
عن دينا ورفقة اللتان تعيشان في مخيم يعقوب، يكتب أحمد القرملاوي مستعيدًا أحداث وشخصيات من خمسة عشر قرنًا قبل الميلاد، ويصور لنا بطريقة بانورامية ما يحدث في ذلك الوقت والمكان.
أحمد القرملاوي
الفصل الأول
المشهد الأول
(مخيم آل يعقوب)
(مخيم آل يعقوب في صحراء فلسطين، 15 قرنًا قبل الميلاد. يُفتَح الستار عن دينا وقد تربعت على الأرض داخل الخيمة وراحت تعبث بالحصى الملون وترص بعضه فوق بعض. سرعان ما تظهر رِفقة عبر مدخل الخيمة.)
دينا: (تضم يديها في حماسة) أخيرًا أتيتِ!
رفقة: (بغضب) ألا زلتِ تعبثين بالحصوات مثل الأطفال؟
دينا: (باندهاش) وماذا أفعل يا خالة؟ ألست أنتظركِ حتى تتجهزي؟!
رفقة: أقلُّها تُودعين أمكِ كي لا نضيع مزيدًا من الوقت عند الذهاب.
دينا: أمي تحف يديها وساقيها في خيمة النساء، وقد نبهت عليَّ ألا أدخل عليها مهما حدث.
رفقة: إنكِ تجيدين اختلاق الأعذار، مثل أي امرأة كسول.
دينا: (تبقى صامتة وتهز رأسها في يأس) …
رفقة: (بامتعاض) سأُحضِر راحلة السفر أمام مدخل الخيمة حتى نذهب سريعًا قبل أن يراكِ أحد إخوتكِ بهذا الرداء الفاضح.
ملاحظة: هذا المشهد مُلغى، تُعاد كتابته على نحو أكثر تشويقًا – تعديل 14 مايو
صارت افتتاحية المسرحية أشبه بكابوس يمسك بخِناقه كل ليلة، فلا يفلت منه حتى يرتمي على السرير منهك القوى. مضى أسبوعان منذ وصله إيميل التهنئة بحصوله على منحة «إبداعات» لدعم المشروعات الإبداعية، التي يُشتَرط للحصول على كامل قيمتها أن يلتزم بإنجاز مشروعه خلال مدة لا تتجاوز الأشهر الستة، على أن يرفع إلى اللجنة المنظمة تقريرًا شهريًّا يلخص فيه ما أنجزه خلال الشهر المنصرم، وبمعدله الحالي في كتابة المسرحية. لا يستبشر خيرًا بإنجاز المشهدين الأوَّلين كما كان يخطط، فضلًا عن كتابة التقرير الشهري ورفْعه إلى اللجنة المنظمة. ماذا عساه أن يقول في التقرير؟ أيقول شيئًا من قبيل: كتبت عشرات المعالجات الفاشلة للمشهد الافتتاحي، ثم رميت بها جميعًا في سلة مهملات ويندوز 10؛ ذلك لأنني كاتب لا يجيد صناعة التشويق كما يجب، ولا يعرف من الأساس كيف تُكتَب المسرحيات؟!
طوبى لمن امتهن الكتابة فلم يُصَب بالجنون!
رأسه الآن يطن. يخفض قليلًا إضاءة اللابتوب، ثم يرفعها من جديد. يبتلع قرصين إضافيين من بانادول إكسترا مع آخر رشفة من كوب الشاي، دون حاجة حقيقية إلى بانادول إلا العادة الروتينية التي صارت تلازمه كل مساء. سيقوم بعشرين عدة من تمرين الضغط حتى يستعيد التركيز. لا؛ قد يثقل التمرين دماغه أكثر مما هي عليه. إنه بحاجة إلى استعادة سيطرته على الضغوط. هذا هو الشهر الأول في رحلة المنحة، لا يزال أمامه خمسة أشهر أخرى، لم يدخل حسابه البنكي سوى دفعة واحدة من قيمة المنحة، ألف دولار عمياء، لا تسد رمقًا ولا تكفي لبند واحد من بنود مصروفاته العاجلة.
