تكتب كارولين كامل عن فرحتها باستكشاف أسواق الأشياء المستعملة النابضة بالحياة في القاهرة، حيث ساعدها لقاؤها بباربي على إنهاء وإرضاء شوق الطفولة الدائم.
كارولين كامل
في كل مرة أصطحب ابن شقيقي البالغ من العمر سبعة أعوام لنشتري لعبة جديدة، أجدني رغمًا عني أحاول أن أُملي عليه ما يختاره، موضحة له بلغة رصينة أني أجيد اختيار ما يناسبه، لا أتركه يستعرض اللُعَب في سلام، لا أقبل برفضه، بل أعدد له مزايا اللعبة التي اخترتها من أجله، ولكنه يظل مصرًا على موقفه، ويوضح ميله إلى واحدة أو اثنتين ومع ذلك يستمر في البحث، مقاومًا تدخلي ببسالة وذكاء حتى لا يُثير عداوتي، ففي النهاية أنا الممولة. لكنه في المرة الأخيرة تأفف وقال لي: «كارو… لو اللعبة دي عجباكي اشتريها إنتي والعبي بيها».
دغدغدت كلماته العفوية قلبي وأضحكتني، ولفتت انتباهي إلى سوء تصرفي ومصادرتي لحريته، اعتذرت له، تركته يتجول بمفرده باحثًا عما يعجبه، وانتظرته بجوار المدخل حيث يجلس الموظف وسأدفع أنا. تضايقت من سلوكي، وأعطيت ضميري فقرة من التأنيب المستحق، ثم وجدت الطفلة داخلي تُحيي ذكريات اللعب التي لم أحصل عليها يومًا، تلك الفترة حين لم نكن نملك المال الكافي لنشتري ما نرغب فيه، فقط نرضى بما هو متاح، الأكثر إثارة للحزن أن كثير مما لعبنا به كان ما تخلى عنه بعض الأقارب، وآل إليَّ وإلى أشقائي نلعب به بعد أن زهدوا هم فيه.
سوق السبت
هناك عادة أمارسها داخل مصر وخارجها؛ زيارة أسواق الأشياء المستعملة، في مصر يُعد هذا روتيني الأسبوعي كل يوم سبت، أذهب إلى سوق سينما ديانا بمنطقة وسط البلد في القاهرة، وهو واحد من أقدم أسواق الأشياء المستعملة، حيث يجتمع عشرات الباعة في الشوارع المتاخمة لشارع عماد الدين الشهير، يتراص على الأرض والمناضد ما لا يحصى من المعروضات، ويجوز أن ينطبق على المشهد التعبير المصري «من الإبرة للصاروخ».
حقائب سفر لا تزال تحمل ملصقات المطارات التي مرت بها، أدوات مائدة طالها الصدأ وتقشر طلاؤها ولكن هناك زبون جاهز ليشتريها، أكوام من النظارات الطبية والشمسية، كانت في يوم ما ذات بريق وفقدته الآن، وربما بمجهود بسيط تستعيد القليل من بهائها، ساعات من جميع الماركات، ولكن لا يصدر عن أي منها تكات دوران عقاربها، فازات من مختلف الخامات؛ فخار وصيني وزجاج، قطع ديكورات تحكي تاريخ فترة الانفتاح حيث عشق المصريون تغطية جدران بيوتهم بالتابلوهات والسجاجيد اليدوية والمجسمات التي تجسد أساطير صينية ويابانية، أكوام من حطام يمكن تسميتها باللأشياء كانت في يوم ما أواني مطبخ وأدوات مكتبية، وغيرها من المعروضات التي لا يمكن حبسها في كلمات.
لم أكن يومًا من هواة صيد السمك، لأنها ممارسة تطلب مهارة أساسية لا أتمتع بها طوال الوقت وهي الصبر، ولكن مع نزولي المنتظم لسوق السبت، تعلمت فضيلة عدم التوقع، ألا أذهب برغبة مسبقة في الحصول على شئ محدد، فيما عدا نيتي أن أشتري أكبر عدد ممكن من المطبوعات الورقية القديمة والخطابات وغيرها من المواد التي قد تصلح كأرشيف مكتوب، لذلك في كل مرة كنت أعود فيها إلى المنزل بغنيمة ورقية أمتدح صبري ودقتي في التفتيش بين المعروضات.
