قصة قصيرة جديدة لكارولين كامل، عن خادمة تشعر بالاتصال بمجموعة من العرائس التي صنعها مستخدمها من أجل عرض مسرحي.
كارولين كامل
تمتطيه وتُحكم فخذيها حول جسده، تتطلع إلى وجهه الوسيم مغمض العينين، تتلوى يمينًا ويسارًا ببطء حتى تأتيها إشارة تُنبئ بانتصاب يقتحم فرجها ويصل بها إلى نشوة لا يكترث لها صاحب العضو، ينتظر أن يسمع صرخة الذروة حتى يتنفس، ويرتخي عضوه، ويفتح عينيه، ترفع جسدها عنه وتسدل الجلباب من دون أن تنظر إليه، وتتجاهل قسمات وجهه المتألمة.
تبتعد عنه وهي تبتسم لنفسها، تقترب من النافذة وتفتحها، تتسع ابتسامتها عندما ترى رجال القرية في طريقهم إلى الحقول مطمئنين البال على شرف قريتهم، يجذب سلطان ياقة جلبابه، ويجفف قطرات العرق عن جبينه، يترك الفراش ويمشي منكس الرأس ويتجاوز خُفه المنزلي، يدخل الحمام ليغسل عضوه بماء يحضره بكوز صفيح من دلو كبير ممتلئ.
تخرج صباح من الغرفة، وتباشر عملها اليومي في تنظيف المنزل وطهو الطعام، والعناية بمحتويات صناديق سلطان الغالية التي أحضرها معه عندما عاد إلى القرية بعد غياب ثلاثين عامًا.
سلطان الفنان والنحات، تميمة القرية وأوسم من أنجبت نسائها، الذي رحل، أو للدقة رُحِّل وهو في سن الثامنة عشرة، بعد أن وقعت عليه عينا الست الأجنبية التي كانت برفقة وفد من المسؤولين لمباشرة نجاحات الحكومة في تطوير القرى بأموال المعونة التي يقدمها بلدها، في ذلك الوقت تزينت الشوارع بلافتات المدح والامتنان للبلد الأجنبي الذي غادر أفراده المحتلين القرية منذ سنوات فحسب، ثم عادوا إليها رعاة لتنمية لا تؤتي ثمارها أبدًا.
توقفت الأجنبية لفحص قدمها بعد أن تعثرت خطواتها، وحاول الرجال مساعدتها في إزالة الحصى التي علقت في نعل حذائها، وبينما هي منحنية لمحت سلطان، شاب يبدو من هيئته الرثة وجسده النحيل شقاء العمل في الأرض، في تلك اللحظة لم يكن يحمل الفأس، بل يجلس القرفصاء ويعبث بالطين بين أنامله، انتصبت قامتها، اقتربت منه ولحق بها الوفد كما تلحق النعاج بالراعي، تطلعت إلى يديه، رأت مجسمًا صغيرًا لحمار تنضح تفاصيله الدقيقة بالحياة، يكاد أن ينهق.
التفتت إلى الوفد ورمقت رجاله بنظرة حادة غاضبة، وبنبرة ساخرة تهكمت عليهم، واتهمتهم بتبديد أموال بلدها من دون فائدة، ما دام عمل هذا الشاب الموهوب في الغيط حتى تشقق كفيه عوضًا عن أن ينحت تماثيل العظماء.
تلعثم الرجال وتهتهوا، حاول الجميع الدفاع عن أنفسهم، وإلقاء التهمة التي لم يفهم أي منهم ماهيتها بالضبط على الآخر، وحده سلطان لم يشارك في أحاديثهم. بعد أسبوع من الزيارة الرسمية، كان في حُلة زاهية على متن طائرة محلقة إلى بلاد لم يطلب الرحيل إليها، وذلك بعد أن أكدت السيدة الأجنبية في تقريرها الرسمي أن القرية ليست مؤهلة بعد لموهبة بقدر موهبة سلطان.