أوف! عليه ألا يشتت تركيزه عن صياغة المشهد الافتتاحي.
عن أي تركيز يتحدث الآن؟!
يلومه حسام –صديقه الروائي- على اختياره التقدم للحصول على المنحة بمشروع نص مسرحي. يقول له: «لماذا لم تتقدم بمشروع نص روائي ما دام شغفك الحقيقي هو كتابة الروايات؟» لحسام مثالياته، التي يحترمها، أما هو فلديه أهداف وحسابات؛ إذ يريد أن يفرش المكتب الجديد الذي استأجره؛ حتى يصير جاهزًا لاستضافة ورشة الكتابة التي يُعوِّل عليها في تأمين دخل ثابت يتعيش منه. بعد حصوله على المنحة، سيكون لديه ما يكفي لشراء الأثاث المكتبي والشاشة والبروجيكتور على أقل تقدير؛ ما لا يستطيع تحويشه في سنتين أو ثلاث، سيتحصل عليه بلعبة ذكاء وضربة حظ، بشرط إجادة صياغة التقارير الستة التي سيرسلها إلى لجنة تحكيم المنحة. حاول إقناع حسام بأن الفرصة في فرع الرواية شبهُ معدومة لكثرة من يكتبون الروايات، أما من يفكرون اليوم في تأليف المسرحيات فقليلون، ما يجعل الفوز بالمنحة مضمونًا في هذا الفرع. «أرجو ذلك.» هكذا أجاب حسام بنبرة من لا يريد الاعتراف بهذا المنهج في التفكير، أما هو فراهن على نجاح خطته، وها قد أثبتت نجاحها الساحق، فكان أول من تلقى إيميل التهنئة والتحويل المالي الأول إلى حسابه الدولاري، الذي أنشأه خصوصًا لاستقبال الدولارات الثقافية، تلك التي ستدخل رأسًا في الأثاث الصيني الصنع، والبروجيكتور الكوري المنشأ.
يا له من مضياع للوقت! ها هو يعود أدراجه للتفكير في تجهيزات المكتب وورشة الكتابة التي أعلن عنها عبر صفحة فيسبوك دون استعداد كافٍ. عليه أن يركز في الكتابة فحسب، إثباتًا للحيثيات التي نال بسببها منحة التفرغ.
ها قد تفرغ، فأين شيطان الكتابة؟ لماذا لا يضبط مواعيده معه؟ أهو في حاجة إلى منحة تفرغ هو الآخر؟! أيا شيطاني الطيب، هلم بنا نكتب المشهد الأول وننتهي منه.

مفتتح ..
الربيع يُصفِّر خارج الخيمة، يوقظ الورود النائمة بين الصخور، يهدهد القربة المعلقة بين فرعين يابسين، يحرك الغطاء عن وعاء الزبد، يلتف حول أوتاد الخيمة ويهيل عليها التراب، ثم ينفخ بأقوى ما لديه ستارة المدخل فيتخلل شعر الفتاة التي جلست تنتظر.
والفتاة تُدعى دينا. وبرغم حماستها في هذا الصباح بالتحديد وجاهزيتها التامة للمغامرة، لم تبدر منها استجابة صريحة لعبث الربيع، بل أخذت تلم خصلات شعرها الأحمر تحت طرحتها المنقوشة الحواف، فيما تسترق النظر عبر مدخل الخيمة أملًا في ظهور الخالة رفقة.
تُرى ما الذي أخَّرها إلى الآن؟! ظلت تكرر على نفسها السؤال مع كل خفقة من الستارة؛ فقد كانت تخشى وقوع مكروه يهدد سفرها المأمول إلى المدينة، بعدما انتظرت سادس أيام العيد بصبر يتناقص مثل ماء القِرَب. وقد تحاشت الظهور خارج الخيمة بردائها اللافت للنظر؛ إذ ربما يراها أحد أشقائها الكبار فيُطبِق الخيمة فوق رأسها ويحبسها عن الذهاب.
