بطاطا حلوة في القلب

24 March, 2025
نجاة مكي (مواليد الإمارات العربية المتحدة 1956)، بلا عنوان 47، أكريليك وطلاء فلوري على قماش، 193×190.5×3.5 سم، 2020 (بإذن من معرض عائشة العبار).
عن بطاطا الجد الحلوة وذكريات الطفولة، والحب، وكيف يبكي المرء، تتنقل أمل السعيدي بين أفكارها وتفاصيل حياتها.

 

أمل السعيدي

 

لطالما حلمتُ أن أصحو في وقت مبكر من الصباح. لم أعد قادرة على الإحساس بحلاوة أي شبع. كأن على الأشياء أن تقف على حدود مرسومة بدقة، حيث لا تصل ولا تقفُ بعيدًا عن آخرها. لذلك عليَّ أن أنام بقسط، أن أتحدث بقسط، أن أحدِّق بقسط، وهكذا. صحوتُ عند الخامسة فجرًا، كان الضوء يقبض شيئًا فشيئًا على الهواء في الخارج، يُغير إيقاعًا هينًا ويتولاه برحمةِ غير مسبوقة، ربما لأن الصيف لم يحل بعد، وربما لأن الأشياء التي تحدثُ في الصباح غير متوقعة، وهي هكذا، رقيقة وتتكسر، هشةٌ ولا يُعاد تقويمها، بل تتغيرُ ببطء لين، ولا شيء يصلُ إليَّ في الغرفة سوى ما أظنه همهمة عصافير تأخذ دور حشرة الزيز الذي يشبه نقرًا في الحديد، أعرفُ بأن ذلك قد يبدو صادمًا، إذ أن المتوقع من حشرة كهذه أن تدق شيئًا أقل صلابة، مثل خشب أو ورقة. عندما كنتُ طفلة كنت أطلب من عمي أن يريني إياها، ويضحكُ كثيرًا، كان من الصعب أن يحيط بي هذا الصوت من دون أن أرى مصدره بوضوح، وفي بضعة مرات لاحقة، كان يمسكُ بواحدة ويظلُ يركض خلفي ليخيفني بها. لكن ذلك ليس ما يثير الانتباه حقًا، بل لأنه يختلفُ عن صوت صرصار الليل، الذي يُشعرك بأن الظلام يخيمُ على الأشجار ثم تمدها إليك، أن الليل يتخيل شيئًا ما بهذا الإيقاع، وأن عليك أن تفكر بدورك في حبيب لن يأتي أبدًا، أو حزن لن يشفى حتى تموت، أو وجع في القلب يتورم ويتورم بلا حد. أظن بأن هذا يرتبط معنا جميعًا بالمشي في الغابات أو الشوارع المسورة بالأشجار، أما المدن فالليل فيها يعني عثة الضوء التي تتبخر من أعمدة الإنارة.

