
ننشر ثلاث قصص من مجموعة ليلى عبد الله القصصية الأخيرة «فهرس الملوك»، حيث تحكي الكاتبة العمانية بأسلوب يشبه الحكايات الشعبية، قصة ملك ومملكته، وكيف يتعامل مع رعاياه.
ليلى عبد الله
حاملو اللواء
تقلّبت أحوال البلاد في الأعوام الأخيرة، منذ خروج ثُلّة من الذين يدعون أنفسهم بالكتبة، ووقوفهم أمام قصر الملك مطالبين بوضع حدٍّ للمجاعة المتفشّية، بعد هلاك كثير من الناس جوعًا كما يدّعون!
وتمكّن جنود الملك – بأوامر عليا – من ملاحقة هؤلاء المتلاعبين بعقول النّاس البسطاء وزجّهم في السّجون، فلولا هؤلاء الكتبة وبثّهم السموم لبقيت المملكة تعيش بسلام لدهور، ومضى حال النّاس كما كان في زمن حكم السّالفين، لكن يبدو أنّ الحظّ التّعِس للملك، جعل حكمه يتزامن في زمن الكتاتيب وظهور الكَتبة، وكان مضطرًّا لمسايرتهم، حتّى لا يوصم بالجهل في مقابل الممالك الأخرى المتحضّرة.
اقترح عليه الوزير الخاص قبل سنوات وهو الذي عُينّت مكانه، أن يأذن بفتح كتاتيب لتعليم النّاس القراءة والكتابة وتدوين المخطوطات العلميّة منها والطبّية والثّقافيّة وتخصيص سوق لهذه المخطوطات لعرضها وبيعها، وهذا من شأنه أن يشغل النّاس بمتابعة العلوم وإقناعهم أنّ قليلًا من العلم خير من كثير من المال.
للأسف كادت مشورة الوزير الأحمق السّابق أن تودي بحكمه، فالكَتبة حرّضوا النّاس على الثّورة والإطاحة بعرش الملك، بدعوى أنّ الملك لا يقوم بدوره، وهو ممثّل لإرادة الشّعب، وموجود لخدمتهم ورعاية مصالحهم.
تدارك الملك خطأه سريعًا، فأمر بقطع رأس وزيره السّابق وبزج أولئك الكتبة المحرّضين بتهمة العصيان والزندقة في سراديب تحت الأرض. أشرفت شخصيًّا على سلب قدراتهم العقليّة، كما أمرني الملك.
صودرت الكتب التي تتلاعب بعقول الشّعب، وحُرقت وسط سوق المخطوطات، وحلّت محلّها كتب تسرد بطولات الملك، وتدعو للتّرفيه، كما خُصِّصت الكتاتيب لحفظ الآيات التي تحرّم العصيان، وأُصدِر قانونٌ يَتّهم بالزندقة كلَّ من يقرأ كتبًا لا تعترف بها المملكة. فانصاع النّاس خوفا وخشية من العقاب؛ فيدّ الملك أصبحت من حديد.
بعد تلك الأحداث المضطربة، سكنت الأوضاع قليلًا، فجاء أحد الكتبة إلى القصر، وطلب مقابلة الملك شخصيًّا، فذهلتُ من جسارته ومن ثقته العالية بنفسه. ماذا يريد هذا المدعو بالخاطّ، وهو من الكُتّاب. أشد أعداء الملك خصومة؟!
ارتأيت أن أسمع ما لديه قبل أن أسمح له بمقابلة الملك، لكنّ أسلوبه وإصراره على لقاء الملك شخصيًّا لم يترك لي من حيلة، فحدّدت له موعدًا، وحين وقف في حضرة الملك انحنى احترامًا وتبجيلًا، ثمّ قال بلهجة واثقة: «أيّها الملك الميمون، يا صاحب السّموّ والقداسة، إنّ لديّ آراء ثمينةً، أعرضها عليك للبيع».
لوهلة دُهش الملك، فأيّ الكَتبة هذا الذي يقف أمامه ويعرض آراءه للبيع وكأنّه في سوق؟! لطالما أدرك مدى وقاحتهم، لكنّه عزم أن يجاريه، فردّ عليه مستخفًّا به:
«وهل ستبيعها لي بالجملة أم بالمفرد؟!» ثمّ أطلق قهقه عالية وارتجّت القاعة بالضّحك..