ومن باب الاحتياط، أعدت الحجة المناسبة لتبرير ارتدائها هذا الرداء؛ فهذه ثاني سَفرة في حياتها، فمن أين لها أن تعرف أصول السفر ولباسه الملائم؟!
وكانت، في دخيلة نفسها، تعتزم الظهور في أبهى صورة أمام سكان المدينة المباهين بعريهم وبنظافتهم الفائقة، بشرط ألا يراها أحد من قومها بخلاف الخالة رفقة؛ إذ هي رفيقة السفر وصاحبة الفضل في إجبار أمها على الموافقة، فلن تضنَّ عليها بشيء من التكتم كي ما تظهر بالمظهر اللائق.
تشتت فكرها حين اندفعت الخالة عبر مدخل الخيمة كريح تهب، وقالت:
– ألا زلتِ تجلسين في مكانكِ؟ ارتفعت الشمس ولم نبدأ طريقنا بعد!
فبُهِتت دينا من لهجة الخالة رفقة ومزاجها العكر؛ إذ كيف توبخها كأنما هي السبب في التأخير؟! مع ذلك، قالت بهدوء:
– ماذا عساني أن أفعل يا خالة؟ ألا أسلي نفسي حتى تتجهزي للرحيل؟
– أقل ما تستطيعين فعله أن تُودعي أمكِ فلا نضيع مزيدًا من الوقت.
– أمي تحف شعراتها داخل خيمتها، وقد نبهت عليَّ ألا أدخل عليها وإن رأيت ملك الموت.
تربعت رفقة خلف دينا، وأزاحت الطرحة عن شعرها الأحمر رافعة خصلاته المستلقية على السجادة الوبرية، وقالت:
– عند زواجكِ، سأحفكِ في كل موضع بيديَّ هاتين، حتى تصيري كالذبيحة المسلوخة!
– أنتِ تريدين إخافتي يا خالة، غايتكِ ألا أتزوج حتى أظل لصيقة بكِ.
– على العكس يا حبة عيني، أملي أن أراكِ عروسًا شهية مثل الخبز الساخن. غاية ما أريده منكِ ألا تستعجلي الحف والنتف والكشط بالحجر؛ فهي كالسلخ قبل الشواء.
– لا أستعجل شيئًا ولا أرغب في شيء، وإياكِ أن تعيدي نصائحكِ هذه أمام أمي فتُمرِّغ أنفي في التراب!
مالت دينا برأسها مع جذب الخالة رفقة لخصلات شعرها، وأكملت تقول:
– إنه الفضول ما جعلني أسأل عن كيفية الحف، كما تعجبني نعومة جلودكن بعد زوال الشعر.
– الحف شأن المتزوجات، أما الأبكار فلا حاجة لهن بنعومة الجلد حتى يبدأن طريق الوجع. ثم ماذا تظنينه يعود علينا من هذا الهم إلا متعة رجال يابسين كالحجارة، يفركوننا ويمخضون أبداننا كخض الحليب في القِرَب، حتى تكاد أرواحنا تخرج مثل كتل الزبد؟!
وبدأت تربط شعر دينا وهي تقول:
– الرجال الحقيقيون هناك، خلف سور المدينة.
أُخِذت دينا من ذكر المدينة ورجال المدينة، وراحت تنفض أثر التراب عن ردائها كأنما تدفع عن نفسها تهمة ما. قالت وهي تدير وجهها للخالة رفقة:
– وما شأن رجال المدينة يا خالة؟ كيف يختلفون عن رجالنا؟
– لا يختلفون فقط، بل لا يوجد وجه للمقارنة من الأساس.
لزمت دينا الصمت خشية أن يظهر عليها الفضول، وراحت تتابع الخالة فيما تلمُّ ذيل جلبابها وتنهض برشاقة لا ينم عنها جسمها البدين، وتقول:
– لا تقولي إنكِ تنوين السفر بهذا الرداء الاحتفالي!
