مجموعة من الشباب في تسعينيات القرن الماضي، يحاولون كسر المعايير الاجتماعية من دون أن يدركوا ذلك. ينشر المركز بالعربي فصلًا من رواية «ديوك وكتاكيت» أحدث روايات للكاتب المصري نائل الطوخي.
نائل الطوخي
ضلع حب في مربع صداقة
في التسعينيات، حيث ولد شباب قصتنا، كان جدل طويل قد ثار بين الحب والصداقة، انتهى في كل معركة بانتصار الصداقة انتصارًا مبينًا.
كانت البداية المعلنة مع أغنية راغب علامة، «آسف حبيبتي»، وتبدأ بصفير هادئ وحزين، يتبعه اعتذار المطرب لحبيبته لتركه إياها بعد معرفته أن صديقه يحبها، وبعدها بعامين، في 1995، يغني هشام عباس واصفًا رغبته في حبيبة صديقه، تمنيها لنفسه ثم قراره نسيانها حفاظًا على الصداقة، وأخيرًا، وفي عام 1998 وفي فيلم «دانتيلا» ستقدّم إيناس الدغيدي تنويعتها النسوية للفكرة، إذ تتنافس الصديقتان، يسرا وإلهام شاهين، على قلب محمود حميدة، لينتهي الفيلم بقرارهما التخلص منه، لأنهما اكتشفتا، بحسب تعريف ويكيبيديا، أن صداقتها أعمق وأمتن من أن يفسدها رجل.
ولكن قبل كل البدايات المعلنة كانت البداية الحقيقية؛ في عام 1992، كان حميد الشاعري، نبي موسيقى التسعينيات ومؤسسها، قد قدّم مع هشام عباس أغنية غريبة الأطوار باسم «حلال عليك»، وفي الكليب الذي طالما أذيع في التلفزيون المصري، يظهر الصديقان وهما يلعبان الكوتشينة ويتعازمان على كارت البنت، لا أحد يريده لنفسه.
يمكن الاعتقاد بأن الأغنية الأخيرة هي ما ألهمت الأعمال الثلاثة التالية، بعد تنقيحها وتخليصها من شبح الدياثة الذي حام حولها.
بعد أن التقى مينا ببطشو وبهاء لمرتين في قهوة بالألف مسكن، وقبيل اللقاء الثالث، وهم لا يزالون في طور التعرف، سيخبره بهاء أنه سيأتي مع صاحبته، ولن يرد مينا، الذي لم يصاحب قط ولا مارس الجنس قط، فقط ينهي الاتصال ويعود لبطشو ليخبره أن بهاء سيأتي مع صاحبته، ولما يستفهم منه بطشو عن معنى الكلمة يقول لا أعرف ولكنها غالبًا صاحبته صاحبته مش صاحبته صديقته، فيرتبك هذا بين الجد والمزاح ولا يجد ما يقوله سوى طيب ما يجيب اللي يجيبه يسطا احنا مالنا، يقولها بعدم ارتياح، ولا مينا كذلك كان مرتاحًا، هذا لأن فوق جهلهما بما يجب أن يقال أمام صاحبات أصدقائنا، فإن القهوة نفسها كانت قهوة بلدية ذكورية لا تجلس فيها النساء، فيعاود مينا الاتصال ببهاء ليشرح له الوضع:
– الرجالة بيشربوا شيشة في القهوة دي.
– وماله؟
– وبيشتموا وبيشخروا عادي.
– أيوة طبعًا!
– يعني ماينفعش بنات تقعد عليها.
– بس إحنا ينفع نخلي البنات تقعد عليها.
كان بهاء بركانًا من القيم التقدمية، بمقدوره حرق أي عقل محافظ أمامه، ولم تكن لمينا، في المقابل، آراء قوية في الحياة، فقط كان يخاف المشاكل.
– طيب ما نقعد في كافيه في وسط البلد وخلاص؟
– لا يا مينا مش هنقعد في كافيه في وسط البلد وخلاص، قال بسأم، أنا جاي القهوة بعد بكرة ومعايا سيما.