من بين ما حصلت عليه عشرات الصور الفوتوغرافية التي أثارت في نفسي شجونًا عند رؤية ما آل إليه الأرشيف الشخصي لأسرة ما، أعراس وأعياد ميلاد ومصايف وتجمعات أسرية وغيرها كلها ملقاة على الأرصفة تتناقلها الأيدي، ويُفاصل في سعر شرائها المهتمون، بل وتنتهي تلك الصور التي تجمع أفراد أسرة واحدة موزعة على العشرات من دون أن يعلم أي منهم هويات أبطالها.
اعتراني قلق أن تنتهي مقتنياتي في أحد الأيام ملقاة على ملاءة يفحصها الغرباء مثلما أفعل أنا أيضًا في مقتنيات الغير، أخبرت شقيقتي وشقيقي بأن يربوا أبنائهم على أن يعوا أهمية الأرشيف العائلي، وأن يهتموا بالحفاظ عليه، لأنه جزء أصيل من التاريخ والهوية التي يملكونها، وتاريخ العائلة لا يصح أن ينتهي ممزقًا وموزعًا كغنيمة حرب.
باربي تنتظر!
كانت طفولتي في التسعينيات، حيث تربعت «باربي» العروسة الممشوقة رفيعة القوام ذات الأهداب الطويلة
والشعر الأشقر المنسدل بكل فساتينها ومقتنياتها على عرش اللعب، وتُوجت في خيالي العروسة الأجمل على الإطلاق، ولم يمكن لأي لعبة أخرى أن تنافسها، وبالطبع لم تنجُ باربي العالمية من محاولات تقليدها محليًا، إلا أن جميع النسخ المقلدة كانت عبثية، ونتج عن كل منها عروسة تبدو من مسافة بعيدة شبيهة لباربي، ولكن التدقيق في تفاصيلها يفضح عوارها.
لم أحصل على باربي، ولم تحل ضيفة على مائدة الشاي حيث أجلست الضفدع بجوار السيارة الكاديلاك وبعض عساكر الشطرنج وعدد من حيوانات المزرعة، لم أكن أملك عرائس صغيرة، بل شذرات لعب من كل عالم.
عدم الحصول عليها كان أمرًا مناسبًا من وجهة نظري، لأني وجدت عالمي غريبًا، لم تكن لترتاح بجوار الجالسين إلى طاولة الشاي، فربما يغازلها عسكري طائش، أو يقفز الضفدع على ركبتيها طمعًا في قبلة تُعيده أميرًا، هكذا كنت أهرب بخيالي الخصب إلى عوالم لم يطأها أحد، وأعوض فقر صندوق لعبي.
في كل مرة أزور سوق السبت أعود بمزيج من الخبرات والمشاعر التي تستحضرها الأشياء القديمة، ويعزز من تلك المشاعر ما أشتريه بالفعل. في أحد المرات وقفت عاجزة عن اتخاذ قرار الشراء من عدمه، عندما رأيت عددًا من عرائس باربي بهيئات مختلفة متراصة على منضدة بإهمال، ويبدو عليها الإرهاق من كثرة اللعب بها، وجودها بين الكراكيب والأشياء المهملة يُضفي لمحة من أسى على محياها، لم تكن ملامحها مشرقة كعهدي بها في مخيلتي، حيث اعتدت رؤيتها تنتصب بشموخ داخل علبتها الكرتونية محاطة بزينتها ومقتنياتها.