لم يكن سلطان يومًا كثير الكلام، وعندما عاد إلى القرية في الخمسين من عمره، ضاعف صمته من وسامته، وأكسبته التجاعيد عند أطراف شفتيه وعينيه إغراءً، والشيب الزاحف على لحيته يرسم خيالات وفتوحات خاضها جسده منذ أن تبنته الأجنبية، وتهامس أبناء القرية، أنها أرسلت في طلبه ليس ليخلق لها عرائس صغيرة من الطين، بل لتُنجب منه أطفالًا أكثر وسامة من أبناء بلدها.
سلطان الذي عاش حياة رغد لا يتأتى لأكثرهم ثراءً في قريته التطلع إليها، ليس لمقدار ما يملكه بل لخوضه عوالم لم تكن الثروة وحدها كافية لاقتحامها، خاضها بهيبة وتوقير لا تتناسب مع عودته إلى القرية بعينين زجاجيتين تبدوان وكأنهما اكتفتا من المشاهدة، وبرفقته عشرات الصناديق الخشبية الضخمة التي أعادته إلى صدارة أحاديث الأهالي مرة أخرى، وهو ما ضاعف من مراقبة أهل القرية لتحركاته.
بناء على طلبها اتفقا على صفقة ممارسة الجنس؛ ثلاث مرات في الأسبوع مقابل خدمتها له والمبيت عنده بعد أن فشل في الحصول على خادمة أخرى. أعراف القرية وتقاليدها تمنع عمل المرأة – خاصة صغيرة السن – في منزل رجل غير متزوج، ناهيك بالمبيت عنده، وحالت سمعة سلطان بينه وبين تشغيل سيدة كبيرة في السن زهدها الرجال، حتى الآن لم تفارق الست الأجنبية ذاكرة القرية الجمعية، بتجاعيد وجهها وعنقها ولهاثها للحصول على الشاب الغر.
تقدمت إليه صباح في أحد النهارات تعرض عليه العمل لديه، وافق فورًا، وسألها عن أعراف القرية، ابتسمت وأخبرته أن القرية غير معنية بمراقبتها، لمح سلطان ثقتها وأعلن موافقته، وسألها عن المبلغ الذي تتقاضاه عادة، نظرت إلى عينيه وقالت له بوضوح:
– تعاشرني.
تنحنح سلطان وابتلع ريقه، وسألها إن كان هذا اختبار القرية للتأكد من التزامه بالأعراف، ابتسمت صباح وقالت:
– لأ.. مفيش اختبار.. الحكاية إني وحشة أوي.. ومفيش خوف عليّا.
تأكد سلطان من نبرة صوتها أنها ليست مدفوعة من القرية لاختبار ولائه لأعرافها، وأنها لا تمازحه، وأن رغبتها في ممارسة الجنس حقيقية، لكنه تنهد ورفض عرضها، فلم تحاول أن تثنيه ورحلت.
لم يكد يمر أسبوع حتى بحث سلطان عنها ووجدها تقطف القطن وتزغرد برفقة النساء اللواتي أشحن بوجوههن فور وصوله بينما اقتربت منه صباح، لم يتحدث، ولم تسأله، اكتفت بالنظر إليه، بينما حدقت عيناه في كفها القابضة على قطن مخضب بدماء، فقالت له بصوت هامس:
– متخفش.
رحل سلطان وعادت صباح إلى العمل، ضحكت النساء وهمسن، أخبرتهن أنها سوف تعمل لديه ولن تشاركهن العمل في الحقل، تزاحمن بالأسئلة وألححن على ألا تبخل عليهن بالحكايات، طلبن أن تعدهن بمشاركة تفاصيل حياته وأسرار صناديقه، إلا أن أيًا منهن لم تُبدي ردة فعل تجاه وجود صباح بمفردها برفقته، كن متأكدات أن سلطان لن يُقدم على إغوائها، لم يكن هناك مجال لأن يخطر على بالهن الصفقة التي عقدتها صباح بنفسها لتحصل على جسده.
وصلت صباح منزل سلطان في اليوم التالي، دخلت ووقفت أمامه وأخبرته أنها لا تريد رومانسية كاذبة، هي غير معنية بمشاعر الضعف، خاصة وأنها تعرف كيف تصل إلى النشوة بمفردها، وما تريده هو وجود جسد رجل أسفلها.