وحين لم تنبس دينا بكلمة، أكملت رفقة تقول:
– قسمًا بالرب أنكِ جُنِنتِ يا فتاة! سأُحضِر الحمار أمام مدخل الخيمة، ولتركبي خفية قبل أن ينفضح أمركِ!
قامت دينا واحتضنت الخالة وهي تقول:
– أنتِ أحب الناس إليَّ.
غير أن رفقة صدتها برفق وقالت:
– هيا هيا، لا تضيعي مزيدًا من الوقت، فلنكمل كلامنا في الطريق.
وبعد ..
من يرَهما تمضيان فوق ظهر الحمار خلف قطيع الغنم يحسبهما بدوية وابنتها؛ فالطول واحد، والوجهان مختبئان خلف طرحتين سادلتين، والملابس لا تختلف كثيرًا؛ فقد كانت لرفقة مكانة خاصة بين نساء يعقوب، لم تُعامَل يومًا كأمة مملوكة، فلم يأمرها أحد أن تكشف رأسها أو تبرز نحرها ولا أن تلبس ثوبًا بلا أكمام، بل كان يُنظَر إليها كإحدى زوجات يعقوب، خاصة حين أنجبت الولدين.
وقد اعتادت دينا على مناداتها بالخالة رفقة، وعلى استشارتها في أدق شؤونها وأكثرها إثارة للحياء. وفي المقابل، كانت رفقة تخصها برعاية لم تُولِها أحدًا غيرها، وتصر على اصطحابها أينما تذهب، مهما تضايقت أمها أو غضب أبوها. بجهامة، كانت تقول لهما: «منحتكما كبشين مليحين، ولم أسألكم إلا المعزاة.» وتضم إليها دينا فلا تتركها لأحد. وكانت أعلم الناس بقيمة الفتاة؛ فلا هي معزاة ولا نعجة عجفاء كما يدَّعون، بل هي غزال نادر المثال في هذه البادية؛ ففضلًا عن كونها ابنة يعقوب الوحيدة، كانت ذات فتنة تخطف الخاطر؛ في عسل عينيها سحر، وفي اكتناز شفتيها جمر مكمور.
وقد صممت رفقة على اصطحابها إلى مدينة شكيم نهار السادس من أيام عيد الأكيتو، بعدما استمرت تقص عليها كل مساء ما تراه هناك من طقوس عجيبة. وكانت رفقة تذهب كل صباح في أيام العيد، فيومًا تسوق الشياه لتبيعها في سوق المدينة حيث يكثر الطلب عليها من الأغنياء الكثيري الذنوب والراغبين في تقديم الأضحيات، ويومًا تقود عربة محملة بالسلال المزروعة قمحًا وخسًّا وزهورًا حتى تبيعها للبسطاء المحتفلين. وحالما تعود قبل حلول الليل، تغتسل من عفر الطريق ومن كثرة ما حلفت كذبًا لتقنع الزبائن بالشراء، ثم تجلس لتحشو أذن دينا بما رأته من أعاجيب المدينة.
ترجتها دينا أن تأخذها لتعاين بنفسها أحوال المدينة، فعارضت ليلة –أم دينا وكبرى زوجات يعقوب- فكرة ذهاب ابنتها الوحيدة إلى مدينة شكيم؛ فالمدينة بيت الدنس والشرور ومعبد الآلهة القديمة والأصنام العارية. «ما لنا نحن والمدينة؟!» هكذا سألت ليلة بامتعاض، فقالت رفقة: «نبيع بضاعتنا ونشتري الحرير، ألا تحبين الحرير؟» وابتاعت لها في اليوم التالي طرحة هفهافة، وقالت إنها ستصحب دينا لتشتري الحرير والديباج. «غدًا تصير عروسًا لسيد قبيلة أو مالك سفينة، وعلينا أن نعد العدة من الآن.» ولم تستمسك ليلة برأيها طويلًا، فسرعان ما كانت تنخ أمام عناد جاريتها وصلابة دماغها؛ لذلك تصنعت عدم الانتباه حين أعلنت رفقة اعتزامها اصطحاب دينا للرحلة التالية، وأغلقت على نفسها الخيمة بحجة حف شعرها غير الموجود من الأساس؛ حتى تتجنب هزيمتها المعتادة أمام رفقة.