كان اسمها نسمة واسم دلعها سيما، وكان في إشارته إليها باسم الدلع، أمام صديقيه، إصرارٌ على تقديم الحب إلى الصداقة، رغبة في الإمساك بالعالمين وحفّهما ببعض بلا خوف من اندلاع الشرارة.
وأتت نسمة، ولم تندلع حرب الأنثى بين الرجال، إذ لم يشعر أحد أصلًا بوجودها كأمر خارق، لا يخاطبها القهوجي إلا باحترام وبلقب «الآنسة»، وهي كذلك لم تكن جميلة بشكل بارز، نحيلة ومحجبة بوجه مستطيل وملابس معقولة، لا تلفت الانتباه أكثر من اللازم، وإذا عقّبت على نقطة فلا تتوجه عيناها إلا لبهاء.
في الجلسة، وللفت نظرها ربما، ستعتري مينا نزعته الرومانسية ويشير للسماء هامسًا بشيء عن ليل القاهرة، وتأتي العبارة في غير محلها لدرجة أن يُحرج بطشو فيلتفت لبهاء ويقول معلش اعذره أصله من عشاق الليل، فيطلق بهاء شخرة خفيفة ويلتفت لمينا باستهزاء قائلًا مُحْنو، ليرتبك هذا ويسرسع سائلًا لماذا وأين المُحن في هذا.
سيثور بين مينا وبهاء، فعليًا، ما ثار في عقل كل منهما منفردًا، يعلن الأول عن نفسه كعاشق للمساء فيعلن الثاني عن نفسه كعاشق للصباح، يقول الأول شيئًا عن سحره وسماه ونجومه وقمره، فيدمدم الثاني ملولًا، بْلا بْلا بْلا بْلا، ويكاد الأمر يتطوّر لعصبية حقيقية لولا أن نسمة تلتفت لبطشو، مفجّر النقاش، وتخاطبه باسمة، دا إنت سوسة أوي إيه دا، فينفثئ الغضب ويضحكون جميعًا على الكلمة الوحيدة للأنثى الوحيدة.
في مغادرتهم، وبطريقهم لسيارة نسمة، وبدافع ضيق الرصيف والجنتلة وعدم الاقتحام، سيسير أربعتهم على صفين، في الأمامي بهاء ونسمة، وفي الخلفي مينا وبطشو، يسيرون في مربع تنفتح أضلاعه أحيانًا وتلتمُّ على بعضها أحيانًا أخرى، ولكن الأكيد أن أمتنها، وبفض الهمس والتسبيل والكفين المشبوكتين، كان الضلع الذي في المقدمة، وأن الضلع الخلفي كان ينظر مشدوهًا إليه كمن يشاهد عرضًا مسرحيًا، وأن شيئًا في هذه النظرات كان يعلن انتصار الحب، بوصفه الطرف المستحق للفرجة، على الصداقة المحبوسة في مقاعد المتفرجين، تهلّل وتصفّر وتفعل كل شيء ولكن فقط في الخلفية.
لا تستعجل الرب إلهك
لن تنعم شلتنا الوليدة، مينا وبطشو وبهاء ونسمة، بدرجة الصلابة التي نعمت بها شلة الشبه دايرة، أصلًا فلن تستمر كشلة إلا لعام ونيف بين 2012 و2014، ستظل بعدها عناصرها تتجاذب وتتنافر، فقط في هذه الفترة ستتثبّت العناصر الأربعة في قهوة الألف مسكن، ونقول الأربعة من باب التقريب أيضًا لأن نسمة لم تكن دائمة الحضور.
وعلى خلاف المثقفين العجائز الذين تمحورت حياتهم حول البيرة، فقد تمحورت حياة الشباب حول الحشيش، استحوذت سيرته على جل جلساتهم، استفاضوا في الكلام عنه وأفنوا ساعات في إعداده؛ البطشو يجهّز الكوبايات، وبهاء يلف الجوينتات، ومينا يتعلّم من الاثنين كيفية تدخينه، محترقًا مع التبغ أو صافيًا متصاعدًا من قعر الكوباية.
غالبًا ما كان يحشّش مع صديقيه في القهوة، يُخرج بهاء الجوينت من جيبه ويتسحّب بعيدًا ثم يعود ليناوله لبطشو الذي يكرّرها ثم يناوله له، وتحمرّ أعينهم كاتمين ضحكاتهم فلا يلاحظ أحد دبيب الخراب فيهم.