غير أنّ الخاطّ ابتسم، وقال بثبات: «سيّدي الملك، لعل صيتي لم يصل مملكتكم، إلّا أنّني أنتمي لمنهج غايته هداية الشّعوب ووأد الفتن التي تهدّد عروشكم، عبر آراء نصوغها بأسلوب يقنع البسطاء المعدمين بأهمّية طاعة الملك وتقديم الولاء له».
أعجبت نبرة الخاطّ الملك، فسأله متوجّسًا: «وهل تستطيع أن تلين ثائرة شعبي، فهي قائمة على أشدّها هذه الأيام؟»
فرد عليه المثقّف بصوت فخور: «أعدك – أيّها الملك – أنّ شعبك سيخضع تحت سلطانك خلال مدّة قصيرة، بل هم من سيحاربون أولئك الكتبة المزيّفين الذين يريدون هلاك البلاد والعباد».
ثمّ طلب الخاطّ من الملك بعضًا من أعوانه يساعدونه في مساعيه، على أن يجالسوه لأيّام عدّة، كي يلقمهم ويلقنهم الخطب التي سيمضغونها، ويقدمونها للنّاس في مختلف أرجاء المملكة.
وحرص الخاطّ على دسّ هؤلاء الأعوان في كلّ أنحاء البلاد، وفي الأماكن التي يحتشد فيها النّاس، ومعهم لواء صغير يُعطى فقط لمن يتحقّق ولاءه، كما منحهم ميزانية خاصّة، فوافق الملك عليها.
عيّن في السوق عطارًا حذقًا، يبخّ النّاس كلامًا جميلًا، ويمجّد ملك البلاد. كما عيّن في المسجد إمامًا جديدًا، يخطب في الرّجال أوقات الصّلاة، ويدرّس الأطفال في الكتاتيب قصائد المديح. وطلب من الدّاية أن تطوف على البيوت، ليس في أوقات الولادات فحسب، بل في كلّ حين، وتنشر بين النّساء شائعات القصر، وتحثّهن على تسمية أطفالهم بأسماء تتوافق وسياسة البلاط.
وبعد مرور عام، عادت البلاد إلى سابق عهدها، فلا النّاس ثارت، ولا تجرّأ أحد من الكتبة على التّلاعب بعقول النّاس، فقد أصبح كلّ أولئك النّاس البسطاء حاملي لواء الملك، وعاش الخاطّ متنعّمًا في قصر منيف، يبيع آراءه في بلاط ملوك آخرين.
نفايات الشّعب
كانت البلاد في هرج ومرج عن احتفال الأزياء الكبير الذي سيقيمه الملك، وعن الزّيّ الذي سينافس الملك به الملوك الآخرين في هذه المناسبة. عرض عليه أشهر الخيّاطين في البلاد تصميمات مختلفة، لكنّه لم يقتنع بها، فهو يبحث عن شيء مختلف يميّزه عن بقية الملوك القادمين من الممالك الأخرى.

لست خياطًا للثّياب، ولم أرث من أبي شيئًّا سوى الفقر، فقد ولدت في حيّ النّفايات، كانت أمّي تبيع المعادن التي تلتقطها من كومة النّفايات، تربّيت مع تلك الخردة، وتعلّمت تركيب أشياء منها. كائنات تصير إلى هيئات بشريّة وحيوانيّة، وأحيانًا تتشكّل لتغدو شكلًا مشوهًّا، لكن بطابع فنّيّ يعجب بعض الأذواق.
مرّة أعجب أحد الفلاحين بشكلٍ صنعته، فاتّخذه فزّاعة لحقله، يطرد بها الغربان وأعطاني ذرة بديلًا لها. كنت في السّابعة من عمري حينها – ومنذ ذلك الحين – صارت هوايتي صناعة هيئات غريبة من النّفايات التي ألتقطها من الكومة التي صارت مصدر رزقي، ألملم الخردة وأعرض ما تصنعه يداي للنّاس.
حين سمعت أنّ ملك البلاد يبحث عن زيّ، فكّرت أن أصنع له ثيابًا من عدّتي التي أجمعها، وبقيت أيامًا أجمع ما يفيض من أشياء النّاس، ولحسن حظّي كانت النّفايات كريمة معي، فقد لملمت الكثير من قطع معدنيّة وخشبيّة وجلديّة وبقايا أقمشة ذات أشكال وأنواع متباينة.