واستمرت رفقة تتقدم الركب حتى بلغت به سور المدينة. ولدهشة دينا، لم تعبر رفقة من باب الزوار الذي عبرت منه مع إخوتها لما جاؤوا إلى المدينة برفقة أبيهم يعقوب، بل وجدت الخالة تمضي قُدمًا بمحاذاة السور، فقالت:
– ألن ندخل يا خالة؟
– سندخل من باب التجار.
بعد قليل، ظهرت بوابة عريضة يحيط بها رجال المحتسب من الجهتين، فأوقفت رفقة الحمار، وهبطت قفزًا، وأخذت تهش بعصاها القطيع حتى يتضامَّ بمحاذاة السور، وقالت لدينا:
– راقبي الغنمات ولا تبرحي مكانكِ، سأعود سريعًا.
تأملت دينا ارتفاع السور وضخامته؛ إنه أضخم شيء رأته في حياتها، حتى الجبال لم ترَها من مسافة قريبة كهذه فتشعر بشهوقها. إن خيمة الضيافة -أكبر خيمات القبيلة- لو نُصِبت هنا بجوار السور لبدت مثل شاة وليدة تتعلق بساق بعير. خشيت دينا أن تتأخر الخالة رفقة فتضيع الغنمات في الفراغ المحيط بالسور، لكن سرعان ما لمحتها تُقبِل بوجه مربد وتبرطم بالسباب.
– ما خطبكِ يا خالة؟!
– قولي ما خطبهم هم أولئك السفلة أوغاد عشتار .. يطلبون قربانًا للآلهة! أي آلهة؟! يسلبون مني الشاة ويمسحون دناءتهم في ثوب القداسة!
امتطت رفقة الحمار، وأكملت تقول:
– لو كان معي سم لسممت الشاة قبل تسليمها لهم!
وبصقت بصقة غليظة وهي تنخس بطن الحمار، فأخذ يخب وراء الغنمات عابرًا بوابة شكيم.
ثم ..
في عيني دينا المعتادتين على الصفرة الشاسعة، بدت السوق كأبدع مشهد رأته في حياتها، حتى الحوانيت الصغيرة المصفوفة خلف سور المدينة خطفت لبها بما حوَته من أقفاص مرصوصة ببراعة تحت مظلات من القماش، وبما ارتصَّ فوقها من تماثيل وأمشاط عاجية وخشبية وقرون حيوانات وأقمشة. قالت لرفقة من مكانها فوق ظهر الحمار:
– توقفي يا خالة، لنرَ هذه الأصواف الملونة!
– علينا أن ننهي عملنا أولًا قبل التسوق، ثم إن أخاكِ يصنع أصوافًا أفضل منها بكثير.
– أخي روبين؟! هل يصنع أصوافًا كهذه؟
– هذه وأكثر، لديه ألوان لن تجديها في حوانيت وضيعة مثل هذه.
كاد الحمار يحرن عن المسير حين مرقت أمامه عربة كبيرة مسرعة، لكن سرعان ما حثته رفقة على مواصلة السير والتوغل بالقطيع في الشوارع العاجَّة بالصياح والمساومات. أوقفته على مشارف ساحة كبيرة يتوسطها حوض للسقاية، وراحت تملأ سطلًا من ماء الحوض وتبل فيه عيدان الشعير، فالتمَّت من حولها الغنمات.
قالت دينا:
– هل نبقى هنا يا خالة؟
– نعم، هنا سوق القرابين حيث تُباع الشياه.
واستمرت رفقة تجهز المكان، فعادت دينا ترنو إلى الحوانيت وتقول:
– ألن ننصب مظلة مثل بقية التجار؟
– لم نأتِ هنا لنستظل، علينا أن ننتبه جيدًا إلى الشياه حتى لا تشرد هنا وهناك.