سألها سلطان عن سبب ما تطلبه، ابتسمت وقالت له إنها فقدت بكارتها منذ أن اختبرت دس فاكهة وخضروات مختلفة بين فخذيها، إلا أنها لا تزال تشعر بعذريتها لأن رجلًا لم يخترق جسدها، وأنها ترغب في قضيب منتصب يحقق لها انتصارًا على أعراف القرية، كانت كلماتها غاضبة وواضحة إلى حد أخجل سلطان ذاته، أشعلت الكلمات الرغبة في جسده وحققت صباح غايتها في مضاجعته، وقال لها:
– أول مرة أنام مع فكرة مش مع ست.
ابتسمت، وتعاملت مع جملته الجارحة كمديح يعزز سخريتها من القرية وأعرافها.
كما هو متوقع، لم يُثِر عمل صباح في منزله أي ضجة تُذكر، بل لم يبالِ أحد ببقائها برفقته في منزل واحد بعد أن تغيب الشمس.
صباح، دميمة القرية المحبوبة، أو للدقة المقبولة اجتماعيًا شفقة بحالها، يتعامل معها الشبَّان بأريحية، عكس ما تفرضه أعراف القرية؛ ألا يتحدث شاب مع فتاة تجاوزت الخامسة عشرة لأنها في سن يؤهلها أن تصبح زوجة أحدهم، وقد يسيء الناس تفسير حديثها مع الغرباء.
في الوقت الذي تأخذ فيه حياة القرية مسارها الطبيعي وتتلقى الفتيات عروض الزواج، وعادة لا تنتظر أي منهن العرض الثاني بل تقبل فورًا من يحتسي كوب الشاي الأول برفقة ذويها، لم يتقدم إلى خطبة صباح أي من شبَّان القرية، فيما عدا مرات معدودة.
رجال مسنون لا يجدون من يرعاهم، أو أرامل لديهم الكثير من الأطفال ولن ترضى برعايتهم أي امرأة بسهولة، أو رجال لا يريدون دفع المال مقابل خدمات تحتاج إلى عاملة ويمكن أن تقدمها زوجة بالمجان، أو عروض زواج لا تضمن المضاجعة بأي شكل، ولن ترضى امرأةً لا يزال أمامها فرصة لإنجاب أطفال في زواج تعيش فيه كراهبة، يقبلون عليها لأن من تخطت سن الإنجاب لن يبقى لديها القوة اللازمة للعمل الشاق المنوط بها القيام به.
احتياج مُلح إلى خادمة أو ممرضة، وتواطؤ مهين يتمثل في عرض عمل بلا أجر، شُذِّب ليصبح عرض زواج مشفوعًا بعمل خير لصالح الفتاة الدميمة.
لماذا صباح؟!
لأنها الفتاة التي ضرب بها شيخ المسجد في إحدى الجلسات الخاصة بالرجال المثل؛ الحكمة الإلهية التي يعجز أن يفسرها إنسان ولا أن يعترض عليها، أن يخلق الله أنثى قبيحة إلى حد استثارة العفة في نفوس الرجال، جردها وجهها من قيمة الحياة ذاتها، فقدر النساء أن يدفعن بالمزيد من الصغار، منذ أن يحضن وحتى تتوقف أرحامهن عن العمل.
لكن لماذا تعيش صباح؟ فتاة بلا قيمة طالما لن يقتنيها أحدهم، وأنثى معطوبة لن يضع رجل بذرته في رحمها، عذراء القرية التي لن ترفض عملًا ومنزلًا أفضل من الحظيرة التي تسكنها بعد وفاة والديها.
ترفض صباح كل عرض مماثل، تضحك وتقول:
– دا فارة الغيط.. بشنبها.. بتلاقي اللي ينيكها.. هو بس أنا أتكى على الصبر.
لم تكن تعليقات صباح الجنسية تُغضب الرجال أو تُثير حفيظتهم، فالفتاة القبيحة كصبي صغير، كلماته البذيئة مُضحكة وليست مُخجلة. استغلت صباح الامتياز الوحيد لديها، وأطلقت للسانها العنان، تشحذ ذهنها الحاد كل نهار، وتسخر من الجميع من دون أن يدرك معظمهم أنها تضحك على فقر خيالهم.
