قصص لغزلان تواتي: توقيت غير مناسب لشراء السمك

21 April, 2025
جمال طاطاح، “نساء الجزائر”، لوحة ثلاثية، زيت وشمع على قماش وخشب، 1996 (بإذن من متحف فابر).
في مجموعتها القصصية «توقيت غير مناسب لشراء السمك»، تكتب غزلان تواتي عن المرأة الجزائرية المعاصرة، وضعها في المجتمع والأسرة، وعلاقاتها مع أولادها وأحفادها، في سرد يميل نحو التجريب أحيانًا، ونحو السرد القصصي التقليدي في أحيان أخرى. ننشر هنا ثلاث قصص من المجموعة الصادرة العام 2024.

 

غزلان تواتي

 

سؤال

جدَّتي، ذات الوشم بين العينين. رسمٌ لعودٍ أخضرَ لا معنى له. الغالب أن العامرية «الغجرية» التي وضعته على جبينها لم تكن تعلم معنى ذلك الرمز، أو ربَّما لم يكن رمزًا لأي شيء. فعلت ذلك لتجني بعض الفرنكات من جدتي التي لا أستطيع أن أتبيَّن إن كانت بخيلةً أو كريمةً، ولكنني أفترض أنَّها كانت كريمةً على عادة أهل الريف الذين يذبحون أجمل وأضخم ديكٍ إن حلَّ عليهم ضيف فجأة.

لا أحاول الآن فهم ذلك الوشم، ولا أظن المادة التي دفنت في جلد الجدة كانت سامَّةً أو خطيرةً وإلَّا كانت ماتت أو تعفَّن ما تحت جلدها. لم يتسبَّب العود المتصلِّب بين حاجبيها في حول عينيها، رغم أنَّني كلَّما حاولت التركيز فيه أحسستُ بألمٍ شديدٍ في عَيْنَيَّ لفرط تحريك البؤبؤ إلى الوسط بشكلٍ يُعاكس ما اعتادت عليه عضلات العين، علمت فيما بعد أنه تمرين طبيٌّ يساعد على تقوية عضلات العين وليونة حركتها.

نظرتها حادة رغم سنواتها الثمانين التي لم تؤثر في أي عضوٍ من جسدها بأي مرض. لا أمراض مُزمنة في عائلتها، وزوجها تُوفِّي قبل أعوامٍ دون أن يشتكي من أي داء، ولم ينم يومًا واحدًا مريضًا ولم يعرف ذلك الذل الذي يورثنا إياه العجز البدني. مهما كنا أقوياء ومحبوبين، نصبح منفِّرين ومذمومين من طرف من نثقل عليهم بآهاتنا المتواصلة، أو في أحسن الأحوال، مثار شفقةٍ لا متعة في النظر إلينا. مات من الزمانةِ موتةً مَرضِيةً كما يصفها أبناؤه.

الحياة المدنية، التي انتقلت إليها جدتي، بعد إلحاحٍ كبيرٍ من أمي، لم تفقدها عاداتها الريفية، كما لم تغير أي شيءٍ من طباعها اليومية؛ تصرخ وهي تتحدّث، وعلى الأرجح لا تستعمل ورق التواليت لأنَّها تعتبر ذلك جريمة بحق الله، لا تجلس إلى مائدةٍ على كرسيٍّ مناسبٍ لأنَّ الأكل بتلك الطريقة قد يتعب معدتها، قد يكون إشارة من الشيطان، أو هكذا تعتقد، تعيش حياتها الأولى داخل الثانية من دون حرج، تستفيق مبكرًا رغم أنه لا شأن لها في البكرة، لا تصلي الفجر ولا الصبح لأنّها اعتادت فعل ذلك جملة، كل أوقاتها موصولة في حلقة صلاةٍ واحدةٍ طويلةٍ ممتدة حفاظًا على الماء رغم وفرته.

مجموعة «توقيت غير مناسب لشراء السمك» من إصدارات هن للنشر والتوزيع.