كانت الشمس قد بدأت تسطع والزحام يتزايد على الجهة المقابلة من الساحة، فثار فضول دينا، وتساءلت قائلة:
– حول أي شيء يتزاحم الناس؟
مصمصت رفقة شفتيها وقالت:
– إنها سوق العبيد. بئس السوق تلك حيث يُعرَض الناس عرايا مثل البهائم.
وبصقت عن شمالها علامة على السخط والقرف. وحين لاحظت ذهول دينا، هتفت تقول:
– أنزلي عينيكِ يا فتاة، لم تهتمين بأولئك العاهرات؟!
غير أن دينا ظلت تتأمل الأجساد العارية اللماعة تحت الشمس؛ فتيات في لون الزهور والحليب الصابح، ورجال لهم ألوان الخبز والتمر المجفف. تساءلت في نفسها إن كانت الفتيات محفوفات؛ فالجواري لا هن متزوجات ولا عذراوات، بل بين هذا وذاك، فماذا يمنعهن من حف شعرهن حتى يصرن أشهى في أعين الرجال؟ ولماذا تصمهن الخالة بالعهر لتحُطَّ من شأنهن؟ أليست هي نفسها أمة بيعت ذات يوم في سوق للعبيد؟!
وبطبيعة الحال، لم تفصح للخالة بهذا السؤال؛ فقد أخبرها حدسها أن سؤالًا كهذا قد يُغضِب الخالة بشدة. لكنها أرادت أن تستجلي الأمر بنفسها، فأخذت تتابع الخالة رفقة فيما تفاوض الزبائن بلغة مبهمة، حتى ارتأت لحظة مواتية لعبور الساحة على غفلة من الخالة ومن عينيها اليقظتين، فتسحبت بهدوء وخفة في اتجاه سوق العبيد.
دارت حول الحوض الذي يتوسط الساحة، ثم جلست بين حمَلين يستقِيان، فابتل رداؤها من أثر المياه فوق حافة الحوض. قامت منزعجة، وراحت تسدل طرحتها فوق البقعة المبتلة، ونظرت نحو الخالة فوجدتها لا تزال تساوم الزبائن وهي تبحث عنها بعينيها. وإذا بأحد الرعاة الفتيان يقترب من مكانها ويحدثها بلغة أهل السهول:
– هل بعتِ نعجاتكِ يا فتاة؟
فغادرته دينا دون أن تجيب، وخطت مسرعة صوب منصة العبيد.
وجدت حانوتًا قريبًا من مظلة الجواري يعرض ألوانًا من المكاحل والشعر المستعار، فوقفت أمامه تتظاهر بالفرجة وتتفحص البواريك. التقطت باروكة حمراء ذات ضفائر مزينة بالزهور، وضمت كفيها على هيئة رأس متوهم، وأخذت تُدوِّر يديها وتُطيِّر الضفائر في حركة راقصة، فانتبهت الجواري القريبات، وتفاعلت إحداهن معها، وبدأت تُرقِّص نصفها الأعلى كأنما لتحُثَّ دينا على المواصلة، غير أن بائع الشعر المستعار نهرها حتى تكف، فأحست بالخجل يتوهج خلف وجنتيها، ومضت بعيدًا عنه في اتجاه منصة العبيد.
صارت على مسافة خطوات من المنصة، فوقفت تنتظر حتى يخف الزحام؛ إذ لم تكن معتادة مثل هذا التلاصق غير المحتمل مع الغرباء. وفيما هي منتظرة، راحت تخطف النظرات من أجساد الجواري العارية إلا من شيلان خفيفة، حتى هتفت بها الجارية، التي جارتها في الرقص، بعبارة مبهمة، فظنت دينا أنها تسأل عن اسمها، فصاحت تقول:
– دينا، اسمي دينا.
غير أن الجارية أعادت العبارة مشيرة إلى الطريق الصاعدة من خلفها، فقالت دينا:
– أنا من البادية، قدمت صباح اليوم وأعود في المساء.
