًا، مجاز عجيب فلا علاقة بين الجمبري والفراش.

كل مرة يورد تطورًا جديدًا في مشروعه؛ تواصله مع شخص صيني عبر الإنترنت، إرساله مبلغ إليه ليكون مرشده في رحلته الميدانية المُنتظرة. انقطاع التواصل مع هذا المرشد المحتمل. يقلب الدنيا عليه ولا يجده. يقرر الإبلاغ عنه في السفارة الصينية.

يقدم نفسه في الجهة الدبلوماسية الرفيعة بوصفه عاشق ثقافتهم وحكمة رئيسهم، لكنه يعاتبهم على ترك بعض النماذج الفاسدة التي تسيء إلى سمعة الصين العظيمة. وهو كقارئ مُحب لكتاب بينغ يعلم أن نظامًا يديره الرفيق العظيم سوف يضرب بيد من حديد على رؤوس الشرذمة الفاسدة، لذا يسلم مسؤولي السفارة كل المعلومات التي لديه عن مواطنهم الفاسد غير المسؤول عديم الضمير متوقعًا الإنصاف.

لكن إنصاف نظام بينغ لم يكن عاجلًا، فيطرق أبواب الجهة الرفيعة مرات كثيرة، ويكرر شكواه إلى مسؤوليها، ويقصد صياغة هذه الشكاوى بأسلوب بلاغي يتطابق مع شكاوى الفلاح الفصيح في الأدب المصري القديم.

حين تهفني نفسي لتناول أسماكه أسمع مقتطفًا عن أنباء العلاقات الصينية مع شخصه العاشق لحكمة الرفيق بينغ، وكيف أحب موظفو الرفيق أسلوبه في الكتابة، يقولون عنها إنها «قطع من الأدب الرفيع»، يشيدون ببراعة اختياره للكلمات، ويحيون قدرته على التحكم في غضبه رغم تعرضه للظلم، بل يتمنون أن يكون كل مظلوم في بلدهم لديه هذا الحس الراقي في التعبير.

مع المرجان يعلمني بإخباره لهم عن مشروعه، وخلال انتظار السبيط في المقلاة يحدثني عن التحاقه بدورة تعلّم لغة، وحين اشتهيت البطارخ تزامن ذلك مع حضوره صفًا عن تاريخ المجتمع الصيني. يطغى حضور الصين في كل تفاصيل المطعم، نسخ كتيبات الحزب الشيوعي الصيني تُرفق مع طلبات أسماك محله، وتوزع بيانات تعلن مواقف رئاسة الحزب من أغلب قضايا الساعة مع طياري توصيله الذين يوزعونها على المصلين أيام الجُمع والمارة في الشوارع.

«هل سيموِّل الرفيق بينغ أو الحزب الشيوعي مشروعي؟»، يحيرني بسؤاله، والحيرة تلد سؤالًا حول أهمية استقلال الكاتب حتى لا يتحول إلى بوق نظام شمولي، يتعجب مستفسرًا عن الفارق بين تمويل حكومي وآخر من مؤسسة غير حكومية، وإن تمويلًا يحارب الإمبريالية خير من آخر يخترق ثقافتنا ويلهينا عن كبرى القضايا بتوافه الأمور، يرتفع ضغط دمي، أنجو بنفسي من سفسطة مناظرتنا بالاستفسار عن الفص الأفضل لإعداد «فيش آند شيبس»، فيرشح لي فيليه سمك اللوت، ويقدم مزايا الترشيح:

– دهنه أبيض

– فصه غني

– قوامه لا يعلو عليه، خاصة إذا نُقع في البيرة والنشا قبل قليه في الزيت الساخن

يختار لي أفضل قطعية عنده، ويزن كيلو ونصف الكيلو من دون سؤالي عن الكمية المرغوبة، ويحدد سعره بطريقة الميزان من دون التوقف عن الكلام: قرمشة تسعد الرجل الأبيض والأصفر والأسمر. خلي بالك، «البطاطس لازم تُنقع مع عصير ليمون». وقبل تسليمي الكيس يعرض عليَّ صفقة جديدة؛ عربة تبيع فيش آند شيبس أمام النوادي الرياضية.

***

يعمِّر ثلاجة بمُجمدات الأسماك الصينية المستوردة، أنواع غريبة لم نسمع بها من قبل، تعافها نفسي لحبي الطازج من خيرات البحر، لكن باقي الزبائن يقبلون عليها، فيتحوَّل إلى مستورد صغير تتعدد فروع محله «صياد السعادة»، ويظل حلم السفر إلى الصين بعيد المنال.

يقول لي إنه لا يريد زيارتها للتجارة مثل الجميع، بل يعده السفير وكبار مسؤولي الثقافة الصينية لمهمة خطيرة، لكن أوانها لم يحن بعد.

يتحول إلى خبير في الشؤون الصينية، يقدم محتوىً على الإنترنت؛ توليفة من قشور تاريخ الصين، ويُدعى إلى البرامج التليفزيونية، ويشارك ضمن أنشطة تنظمها سفارتهم، وذلك بوصفه صديق شعبهم العظيم، (كيف يمكن أن يصادق كاتب واحد شعبًا كاملًا؟) ومع علو نجمه في هذا الشأن تساءلتُ إن كان أفلح في اصطياد النصاب بشبكة علاقاته، ولكني لا أجده لسؤاله كلما توجهت إلى «صياد السعادة» لشراء مأكولات البحر، فهو يدير تجارته عن بُعد.