حياة كالضباع عاشوها في الشوارع، حتى يدعو بهاء صديقيه لبيته بالزيتون، فيخلق هذا لديهما إحساسًا بالتبعية له، تطغى شخصيته على شخصيتهما إذ تبدو حياته لهما كأنها الأصل في الأشياء، الصديقة والدراجة والبيت المستقل الذي يسمُ الآلهة الشباب.
في بيت بهاء سيجلس ثلاثتهم، هو على كرسي هزاز بالصالة، مينا وبطشو على الأرض، الأول فاردًا ساقيه والثاني مربّعًا إياهما في وضع التقوقع، كل منهم يشد نفسًا من الكوباية، ثم أنفاسًا عديدة من الجوبات المتلاحقة، يعلّقون على مظاهرات الاتحادية وتصريحات محمد مرسي، ويشتمون ويضحكون حتى يسعل بهاء متسائلًا عن سبب تأخر النيزك، مش المفروض ييجي بقى ويبيدنا كلنا بسلامة الله؟
بسرعة بديهة غذّاها الحشيش، أشار إليه مينا بسبابته: لا تستعجل الرب إلهك!
برده الواثق هذا، وبمسحته الإنجيلية، أراد مينا أن يكون النيزك هو ربنا الذي نعبده، وكان هذا النوع من عبادة الديستوبيا، في وقت لم تُعرف فيه بعد كلمة «ديستوبيا»، شديد المفاجأة بالنسبة لصديقيه، فشخرا من الصدمة ثم من الضحك، حاولا التنويع على الإفيه ولكن طبقاته المتداخلة حالت دون أن يصدر عن أحدهما ما يضارعه، فاكتفيا، بعد عاصفة الضحك، بتكراره المرة تلو الأخرى، بمن فيهم بهاء نفسه الذي أُخذ إفيهه ووُئد في مهده لصالح النيزك الرب الإله.
في قلب الليل والزبالة
قاد الحشيش مينا نحو صفاء البال، لم يعد يسرسع كما كان في السابق، وبان هذا أكثر ما بان في الصفير، حتى سيعود يومها من بيت بهاء ماشيًا وهو يصفّر منتشيًا، يدعو ربه، وقد اعتدلت علاقته به قليلًا، أن يمنحه يومًا بيتًا له وحده كما لأصحابه.
سيموت أبوه بعد أسبوع فتتحقّق، وإن بشكل دموي، بوادر المعجزة، يحصل على غرفة تخصه في البيت، يتمكّن أخيرًا، في أيام العزاء، من دعوة بطشو وبهاء إليها، فيدخلانها مرتبكين، لا يعرفان ماذا يقال في عزاءات المسيحيين، يحاولان تبديل أي «ربنا» بـ«الرب»، فيستغرب مينا لوقعها، تفلت من أحدهما «قدّاس» بقافها الكاملة كأنها «قُضّاص»، فيجفل قليلًا، أما عندما يقولان شيئًا بلغة المسلمين، «شد حيلك» مثلًا أو «ربنا يصبّرك»، فكانا يجدانه، لدهشتهما، يتجاوب معهما.
سيحرص مينا على إبداء اللامبالاة إزاء موت أبيه، في أول برهة صمت يسأل صديقيه إن كان معهما حشيش، فيمعن بهاء النظر له للتوثُّق من طلبه، ثم يخرج قطعة من محفظته ويلف منها جوينتًا يناوله إياه، يشرب نفسًا ويناوله لبطشو ثم يفرد جسمه على السرير ويغمض عينيه، يصفر لحن «الليل الهادي»، خلاني وحيد، ونصيبي نصيب، متهاديًا كماء النهر، والشفتان مثل سد أمامه يمنعه ثم يطلقه.
سيفتح عينيه بعدها فيجدهما ينظران إليه بانشداه، فيرتبك ويغيّر الموضوع: جوينت جديد بقى ولا إيه؟
يبحث بهاء عن قطعة الحشيش فلا يجدها، ويقفز مينا من السرير لمشاركته البحث بلا طائل، وبطشو مرتبك لسبب غامض، يلاحظان هذا ولا يفهمانه، حتى ينظر له بهاء مستفسرًا فيعترف متلعثمًا إنه وجد منديلًا متسخًا فرماه من الشباك، ويظل يدور في مكانه كالنحلة لتفادي الشتائم والأيدي الممتدة.