فارتسم اليأس على وجه الجارية وهي تتابع دينا فيما تمرق من بين الأجساد المحيطة بمنصة العبيد.
فُوجِئت دينا بتشتُّت رواد السوق على نحو مباغت، ورأتهم يركضون نحو حوض السقاية ويتعثرون في الأقفاص المتراصة أمام الدكاكين ويتحشَّرون تحت المظلات. سرعان ما أدركت حتمية الهرب؛ إذ انتبهت إلى هدير عجلات تدنو بسرعة مخيفة، ولمحت نفرًا من الرجال والأطفال يستبقون إليها فيما تلحق بهم عربة ضخمة تجرها الجياد، فلم تجد بدًّا من الركض في الاتجاه المعاكس.
سيطر الهياج على الساحة والشوارع المحيطة؛ فالعربات الضخمة تندفع في الطرقات بلا سائق يقودها، وتدهس الناس دون تفريق بين كبير أو صغير، صحيح أو مريض؛ فالكل مُستلَب بنشوة جنون مقدسة.
راحت دينا تتخبط بين طرقات تتقيأ البشر كأنهم طعام مسموم. تشبثت بجدار حجري وأخذت تزحف كما سحلية مذعورة. وعند ناصية زقاق ضيق، مدت بصرها تسترق النظر. بدا الوضع أهدأ في الزقاق منه في الشوارع الكبيرة؛ فالعربات العملاقة وخيولها المهتاجة لا تمخر الأزقة الضيقة حيث لن تظفر بصيد أكبر من جرذ هارب. مضت دينا تهرول عبر الزقاق وتقطع الحارات الفرعية، تتمهل أمام الأبواب المغلقة؛ إذ ربما يفتح أحد السكان فيمنحها الملجأ أو التفسير. لكن الأبواب ظلت تنفتح وتنغلق سريعًا كأنها أجفان ترمش، فيندفع من داخلها شخص أو اثنان وينطلقان عدوًا نحو الشوارع الكبيرة.
لماذا يركضون في اتجاه الخطر؟ هل ثمة حريق يسعون إلى إطفائه؟! تساءلت دينا فيما تبحث عن بقعة آمنة. وكانت قد شارفت آخر الزقاق دون العثور على ركن تأوي إليه ولا باب تلتمس وراءه الطمأنينة. كادت تهوي من شدة ارتجاف ساقيها، فوقفت وأراحت رأسها فوق نتوء حجري أملس بدا مثل وسادة وضعها الرب كعلامة على وجوده بجانبها. لكن سرعان ما تنبهت إلى صوت سنابك خيل حسبته لعربة مجنونة أخرى، واستدارت تنشد الهرب، فتعلقت طرحتها بزاوية الجدار. ركضت قفزًا حاسرة الرأس كغزالة هاربة. وإثر قفزة غير محسوبة، داست على طرف ردائها فهوت على وجهها وتمزَّق طوق الرداء كاشفًا عن صدرها اللمَّاع بالعرق.
هدأ إيقاع الخيل قليلًا بقليل، ثم هبطت قدمان ثقيلتان بجانب دينا. أحست بيد تجذبها وأخرى تزيح خصلات الشعر عن جانب وجهها. لـمحت عبر غمامة الدموع وجهًا جهْمًا يحدجها بنظرة مخترقة، وتناهت إليها عبارات مبهمة. حاولت أن ترفع رأسها لتنطق بكلمة، أن تطلب طرحتها وتطالب سيد القوم بقطع اليد التي امتدت إلى شعرها؛ إنها ابنة يعقوب المبارك، سيد قومه وصديق الملك، جاريتها في سوق القرابين، فلتأتوا بها لو كنتم لا تصدقون، أو ليُؤتَ بترجمان يعرف الألسن ويدرأ الجهالة. كل هذه العبارات دارت داخل رأسها فقط؛ إذ سرعان ما شعرت بالدوار، وأحست بجسدها يُحمَل كخرقة بالية ثم يُلقى بإهمال فوق ظهر الحصان.