في سوق السبت كانت باربي شيئًا مثل أي شيء، مجرد لعب تخلى عنها أصحابها، وألقوا بها في القمامة، أو أيًا كانت الطريقة التي حصل بها الباعة على تلك العرائس، فالمحصلة النهائية أنها متروكة ومُهملة، يمكن ببساطة تتبع شريط حياتها: عروسة مغلفة كهدية، كان وصولها حدثًا جللًا، استقبلتها طفلة بحفاوة، عاشت مدللة فترة طويلة، ولكن بعد سنوات كبرت الطفلة وفقدت شغفها بالعرائس، تخلصت منها أو فقدتها، وأخيرًا صارت العروسة مجرد بضاعة مستهلكة في سوق الأشياء المستعملة.
عادت الطفلة الصغيرة بداخلي تحدثني عن حلم الحصول على تلك العروسة التي لم يكن لها مثيل ولم تبارح أحلامي، ولكن ما لفت نظري أن في عمري الحالي لم تحفز باربي المتاحة الآن في محلات اللعب مشاعري بالقوة ذاتها التي حفزتها العروسة المهجورة، التي فقدت حذائها وتلبد شعرها وتلطخ وجهها الجميل بعلامات من أقلام الألوان نقشتها طفلة عمدًا، فكرت أنه ربما لأن العروسة المغلفة في متناول يدي الآن، ولكني لم أسعَ إلى الحصول عليها، ولكن تلك المهملة التي سبق وأن شاركت طفلة أخرى طفولتها تُذكرني بأني لن أصير طفلة مرة أخرى، والحصول عليها مجرد ردة فعل لسد فجوة في روحي لا أكثر.
تحركت متبعدة عن الطاولة التي ترقد عليها باربي، وسعيت لتشتيت نفسي بمطالعة معروضات أخرى، وعلى الرغم من الزحام والضجيج، تمكنت من سماع صوت باربي يناديني بأن أحصل عليها وأجد لها منزلًا ربما تقضي فيه فترة تقاعدها، كقطعة ديكور في منزل سيدة في العقد الرابع لا تزال الطفلة داخلها تُحدثها وتعيد على مسامعها أحاديث الطفولة، وتكدرها بتذكر الظروف المريرة التي حالت دون حصولها على اللعب التي حلمت بها.
هربتُ بعيدًا، ولكن يبدو لي أن القدر يعاندني، حيث توقفت أمام كتلة من أعداد مجلات قديمة يعود تاريخ صدورها إلى خمسينيات القرن الماضي، للمصادفة تحوي مواضيع عن الزواج كمشروع قومي ينتظر كل شاب وفتاة كي يستثمر فيه، كانت الصور المرفقة بعشرات المواضيع لنساء في فساتين الزفاف أو يجلسن في منازل مؤثثة حديثًا ويبدو عليهن الاستقرار والرضى، فبدت الكومة كيوم عرس كبير، وعزمت على أن أحصل على أكبر عدد ممكن من تلك المجلات، وكان حظي وافرًا.
في يوم واحد حصلت على تلك المجلات بالإضافة إلى حقيبة من الجلد الطبيعي صناعة يدوية، تدل النقوش على بدنها أنها ليست محلية الصنع بل تنتمي إلى إحدى الدول الافريقية في جنوب القارة، شعرت أني أحمل غنيمة، ولكن على الرغم من ذلك كان صوت باربي لا يزال مسموعًا، وتحت وطأة إلحاح الطفلة التي تسكنني توقفت وأعدت التفكير في أن أعود إلى الطاولة وأشتري عروسة واحدة أعود بها إلى المنزل وأغسلها جيدًا وأجعلها تستلقي بجواري على الفراش كما حلمت دومًا.
في طريقي تنبهت إلى أن كثير من الأحلام وُجدت لتبقى أحلامًا، وقفت في منتصف الشارع وتحدثت مع تلك الطفلة العنيدة – التي تلح داخلي – حديث الكبار وأخبرتها أن القطط في منزلي لن تترك باربي تعيش سنوات تقاعدها لديَّ بسلام، ولذلك من الأفضل لهذه العروسة أن تحصل عليها طفلة أخرى، وأن تبقى ذكراها حية في أحلامي، عوض أن أقوم بجمع أشلائها من بين براثن القطط، وأن يكون مصيرها صفيحة القمامة.
*اقرأ القصة بالترجمة الإنجليزية هنا.