ومع انتشار أخبار مرض جديد ينتشر في الصين، يدعو الناس إلى عدم تصديق الدعاية الغربية عمَّا يحدث في الشرق لأن «الشرق لا يأتي منه إلا الخير»، وهي عبارة يوظفها للدعاية لمجمدات صياد السعادة، فيدافع عن ثقافته الحبيبة مروِّجًا لبضاعته في الوقت نفسه.

يتسع مكسبه وتنط أرباحه مع طرح تطبيق بيع وتوصيل أسماكه الصينية. تتوسع مؤسسته. يستمر في التشكيك بشأن وجود مرض، ويؤكد بحكم صلاته بكبار رجال الدولة هناك أن ما يُشاع محض مؤامرة إمبريالية. يتعرض لهجوم عنيف مع إعلان الوباء واتجاه العالم للإغلاق، تُحطَّم فروع نشاطه التجاري، وتُقصف حساباته الإلكترونية بردود وسباب لا يعقل، لكنه يظل مُدافعًا عن سياسات الرفيق بينغ الاحترازية، وتستمر الحملات الإعلامية ضده حتى يُعتقل مع إعلان الحظر الصحي ويُسمى ساعتها «الجاسوس الصيني»، تصادر الدولة تجارته وأملاكه، وتختفي لافتات صياد السعادة ويُحظر تطبيقه.

تكثر تدوينات الزملاء من الكُتّاب المهاجمة له، ويعلن العديد منهم شكوكهم وارتيابهم في أدائه من البداية، بل أنهم اعتادوا شم رائحة زفرة فيما يكتب من أدب، وتمادى بعضهم أن الكاتب الذي ليس له خير في بلده لا يمكنه كتابة أدب حقيقي. ووسط شماتة تشفي الكُتَّاب في زميلهم الذي ترك الأدب وباع نفسه لدولة أخرى، يهديني القلق إلى البحث عن مصير صاحبي بسؤال كاتب آخر لا أحب كتابته أكثر من أدب الذي صار صياد السعادة، فيخبرني أن صاحبي ارتكب خطيئة بدفاعه عن حكومة الرفيق بينغ، ويزيدني من التحليل فقرة: صياد السعادة يصطاد في المياه العكرة، وعمل علاقة مع دولة الرفيق الجليل دون التنسيق مع دولتنا، بل يتربح صاحبك وحده من ذلك. قرصنا ودنه، وبعد 45 يوم بالتمام والكمال سيخرج سالم غانم. وبالمناسبة هذا اسم صاحبي الحقيقي وليس وصفًا ينتمي إلى تحليلات الذي لا أحب أدبه.

وبعد المدة التي حددها مَن لا أحب أدبه بالضبط، يُفرج عن سالم غانم، لكنه لم يعد للظهور، رغم بحثي الحثيث عنه.

***

ما فرَّقه الأدب جمعه السمك، رغم ذلك تتفرق سبلنا مجددًا، ورب صدفة خير من ألف ميعاد؛ على عتبة منزلي يقف عامل له وجه مألوف يوصل لي طلبًا من أحد تطبيقات التسوق الإلكتروني لبيع المأكولات البحرية، يغمز لي ويذكرني بأنه كان يراني في «صياد السعادة»، ويقول: «اطلبوه ولو في الصين».

بعد البقشيش السخي وسؤاله إن كان يقصد أن صاحبي في الصين، يغمز مرة أخرى، إذن استنتاجي صحيح، ويتأكد أكثر مع معرفتي أن الطلب مستورد من شركة «صياد السعادة» الصينية، ومع هذه المعلومة مرفق رقم صيني تجاوره أيقونة واتساب. بعد الغمزة الثالثة، بحثتُ عن موقع تلك الشركة فيتبين لي أنها تنين صيني يديره سالم غانم وآخرون. يبدو أن الكتاب لا يزال يغيِّر حياة صاحبي، فتحول من الاستيراد إلى التصدير، واستبشرتُ خيرًا بتحقق حلمه، وعيشه وسط آخرين يؤمنون مثله بحكمة كاتبه المفضل، وتوقعت عكوفه على الكتاب المنظور.

ومع تلبية طلب «ولو في الصين»، تجددت عروض صفقاته والتي ترتبط جميعها بالصين، ودعوتي إلى السفر إلى هناك، ولا يزال يشغلني سؤال لو أن مسافرًا إلى الصين لبّى مثل هذه الدعوات، كيف ستنتهي قصته؟

أحمد وائل، كاتب مصري من مواليد العام 1984،  يكتب قصصًا منها ما رُص تحت ثيمة «صواب خاطئ» (وزيز، 2024)، أو كتابه السابق «تربية حيوانات مُتخيلة» (المحروسة، ٢٠٢٠).

وقبل سنين نشر رواية «ليسبو» (ملامح، ٢٠٠٨)، ولم يكرر التجربة حتى الآن. يعمل حاليًا محررًا فى «مدى مصر».

أحمد وائلقصة قصيرةولو في الصين

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member