لم أكن أضع عادة مخططًّا لما أودّ صنعه، فما إن أُعمل يديّ فيما أحصل عليه حتى تتخلّق الهيئات التي تفاجئني شخصيًّا. بقيت يداي تعمل لليال متواصلة على تركيب القطع بلا تخطيط مسبق، كان يهمّني أن أصنع زيًّا، يليق بمكانة ملكنا، تظهر قوّة شخصيّته ومدى جبروته أمام أعدائه.
عندما انتهيت من وضع آخر اللمسات تنحّيت جانبًا أتأمّل الكائن المهيب الذي صنعته. كان من الصّعب عليّ أن أخفي مدى إعجابي وغرابتي من الشّيء الذي تشكّل أمامي، فاستعرت عربة جاري ووضعت الكائن فيه، وغطّيته بقطعة قماش، ليبقى مخفيًّا عن أعين الفضوليين، ولتكون عين الملك هي أوّل من يراه. كانت بوّابات القصر مشرعة أمام كلّ الخياطين أو من يمثلونهم، وعندما دخلت إلى القاعة – التي يستقبل فيها الملك وفوده من الخياطين – وقفت أمامه، وقلت له محنيًّا كتفيّ:
«أيّها الملك الميمون، اسمح لي أن أرخي السّتار عن الزّيّ الذي صنعته خصيصًا لك».
بدا الملك ومن حوله من حاشيته متحفّزًا، وحين رفعت الغطاء وقف مشدوها، يمعن النّظر في هيئة الكائن الذي يتوق لجسد جلالته حتى يكتمل، ثمّ صرخ مذهولًا:
«يا له من زيّ لا مثيل له، إنّه يعبّر عن انتمائي لشعبي، هذا ما أريده حقًّا! شيء يميّزني ويظهر حبّ شعبي لي أمام الملوك الآخرين».
طلب الملك من حرّاسه أن يأخذوا الكائن إلى جناحه، كي يستعدّ لمراسم الاحتفال، وأمر بصرف ألف دينار لي من خزينة الدّولة.
كنتُ حريصًا على حضور الاحتفال، لأشهد ردّة فعل الحاضرين. دخلت بين الحشود المتراصة؛ فقد كان النّاس يتوافدون خارجين من بيوتهم ليحتشدوا في السّاحة الكبيرة، حيث يجتمع الملوك مع ملابسهم الغريبة وهيئاتهم المختلفة. وقف هناك ملكنا متدرعًا بداخل الزيّ المهول الذي صنعته، وكان من عادة ملك البلاد – كما في كل عام من الاحتفال – أن يمرّ بالقرب من شعبه لتلقّي التّهاني والدّعوات، وحين دنا من البسطاء متباهيًا بطلّته صار النّاس – ولا سيّما الأطفال – يشيرون بأيديهم إلى أشياء متعلّقة في جسد الملك، وفجأة تناهت أصواتهم المختلطة من وسط الحشد الهائل: «انظري يا أمّي أليس هذا حذائي الممزّق الذي رميناه؟!» وآخر يقول: «أنا متأكّد أنّ هذا الدّورق المكسور يخصني».. وأخرى تعلّق: «هذه فأس زوجي المتوفّى».. «تلك ساعتي الرّملية التّالفة».. «هذا طبقي الذي تحطّم».. «حدوة حصاننا».. «أوه، إنّه شريط شعري».. «مشط دميتي».. «عكّازة جدّتي».. «ذاك زناري».. «إنه جلد حذائي».. «أوه، كأنّه غطاؤنا»…!
اختلطت أصوات النّاس البسطاء، وكان كلّ منهم يشير إلى شيء كان يمتلكه.. بدوا مذهولين.. كيف أنّ ملكهم يمضي وسط الحشد مرتديًّا أشياءهم البالية وهو يملك خزائن الأرض!
وصلت أصوات الحشود المتنافرة إلى أذهان الوفود الحاضرين من ملوك البلدان الأخرى. فاستنكروا بدورهم سلوك ملك هذه البلاد قائلين: «الملك يلبس خردة شعبه، يا له من ملك! انظروا إلى شعبه، هؤلاء البسطاء، حتّى خردتهم سلبت منهم! يا له من ملك جشع!»..