من جانبهن، قدرت الفتيات سعيها الدائم لمساعدتهن عند الحاجة في الأعمال الشاقة التي لم ينتهين منها، كانت تمد يد العون في حلب البقر أو جمع ديدان الحقل وغيرها من الأعمال الموكلة إلى نساء القرية، كن يعشقن رفقتها في الحقول بخاصة خلال مواسم جمع الفواكه والخُضر، فرصتهن ليتحدثن بحرية بعيدًا عن مراقبة وتجسس الرجال على أحاديثهن.
يشاركن شكوى حياتهن الجنسية، كانت صباح تضحك وتقدم لهن عرضًا تمثيليًّا ساخرًا محاكاةً لممارسة جنسية بينها وبين ثمرة خيار تارة وكوز ذرة تارة، تضحك العذارى منهن وتحمر وجوههن قليلًا، والمتزوجات يتبادلن التلويح بأصابعهن في حركات بذيئة لا يجرؤن على الإقدام عليها أمام رجالهن، وتطالبها الأرامل والمطلقات أن تعيرهن تلك الأعضاء المتخيلة ليجربنها هن أيضًا.
– دي عرايس متحركة يا صباح.
قالها سلطان لصباح في اليوم الأول لعملها لديه، بعد أن اصطحبها لتتعرف إلى البيت وممتلكاته، صدرت عن خطواته أصوات شخلخلة دلاية يحملها في يده، بها عشرات المفاتيح الصغيرة التي تفتح أقفال الصناديق.
سمعت طقطقة الخشب عند فتح الصندوق الأول، حبست أنفاسها ونظرت بترقُّب، اتَّسع الشق بين قاعدة الصندوق وغطائه، وطغت رائحة مختلطة غريبة عن أنف صباح، دسَّ سلطان يده وجذب شيئًا ملونًا، التفت إلى صباح وقدم لها العروسة الأولى بنبرة مبتهجة:
– شنبو.. راجل الحتة في عالم العرايس.
شهقت صباح وتملكتها لحظة خوف وهي ترى سلطان يفك قيد العروسة ويرفعها في الهواء، طلب منها أن تمد يدها وتحملها، تقدمت ببطء، وترددت قبل أن تُمسك العصا الخشبية التي تتدلى منها الحبال المقيدة لأطراف العروسة، أوضح لها سلطان أن عملها الأساسي منذ الآن يتضمن إفراغ محتويات الصناديق بتروي، والتعامل مع العرائس بصبر حتى لا تتقطع أوصالها.
بعد ساعات من العمل الشاق، لم تكن صباح قد أفاقت من دهشتها بعد، تحسست بأصبعها تفاصيل بعض العرائس، بخاصة دقيقة الحجم منها؛ سمكة برتقالية في حجم أصبع، مُعلقة برفقة العشرات منها بألوان مختلفة، تُحاكي المجموعة قاع محيط يصله ضوء شحيح.
أخيرًا قالت صباح:
– العرايس دي عايشة يا سي سلطان.. السمكة بتبص لي!
ضحك سلطان، وأخبرها أن الدمى لا حياة فيها، والحركة سوف تدب في أوصالها خلال العروض التي ينوي تقديمها في ساحة القرية، هزَّت رأسها نافية وأصرَّت أن الكرسي العروسة يدفع ساقيه لينتصب ويتحرر من حباله، ويدعو شنبو إلى أن يجلس ويستريح، ضحك سلطان مرة أخرى وقال لها:
– إنتي بتألفي قصص يا صباح ولا إيه.. شكلك هتساعديني في حاجات تانية غير التنضيف!
هزَّت رأسها وتركته وانهمكت في ترطيب أجساد الدمى بالزيت كما طلب منها، وكلما فرغت من واحدة رصت الأصغر منها برفق بجوار الأخريات على الرفوف الخشبية، بينما علَّقت الأكبر بالحوامل المعدنية التي ركَّبها سلطان بنفسه. صارت غرفة العرائس أشبه بفصل دراسي، مليء بعشرات الدمى مختلفة الأحجام والأشكال والهيئات، بشر وحيوانات ونباتات وقطع أثاث؛ كراسي وطاولات وغيرها.