تغادر جدتي فراشها، صباحًا، باصقةً على جانبها الأيسر، مُتعوِّذةً من الشياطين بعدما تكون قد رأت حلمًا تعتبره ليس من سنِّها. تمنَّيت لو أعرف ما الذي تراه في حُلمها لتلعن الشيطان بتلك الطريقة، هل تقيم علاقةً مع شاب؟ هل تقتل زوجها؟ هل تخرج مجردةً تمامًا من ثيابها؟ هل تسرق؟ لم أتجرأ يومًا على السؤال. المرأة تنسى وتخجل من إحساسها عندما تصبح متقدمةً جدًا في السن، وربما لهذا السبب ترفض جدّتي أن يتدخل الشيطان في مناماتها، قد تُفضل أن ترى نفسها في مكة أو مع سيدي سليمان، وليُّها المحبب الذي تقدِّسه وتسلم له. هكذا فسَّرتُ الأمر وأرجأت فكرة طرح السؤال عليها.

ليلة الميلاد

استقدم والدي القابلة لمرافقة أمي. كانت امرأة قصيرة، حنطية يميل لونها إلى السمرة، خدَّاها عظيمان، عيناها ضيِّقتان غائرتان، أنفها أفطس مبالغ في الفطس، تضحك كثيرًا كاشفة عن آخر سن بقي في فمها. تتكلم بصوت مرتفع، شعرها أسود فحمي تساقط معظمه، بينما يقع ثدياها على بطنها الممتلئ، تقسمه إلى نصفين بشريط أسود عريض لا تخلعه ولا تستبدله، وجهها يلمع بلا غضون. لا تستطيع تحديد عمرها، كأنَّما جزء من جسدها شاخ والآخر بقي شابًا. لم يسبق أن مات طفل على يديها؛ جعلها هذا منافسة للمستشفى والأطباء. كانت بعض نساء الدوار يفضلنها على الذهاب إلى القابلات المتعلمات، «الخبرة تسبق العلم، هكذا يقلن، لكل مشكلة مهما كانت حلٌّ سريعٌ وضحكة لا يُستَغْنَى عنها، لكنَّني كنتُ عسيرة الولادات»، تختم أمي دومًا مقدمتها هاته…

حمل أبي عدَّتها، الشمع والخيط، وربَّما مقصًا لم تعقمه منذ آخر استعمال، أو رُبَّما استعملته لغرض آخر كقطع الخيط لفتح كيس دقيق من الخيش أو قص خرق تستعملها في النسيج وربَّما جز صوف خرافها. من يهتم للتعقيم! وعلى الأرجح لم يكن مقصًّا، بل موس حلاقة من النوع القديم يُركب ويخلع من أداة الحلاقة.

في سيارة جارنا البيجو 404، ركب أبي إلى جانبه، ووضعا المرأتين خلفهما في العربة المغطاة. أمي مستلقية على ظهرها، تحت رأسها وسادة يابسة كأنَّها جلد جيفة مُلِئَت ترابًا، تفترش لحافًا ورديًا مزروعًا زهرات سوداء، كان فستانًا فضفاضًا تلبسه صيفًا قبل أن يتحوَّل إلى لحاف، ضمَّت إليه قِطَعًا أخرى من سراويل وفساتين لم تعد ممكنة اللبس، وعليها رداء ذو مربعات خضراء وبيضاء، كان بشكير أمها المُتوفَاة منذ سنوات؛ أمَّا القابلة فجالسة -رغم وزنها- مقابلة أرجل أمي، على علبة حليب حديدية مغطاة بخرقة من الكتان الخشن حتى لا تبرد أردافها.

اتجهت السيارة غربًا نحو مستشفى المدينة الأقرب إلى الدوار وهي تبعد بمئة كيلومتر. الطريق طينية مليئة بالحفر، تصعد جبلًا. كان الجار يسوق كأنَّه يدفع السيارة بجسده إلى الأعلى، يزفر مثل من يحمل قنطار دقيق على ظهره. يتعاظم غيظه كلَّما تعالى أنين أمي، فيطلق الشتائم بصوت مرتفع، لكنَّه من باب الأدب يخاطبها بصيغة الجمع، «ألا يمكن أن تَلدوا نهارًا؟»، ثم وبصيغة المفرد إلى أبي: «لا أرى جيدًا ليلًا والطريق صعب، لماذا لا تلد زوجتك نهارًا؟»، يتمتم أبي: «لكنه أمر الله». أمر الله ههه، يهز الجار رأسه.

«لو انحرفنا عن الطريق، سوف لن يكون أمر الله، بل ستكون أنت وزوجتك السبب». أضاف: «هذه الطريق متعرجة محفرة يصعب المرور منها نهارًا، أمَّا الآن والثلج يهطل لا يمكنني رؤية شيء، ولا أن أسرع، قل لها تصمت!».