وأصوات البسطاء تهتف: «أعيدوا لنا خردتنا، أعيدوا لنا خردتنا!».
تكثّفت الأصوات حتّى صارت أجسادهم تتبعها إلى حيث الملك يقف مذعورًا في داخل كائن ينهار رويدًا رويدًا، فقد كانت الأيدي الممتدّة تنتشل ما كان ملكًا لها!
الملك المزيّف
كنت في كلّ ليلة أتسكّع مع ندمائي. نحتسي مشروبًا رخيصًا. ونتنابز بألقاب مضحكة. نأخذها من صفاتنا. فكانوا ينعتوني بالملك المزيف؛ لأنّ ملامحي تشبه ملامح الملك على اختلاف أبّهة الملبس والمنطق.
وفي ليلة – وأنا أحتسي ثمالة كأسي – خطرت ببالي فكرة مجنونة، جعلتني أزعق فيهم بصوت النّشوة المترنّح: «يا رفاق السّكر والعربدة، حين أصير ملك هذه البلاد، سأدعوكم إلى براميل الشّراب المعتّق، وهيّا الآن هاتوا شرابكم الرّخيص؛ أكرموني لأكرمكم».
ضحك السّكارى، وصار كلّ منهم يهذي بأمنياته. ساخرين من ملك بلا تاج. يرتدي ثيابًا مرقّعة. جيوبه ممزّقة. يقضي نهاره يصرخ على زوجته، وهي تلعن اليوم الذي تزوّجت به. تماشى مع حماسه تلك الليلة أحد الشّاربين قائلاً بلسان مثقل من السُكر: «ستصير ملكًا، وسنحتسي شرابًا مصفى في ضيافة مجلسك كلّ ليلة. فهاج السّكارى وانفعلوا مصفّقين ومصفّرين لملكهم الميمون».
نهضت وأنا أتخبّط في مشيتي حتّى وصلت بيتي. كانت زوجتي كالعادة تنتظرني عند باب البيت. تطلق لعنات اعتدت على سماعها كلّ ليلة. غير أنّي قلت لها هذه المرة بصوت ينمّ عن غيظ: «يا امرأة الشّؤم، سيصير زوجك السّكير هذا ملكًا، وسيتزوّج بأميرة تليق به».
أطلقت ضحكات عالية كادت من صخبها أن توقظ الصّغار النّيام، ثمّ قالت بنبرة متشفّية: «يومها سأرقص أمام الملأ أيّها الملك العربيد، هيّا اذهب إلى النّوم يا نذل؛ فلديك غدا عمل».
استيقظتُ صباحًا واسترقت السّمع لصوت جارة زوجتي، وهي تحدّثها أنّ زوجها – الذي يعمل طبّاخًا في القصر – سمع أنّ الملك مهدد بالقتل من قبل جماعات في البلاد الأخرى، وأنّه كثّف حراسته وصار يدقّق في كلّ من يدخل القصر، وأنّه عيّن مراقبًا على الطّبّاخين الذين يعدّون الطّعام، والذين يوفّرون الشّراب خشية أن يدسَّ أحدهم السمّ فيه.
لا أدري كيف حملتني قدماي إلى بيت جارنا؟ أحد طهاة القصر طالبًا منه أن يأخذني إلى قصر الملك. ارتاب الجار من أمري، فهي أوّل مرة أتحدّث معه؛ فرفض طلبي، لكنّني أقنعته بأنّني لو هذّبت لحيتي وأنقصت وزني سأكون شبيهًا للملك، وقد ينفع ذلك الملك، كما هدّدته بأن أشيع في المدينة أنّه يسرق مؤونة وأواني من مطابخ القصر، ويوزعها على أقاربه.
فوافق مرغمًا، وذهبت برفقته إلى القصر، ودبّر لي لقاء مع وزير الغذاء الملكيّ، فالتقيته وأخبرته عن امتلاكي لوسيلة تنقذ الملك من شرّ أعدائه وتحميه.
فحص الملك هيئتي، مستغربًا تشابه ملامح وجهي العريض وعيني الغائرتين وجبهتي البارزة وذقني الدقيق. قلت له متلعثمًا: «انظر إليّ أيّها الملك، إنّني أشبهك، وحتّى رفاقي يلقّبونني بالملك المزيّف، بإمكاني أن أحلّ مكانك وقت ما تريد اختبار أعدائك لأحميك دون أن يعلم أحد بذلك».