وعلى ذكر التورم، تُرى متى كان هذا الشيء غير ساحقٍ كما هو الآن؟ يعود ذلك الى نهاية التسعينيات، في مزرعة جدي مقابل بيته، يزرع بطاطا حلوة، ولا أعرف لم لم تكن  بطاطا عادية؟ لا أعرفُ إن كانت قريتنا الواقعة في سهل الباطنة الشمالية في عُمان غير مناسبة لزراعة البطاطا العادية، أقول عادية لأنها المعيارية بالنسبة لبقية البطاطا أليس كذلك؟ عمومًا كنا نحفرُ الأرض لنستخرج البطاطا الحلوة والمسماة عندنا «الفندال»، لكن جدي لم يكن يضعُ يده معنا، هو يراقبنا فحسب، طالبًا منا  أن نحفر من دون رعونة، لكي لا يُصاب الفندال بالكدمات، وما أتذكره من دون أي فرصة لنسيانه، أن لحم الفندال بعد أن يغلى في ماء على النار، لم يكن برتقاليًا كهذا الذي أشتريه من «الفير[1]»، يمكن القول أن لون لحمه في حقل جدي يميل للاخضرار، رمادي مع احتمال اخضرار بالأحرى، يصعبُ وصف ذلك اللون، أشعر بأنني سأبكي لهذا فحسب، إنه شيء جارح أن لا تسمي ذلك اللون بوضوح. يُقدم مع العسل أو السكر في أوعية صغيرة جانبية كغموس، أما هذه التي أشتريها اليوم لتسليني في الليالي التي أقضيها وحيدة، فلا يمكن أن تضع بجانبها عسلًا أو سكر، إذ أن حلاوتها لاذعة ومشرقة. وأظن بأنني أفضلُ فندال جدي عليها. لم يكن جدي سهل المراس، اذ أنه صرخَ ووبَّخ إن تطلب الأمرُ ذلك أو إن لم يتطلب، وأنا لم أكن مستعدة يومًا لتلقي التوبيخ، لذلك عليَّ أن لا ألفت الانتباه، فإن تباطأت نهرني، وأن أسرعتُ نهرني، عليَّ أن أكون في الوسط تمامًا، ولستُ كذلك أبدًا، الحدية هي هويتي، لكنني عندما أتذكر اليوم نجاحي في اختبار حصاد الفندال ذاك، أعرفُ أن طفولتي تعني قمع هذه الحدية، أن أتوارى بيقظة حادة ستتعبني حتى الثلاثينات، اذ أنني اليوم أدفعُ لقائها شراهةً للامبالاة، وعندما أملّ أو أتوقف عن الالتفات أشعر أنني بصحة كاملة، وأنني أسدد دينًا لتلك الطفلة، التي تحفرُ التربة الرطبة بيدها، ويتجمع الترابُ تحت أظافرها، وعليها أن تنضبط، وتكون عاقلةً من دون خيار لأن لا تفعل. ولكي لا ألتفت، لا أتيقظ، ولا أستعدَ لفعل ما هو صائب، يعني ذلك أن أكون وحدي، وحدي تمامًا، وحدي، وحدي، وحدي، وحدي، وحدي.

وبسبب تلك الوحدة، كان بكائي أقل حدة، لم يكن عويلًا، أو صفقًا للوجه، أو انسدادًا في الأنف، لم يكن نشيجًا، ربما كان أنينًا عذبًا. أتطلعُ من نافذة غرفتي في السكن الجامعي، أقف أمام الستارة، وتغطيني فيصبح جسدي غائبًا عن الغرفة، أحدقُ إلى الشارع المقابل ليلًا، والذي لا يشبهه في النهار. سياراتُ الليل قليلة ومسرعة، وتصدرُ صوتًا استعراضيًا معظم الوقت، أبكي، يتفتت قلبي، أتألم بشدة، لكنني لا أصدرُ صوتًا عاليًا. ثم أحببت!

الوقوع في الغرام يعني أن أساك لن يكون كامنًا، وأن العزاء المفتوح يتضمن لطمًا وأناشيد صاخبة. الحب هو خرقٌ للامبالاة، استئنافٌ لليقظة، استئناف للطفولة. وفي المرات التي أحببتُ فيها، كانت الجروح التي تسبب بها أولئك الرجال عميقة ومالحة كالنار، تبتلع كل شيء، تصدرُ صوتًا وضوءً وهي حارقة، مشبعة. أتذكر حبيبي الأخير، أتذكرُ خيانته، وأعرف جيدًا أنني فقدت شيئًا في ذلك اليوم، اذ تلوى جسدي من البكاء، كأنني أعاني من الزائدة الدودية في طرف منه، ويمسك طرفي الآخر به. وأعرف أن ذلك استهلكني. مع ذلك لا يمكنني تركه ببساطة، أشعرُ بأن لا خطأ في العالم يستحق فيه الإنسان أن يُترك ويُنبذ. وأن الفرصة الثانية والثالثة والمليون حقٌ طبيعي نظير احتمالنا العيش، لذلك أنا ضد الإعدام بالمطلق، كامو في «صخرة سيزيف» يسأل ثم يجيب: لماذا يتم ربط أعين المعدومين لحظة اعدامهم؟ لكي لا يروا الأبدية. والفرصة التالية، انعدام هذه  الفرصة التي تمنحها رغم موت جانب منك، هي الأبدية المفتوحة التي لا تُطاق.