– خلاص كفاية هبل، يقول مينا، إحنا هننزل تحت ندوّر عالحشيش.
– هندوّر في الشارع؟
– وأكتر من الشارع، في مقلب الزبالة، قالها بصوت حاسم وأجش، غير هياب، بفضل الحشيش، من عرض الحقيقة بقسوتها.
ثلاثة أرواح شابة غادرت بيت عين شمس ليلًا، يحدوها أمل في العثور على ما لا يُعثر عليه، يمضي أحدها في إثر الآخر، ينزلون السلالم ويتقدّمون حتى السور المجاور، يشير مينا، السائر أمامهما وبيده كشاف الموبايل، لفتحة فيه، فيدخلون منها متسلقين ركام الزبالة، يكادون يتعثرون في كل خطوة فوق تموجاته، ونور الموبايل يكشف لهم قططًا ميتة، عظام فراخ، كتل أرز مجمَّدة، ألواح زجاج مهشّمة، قوالب طوب أحمر، صناديق خشبية بجدران مشققة، أشواك سمك تطل من أكياس مبقورة، طقم أنتريه غارق نصفه في الركام.
تطلع مينا حوله، ولسبب ما قرّر التوجه إلى طقم الأنتريه، جلس على فوتيه مسودّ يتوسّطه، اطمأنت مؤخرته لحشاياه فاضطجع هناك، ولم يسائل أحد سلطته الوليدة تلك، ولا سبب استئثاره بالعرش، بل كان في بداهة جلوسه عليه، وتسليطه كشاف الموبايل على النفايات، ومعاودته صفير «الليل الهادي» واندماجه فيه، ما يعلن انتصار الليل على النهار، وكان المعني بهذا حصرًا هو بهاء عبدالله، والذي أخذ يهز رأسه إعجابًا كالمعترف بحق الذوق السنتمنتالي في الوجود.
من موضعه على الفوتيه، سيرى بطشو يتعثّر على هوة عميقة، يقع فيها ويسيل الماء الثخين على تي شيرته، تتعالى شخراته وأحّاته وهو يحاول النهوض مستندًا لكف بهاء، ومينا لا يزال ناظرًا مبتسمًا كمن يعلّق بصفيره على الأحداث، إنت هنا، وروحي معاك، إنت إنت هنا، وروحي روحي معاك، يتوتر اللحن عند الوقوع، ويتحمّس مع القيام مجددًا، وهو كإله يراقب الجميع ولا يتدخل في الأحداث بل إن الأحداث هي ما تسعى تحت قدميه، يلمح بالأسفل على بعد مترين منديلًا مكوّرًا، يلتقطه ويفضّه فيجد بداخله الحشيشة المفقودة.
لو حدث هذا في لحظات الصحو لتقافز في مكانه وسرسع معلنًا إنجازه، ولكننا نجده الآن، تحت تأثير الحشيش والصفير والعرش والملكوت، مغمورًا بالامتنان الهادئ للكون، يكتفى بضم الحشيشة لصدره خفيفًا، يقطع صفيره مستبدلًا به الغناء بكلمات يرتجلها لمناداة صديقيه:
تعالوا لي هنا،
تعالوا لي قوام،
معايا سطفّة، تجنّناااي
وجرى الصديقان نحوه لمّا وجداه يلوّح لهما بها، وعانق الثلاثة بعضهم عناقًا هائلًا، وظل ماء الزبالة ينطبع من تي شيرت البطشو على ملابس مينا وبهاء حتى تفوح من ثلاثتهم رائحة العفن في قلب العفن، ولا يثير هذا فيهم إلا الضحكات المجلجلة، والتي سيكون من نصيب مينا، موجد الذهب في قلب الخراب، أن يختمها بابتسامة عرفان صوفي، يشكر بها ربه كما يؤكّد على حكمته الملغزة: ما قلنا يا جماعة لا تستعجل الرب إلهك.