أخرجت صباح الصناديق الفارغة كي تنقلها إلى غرفة أخرى، اكتشفت صندوقًا صغير الحجم لم يفتحه سلطان بعد، نادته عدة مرات فلم يُجِب، ذهبت وأخبرته بما عثرت عليه، ابتسم وخبط جبهته ساخرًا من نسيانه أهم قطعة لديه كما قال.
دخل غرفة العرائس وأثنى على عمل صباح، ابتسمت لتلقيها مديحًا حقيقيًا لأول مرة، اقترب من الصندوق وفتحه، رأت صباح عروسة ترقد بداخله، فتاة بملامح دقيقة أبرزها شفتان ملونتان بالأحمر، طلب منها سلطان أن تُخرجها بنفسها حتى تتعلم كيف تحبس العرائس داخل الصناديق فيما بعد.
مدت يدها المرتعشة، أخرجت العروسة وحلَّت خيوطها المربوطة في عقدة ورفعتها إلى أعلى كما رأت سلطان يفعل اليوم، انهمرت العروس من بين طياتها كشلال من قماش الساتان الملون، ودارت حول ذاتها، وانسدل شعرها أزرق طويلًا تتخلله جدائل منمقة.
نظرت صباح إلى العروسة الخشبية في دهشة كادت تُفقدها صوابها، تابعت بعينيها دورانها حول ذاتها وهي معلقة في الهواء، تلمع بشرتها الخشبية التي تتشرب بنهم نور الشمس القادم من شقوق النافذة، وتعكسه ظلال راقصه على الجدران.
هدأت العروس وخففت من دورانها، وأخيرًا فتحت عينيها، ذعرت صباح وافلتت العروس من يدها.
– دي مرجانة، أول عروسة نحتها وهتكون بطلة العرض.
لم تهدأ صباح بعد كلمات سلطان وأصرَّت أن العروسة فتحت عينيها عن عمد، مدَّ سلطان يده وشرح لها أن أعين الدمى ليست مربوطة بخيوط كباقي أعضائها، ولكنها تُفتح وتُغلق تبعًا لحركة الرأس، وأن دوران العروسة حول ذاتها هو ما تسبب في حركة العين.
سألته صباح إن كانت مرجانة تُجسد السيدة الأجنبية التي طالما سمعت منذ طفولتها أنها أجمل امرأة عرفتها القرية على الرغم من كبر سنها الواضح، ضحك سلطان وأخبرها أنه رأى كثيرًا من النساء، ولا يمكن أن يصف أيًّا منهن بالأجمل، بمن فيهن الأجنبية التي تبنته، لأن لكل ست جمالها الخاص.
تنهدت صباح، نظرت إلى العروسة ومدَّت يدها وأمسكت بأحد الشرائط المدلاة من فستانها، وسألت بصوت مجروح:
– وأنا يا سي سلطان.. ما أنا كمان ست.. بس مش زي باقي الحريم اللي شفتهم؟
اعتادت صباح أن تراقب سلطان يتفقد العرائس ويُصلح بعضها، كان وقتها المفضل عندما يطلب منها أن تعد الشاي، فتسترسل في سرد تفاصيل طفولتها وحياتها، وكلما أغفلت جزءًا يطلب منها أن تستفيض في الشرح، فاجأها عندما سألها عن الصفقة التي عقدتها معه، حدق إلى عينيها، لم ترمش صباح أو تهتز لنظرته المتفحصة، قالت له:
– الحاجة مش هتيجي لي لأني عفشة وأنا عارفة.. بس أنا أعرف آخدها بطريقتي.. والألعن لما محدش يتوقع أني باخدها.. فأقدر أضحك عليهم.. وأنا بحب أضحك.
ارتجف من صراحتها وجرأتها، لم يسبق لامرأة أن صمدت أمام سحر تحديقه ونبرته الواثقة الهادئة التي تهدف عادة إلى إرباك النساء، بل وشعر بالرغبة تدب في جسده، وقبل أن يخرج صوته قالت:
– ولعلمك أنا مش زعلانة أني وحشة.. بالعكس دي التذكرة اللي هطير بها في كل مكان بحرية.. لأن محدش بيراقب اللي زينا.
كانت المرة الأولى التي يطلب فيها سلطان من صباح أن يمارسا الجنس، خارج إطار الصفقة، أخبرته أن لا نية لها في تغييرها، ولكنها لن تمانع بشرط أن تمطيه كعادتها، لا أن يعتليها هو، بالإضافة إلى ألا يتودد إليها بأي كلمات بعد أن ينتهيا.