وبعد ساعة ونصف، وسط الأحراش، الغابة المظلمة المثلجة، خرجتُ إلى الدنيا، وضعتني أمي قبل الوصول إلى المستشفى. قامت القابلة بربط الخيط جيدًا حول سرَّتي وقطعت على مسافة منها.

تروي أمي هذه الحكاية كل مرة بتفاصيل جديدة تتذكرها أو تخترعها؛ فمرة كانت تلبس عباءة سوداء، ومرة حمراء وفي أخرى زرقاء نيلية. مرة كان الثلج يقطع الطريق، ومرة كان يشرع بالكاد في النزول، بينما في مرة أخرى مغايرة تمامًا كان الجو باردًا جدًّا، هطلت نهار ذلك اليوم أمطار لكنها لم تثلج قط، ولا تعلم من أين أتى أبي بحكاية الثلج تلك، رغم أنّها هي من ذكرت الثلج مرارًا. مرَّة كان أبي يصرخ فيها أن تصمت، ومرة يتجاهل عتاب صاحب السيارة، ومرة لم يكن والدي حاضرًا تلك الليلة. أمَّا القابلة فقد قامت بعملها في الطريق، ولكن في هذا بعض الشك أيضًا، ربما عندما رجعوا إلى البيت، لأن ضوء الشمعة كان خافتًا والطريق محفرة والهواء يدخل من تحت غطاء العربة، ولا يمكن للقابلة القيام بذلك لأنَّها ضعيفة النظر أصلًا. ومرة لأسباب أخرى لم تقطعه كأن تكون قد نسيت الخيط أو المقص أو الموس! أمي لا تذكر أي آلة استعملوا لفصلنا عن بعض، أمَّا في أخرى فأحضرته وكان خيطًا أخضر؛ لأنَّها في الصباح وجدته طويلًا متدليًا من سرَّتي فقطعت الزائد منه. تكركر أمي ولا أفهم لِمَ قد يضحكها شيء مماثل؟

الأمر الوحيد الذي لم يتغيَّر في روايتها هو غيظ جارنا وشتائمه بسبب القيادة ليلًا في شهر شتوي شديد مثل فيفري. أمَّا أبي فلا يُعلق أبدًا على هذا اليوم، وكأنّه كان غائبًا، ينتظر أمي حتَّى تُكمل قصتها ثمَّ يلتفت إليَّ بود ويقول:

– هكذا جئتِ إلى الحياة في ليلة غاضبة.

– كل الناس يولدون بطريقة ما في ليلة ما، الفرق أن البعض ينسى والبعض مثل أمي… أردُّ.

الزهايمر

إلى روح العم أبو باسم

مساء وردي شبيه بنهاية فيلم رومانسي، تزوَّج فيه البطلان من دون سابق إعلان. لم يفهم المشاهد ذلك الغموض الذي سارت به الأمور إلى أن تبيَّنت الخيوط الوردية. كمثل تلك النهاية، روت الجدة رغبتها في أن تنهي عمرها في الطبخ. أرادت ذلك بكل جدية، ولكنها لم تعد تقدر على الوقوف فاكتفت بالطبخ عن طريق تكرار الوصفات التي تعرفها، والسؤال عن التي تريد أن تعرفها.

في البداية عندما رأتني، ذكرت اسم طبق لا أحبه، رغم علمها أنني لا أحب مذاقه، ولا رائحة الزيت المنبعثة من البيت أثناء طبخه، ولا تلك الخيوط البخارية المندفعة إلى سقف الغرف لتتجمَّع وتقطر في آخر الليل. كان عليَّ تغطية رأسي، لحمايتها من القطرات الباردة المعبأة بالدهن ورائحة الفلفل الأسود ولون أحمر يكاد يشبه قطرة دم. في بداية حياتي الواعية تلك، ظننتُ أنَّ شيئًا سرِّيًا مخبَّأ بين قصب السقف يمتزج بالبخار فيتحوَّل لونه. بجهل تام للتفاعلات الكيميائية، كانت جدتي تفسر الأمر بموت عدد هائل من الهوام داخل القصب فيقطر دمه، ومنذ ذلك التفسير وأنا أكره تلك الطبخة وأخاف منها. تُعلِّقُ جدتي: «لم أرَ في حياتي كلها طفلًا يخاف من الأكل».