أستيقظ قبله، أراقب شعره المنهمر على الوسادة، تصدر منه رائحة حلوة، مزيج من التبغ مع رائحة جسمه، يداهمني خيال تلك المرأة التي استيقظت بجانبه قبل أيام، ترى هل تذوقت تلك الحلاوة نفسها؟ وعندما كان يقبلها بنهم، هل تذكر شيئًا عني؟ شيئًا مني؟ وعندما خلع عنها فستانها، هل طلب منها ذلك ثم ساعدها، أم أنها فعلت ذلك بإيقاع امرأة مصممة، تعرفُ كيف لا تخرق إيقاع تلك اللحظة، بأن تحاول أن تفك الأزرار لوحدها، ولا تستطيع فعل ذلك، يصيبها الحرج فهو ينتظر، الإيقاع يتغير، هو ينتظر قبل أن يتقدم لمساعدتها، فتصبح خارج تلك اللحظة، في العالم الذي تفشل فيه، تفشل فحسب. ربما لهذا أستحقُ الهجر، لهذا وحده لن أحُبَ أبدًا. يُصدر صوتًا كأنه يُصفر قاطعًا أفكاري تلك ثم ينقلب لأقابل ظهره، فسيح ولأصابع امرأة أخرى، إمرأةٌ كاملة.

سمعتُ من أختي بأن جدي حزين لأنني توقفتُ عن التواصل معه. كان قد طلب مني طلبًا واحدًا، أن أتصل به قبل أن أسافر لأي مكان. لا أعرف لم يهمه ذلك. هذا ما فعلته لتنقطع عادتي تلك قبل ثلاث سنوات، لعله يشك في أنني لم أعد أحبه، قال لآخرين في العائلة، ربما وصلها عني كلامٌ سيء في حقها، يزدرد ريقه لكي لا يبكي. وأنا أقرر أن أخبره في المرة القادمة، لكن هذه المرة لم تأتي بعد، وكلما طال الوقت وفاتني أن أفعل أشعر بخجل مذنب لا يمكنني العودة عنه. سافرتُ لبيروت والقاهرة، برلين وميونخ، فيينا والرياض وجدة، أمستردام والمنامة، زيورخ والكويت، الدوحة والدمام وبراغ والإسكندرية، سافرتُ الخرطوم وعدتُ منها قبل أن تندلع الثورة بيوم واحد. أريدُ أن أذهب للشبونة، وأن تتوقف هذه العاطفة المشبوبة عن الصياح، ملقية بي في فم القرش، أريد ألا أصاب بالكدمات، مثل بطاطا حلوة، تحفرُ ثلاثين سنتيمترًا في الأرض، لكي تفوز بها، عارفًا بأنها هناك، فوزٌ من دون خسارة، احتمال وحيدٌ فالطريق غير مسدود، آخر النفق تلك البطاطا. أحفر ببطء، أحفر عميقًا، أحفر أميالًا في البقعة نفسها، ولا أفوز أبدًا.

[1] سوبر ماركت شهير يتبضع منه الأجانب عادة، ويقدم أصنافًا مستودة أكثر من المحلية.

أمل السعيدي، كاتبة وصحفية، نشرت كتابًا بعنوان «مدخل جانبي للبيت» في العام 2021 كتبته بمنحة من صندوق آفاق للثقافة العربية. تقدم وتعد برامج ثقافية في إذاعة وتلفزيون سلطنة عمان، وتعمل محررة وصحافية في مجلة «الفراتس».

أمل السعيديبطاطا حلوة في القلب

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member