أُعجِبَ الملكُ بالفكرة، لكنّه ظلّ مرتابًا، وسألني: «ما مصلحتك بأن تغامر بحياتك؟!»
أجبت مرتبكًا: «نحن فداؤك، وحياتك حياة للشّعب».
كان خيالي سابحًا في براميل الشّراب التي سأحتسيها كلّ ليلة إن غدوت ملكًا ولو مزيّفًا، وأردفت:
«وماذا تساوي حياتي الرّخيصة أمام حياتك الثّمينة لهذه البلاد، روحي فداك أيها الملك».
طلب منّي أن أتخلّص من حياتي الماضية، وأن أستقرّ هنا في جنبات قصره، وألّا يعلم بالأمر حتّى أقرب أعوانه. خضعت لنظام غذائيّ لتخفيف شحومي، وقام حلاق الملك بتحديد لحيتي بالهيئة الملكية وارتديت اللباس الملكيّ، وكنت أعيش في جناح خاص قرب أجنحة الحريم حتّى لا يراني أحد من حاشية القصر، وحين يرغب أنّ أحلّ محلّه في أيّة مناسبة، يبقى هو في الجناح وأذهب مع الحرّاس، وحين أعود أنقل له ما دار في اللقاءات التي عادة ما تكون احتفالية، ولا تتطلّب منّي الدّخول في أحاديث رسمية.
ومع احتدام النّقد وتطاول المعارضة أصبح الملك مرتابًا، وظلّ يلازم جناحي. فمرّت الشّهور وأنا أزداد رونقًا بفضل الأنبذة المعتقة التي أحتسيها كل ليلة. كما بعثت ببراميل لندمائي السّابقين فأنا ملكهم المزيّف. كان الوزراء يوقّرونني، والحرّاس حريصين على حمايتي، والطّهاة يجتهدون في إرضاء معدتي، لم يعكّر صفو حياتي شيئًا، لكنّ ما كنت أخشاه حقًّا زوال هذه النّعم والعودة إلى حياة الفقر. لعن الله تلك الحياة البشعة!
مع الوقت توسّعت سلطتي، وصار الملك من رعبه يلازم جناحي المظلم. كنت حريصًا بدوري على نقل الأخبار المزيفة عن أعدائه المتربّصين ومدى خطورتهم، حتّى أكفل بقائي لأطول مدة مرفّهًا!
وفي ليلة ظلماء كنت أتمشّى مترنّحًا في حديقة القصر. أطارد جارية بعيدًا عن الحراس، وإذا برجل ملثّم دنا منّي وفي يده خنجر مسموم صوّبه نوحي. كنت أتراجع للوراء وأنا أقول له متفصّدًا عرقًا وصوتي يرتعش: «لا لست الملك الحقيقي أنا مجرّد رجل معدم، أنا مزيّف، أرجوك لا تقتلني، لست الملك، أنا شبيهه، صدّقني، الملك هناك في الأسفل، في الجناح المظلم».
مات الملك… مات الملك! تفشّت هذه العبارة في أنحاء المملكة كلّها، وحين سمعه الملك المختبئ في الجناح المظلم أدرك أنّ الأعداء تربّصوا لشبيهه، خرج بكامل طلّته إلى مجلسه ليخبر وزراءه أنّ الأعداء قتلوا شبيهه، وأن تلك الصّفقة التي عقدها معه أنقذت حياة ملكهم.
لكن الوزراء رفضوا تصديقه واتّهموه بانتحال شخصية الملك خصوصًا أنّ هيئته قد تغيّرت، فقد زاد وزنه وطالت لحيته، وأمروا الحراس بقذفه خارج القصر، فظلّ الملك يردّد: «أنا الملك، أنا ملك هذه البلاد، أيّها الوزراء الحمقى سوف أقطع رؤوسكم جميعًا، اتركوني، أنا الملك، أنا وحدي الملك، لم أمتّ، ما أزال حيًّا، ذلك الرّجل كان شبيهي!».
يقال، إنّ هذا الرجل الذي صار يدّعي أنّه الملك، اعتنى به مجموعة من السّكارى، كانوا ينحنون له كلّما دخل الحانة.