قبل أيام، نسيتْ جدتي أنني أخاف من الطبق وقالت بوضوح: «لو أنك حضرتِ إلينا، أبكر قليلًا، منذ ساعة لطبختُ لك الطبق الذي تحبين»، وذكرت اسمه. شعرت أن عنكبوتًا ضخمًا يتسلَّق البطانة الداخلية لحلقي. لم تكترث جدتي، راحت تضيف: «جدُّك سيأتي بعد قليل، سيحضر الحطب من الغابة». سنة 1950 كان جدي حطَّابًا وكانت جدتي قد تزوجته قبل سنة. قبل أكثر من عشر سنوات، مات جدي، لكنه ما زال يأتي بالحطب لتطهو جدتي أطباقًا لأحفاد لم تكن تعرفهم بعد.

وبعد، كان هناك رجل آخر في مكان قصيٍّ جدًا عن جدتي. كان جَدًّا هو أيضًا، وله لغة مختلفة عن لغة جدتي. كان طويلًا وأسمر، ليس وسيمًا كما قد يتخيَّل المرء من السمار والطول. يجلس هناك ويردد: «لا يجب أن تحبل الكلبة، سيفسد جسمها وتتدلى أثداؤها، ستصبح بشعة. لا أحب الكلبات البشعات، المتدليات الأثداء». صادقًا، في وصفه، كان. رأيت مرة كلبة كما وصفها هو، وكان بالإضافة إلى ذلك تساقط وبرها وجلدتها حمراء تلمع، ترضع جراء كثيرة.

جلس، يومًا آخر، طلب أكلًا من مطبخ بيته، ونادى أمه بدل أن ينادي حفيدته. في المطبخ كان يقف رجل، أسمر هو الآخر وبدين، سقطت بطنه بفعل تراكم الدهون. خلال ثلاثين سنة زاد وزنه أربعين كيلوغرامًا. يرفض الرجل، الجالس الذي يكره الكلبة الحامل، أن يأكل أي شيء ما لم يُطبَخ بيدي الرجل الأسمر البدين الثاني. كلَّما وضع الأكل أمامه، سأله أن ينادي أمه، فتستجيب حفيدته، يتلعثم أمامها قائلًا: «ماما، كرسيك هنا بقربي!»، يجلس الثلاثة، يأكلون ببهجة، وعندما ينتهي الجد من أكله يشرب شايًا ساخنًا. يقول لابنه: «بابا، أريد نقودًا لشراء جوارب هذا اليوم»، ويجيبه الرجل البدين الذي يطبخ له: «في المساء، نتسوَّق وأشتري لك ما تريد». يقف الجد ويضرب رجليه بالأرض: «ولكنني يا بابا أريد جوارب ملونة الآن، أريدها لألعب الكرة مع رياض. بعد قليل سيأتي». تنهَّد الرجل البدين وقال في نفسه: «رياض تُوفي منذ عشرين سنة».

تقول جدتي إنَّها قابلت أمهر طبيب أعصاب هذه الأيام، وقالت لي: «زوريه، إنّه يكتب بالحبر البني ولا ينظر في الكتب». أعرف بيته، سآخذك إليه وأخبره أنّك لا تنامين ليلًا. سألتها ما اسمه، «صالح»، قالت. لم يكن صالح طبيبًا، ولكنه كان كاتب حروز[1] معروفًا. مات قبل جدي، قبل أن تنسى جدتي أن زوجها مات. كان الجد في الأرض القصيَّة، وكانت جدتي والمساء وردي. ضحكت قبل أن تقول لي: «ربما هذه ضحكتنا الأخيرة، والكلبة لم تحبل قط».

[1] حروز= جمع حرز بمعنى تعويذة توضع عادة في قماش وتعلق في الرقبة أو تخاط في الثياب الداخلي.

 

غزلان تواتي كاتبة قصة قصيرة من الجزائر، مهتمة بشكل خاص بوضع المرأة في الجزائر المعاصرة، تتناول من خلال كتاباتها أيضًا موضوعات ذات صلة بالعلاقات الإنسانية. صدرت لها مجموعتان قصصيتان: «النساء لا يفعلن ذلك» من إصدارات فضاءات للنشر والتوزيع  في العام 2022، و«توقيت غير مناسب لشراء السمك» الصادرة في مصر العام 2024 عن دار هن للنشر والتوزيع.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member