بعد عدة أشهر من العمل على العرائس والحكاية، صار لكل عروسه دورها، كانت مرجانة بطلة العرض الذي يمتد إلى شهر، على ألا يُحكى العرض دفعة واحدة، بل يُقسم على أربع ليالي بأربع حكايات متصلة.
تُنقل الصناديق من منزل سلطان إلى ساحة القرية مرة كل أسبوع في طقس أشبه بجنازة جماعية، تقضي صباح وقتها من الليلة السابقة حتى صباح العرض في ترتيب العرائس داخل الصناديق، تتكلم معها برفق عن دور كل منها وتُذكِّرها بالجُمل التي قد تنساها، وتحذرها من عبث الأطفال، وتنصحها بالاستكبار على تهكم الكبار.
تنتظر قبل أن يتركا المنزل بدقائق حتى تدس مرجانة في صندوقها برفق كأنها تضع صغيرتها في المهد، يؤنبها سلطان في كل مرة ويحذرها من أن تتسبب في تأخرهم بتراخيها عن وضع مرجانة في الصندوق منذ الليل.
تقول صباح بعتاب:
– ما بتحبش الصندوق يا سي سلطان.. بتتخنق منه وتخاف.
في إحدى المرات تأخرت صباح عن الموعد عشر دقائق، انفعل سلطان وهددها أنه سيتخلص منها، بكت وأخبرته أن العروسة شنبو كان يشعر بالتعب ويرفض أن يشارك في العرض، فساعدته في استجماع قواه، ألقى سلطان ما كان يحمله واقترب من صباح، ولأول مرة ترى وجهه جادًا مندهشًا. قال بصوت أجش:
– يخرب بيتك يا صباح.. إوعي تكوني وقعتي في غرامها.. العرايس دي أخيلة.. خشب ملون.. ملهاش روح.
بكت صباح بتأثير كلمات سلطان القاسية، وسألته عن ماهية الروح، فقال لها:
– يا صباح.. الروح هي النفحة اللي في جسم كل حي.. هي اللي تحب وتكره.. تشتهي وتنفر.. ويموت البدن والروح تفضل.. لكن دول عرايس خشب.. يعني ولا حاجة.
هزت صباح رأسها وقالت له:
– وأبدان كتير فيها الروح.. تمشي وتاكل وبكرة تموت والدود يعف عن نهشها.. لأنهم وحوش.. بيحكموا على الشكل.. ويحسبوا الوحشين بلا روح زيهم زي العرايس الخشب.
تحوَّل عرض العرائس المتحركة الذي يقدمه سلطان إلى حدث جماهيري ذاع صيته في الإقليم، أصبح من المعتاد أن يأتي إليه أولاد القرى المجاورة، وتحولت مرجانة بطلة العرض من عروسة خشبية إلى حلم يجتاح عقول الجميع، الرجال يحلمون بالسيدة الجميلة القوية التي ترقص وتتمايل بغنج، وتُلقي النكات البذيئة بلا خجل. تحبها النساء لأنها تعطيهن الأمل في الحرية، سيدة جميلة لا يقوى الرجال على مجاراة شجاعتها وما تفعله، الوحيدة التي تسخر من بطش السلطان الذي يقع في غرامها ويحبسها في قلعة، وتختم عرضها الدائم بأن الحياة ليست إلا مغامرة طائشة، تخوضها العرائس بشجاعة طالما حصلت على حريتها، وأيًّا كانت الخسارة فهي لا تستوجب الندم، لأن الخسارة الوحيدة للعروسة الحرة هي أن تُعلق أطرافها مرة أخرى بالحبال.
كلما تقرَّبت صباح من مرجانة بالرعاية ورطَّبت جسدها بالزيت حتى لا يتشقَّق جذعها أو يتقشَّر وجهها الجميل ابتعدت عن سلطان، حتى كفَّت عن ممارسة الجنس معه، أخبرته أنها لم تعد بحاجة إلى السخرية من القرية في السر، لأن العرائس تسخر علنًا نيابة عنها ولكنهم لم يفهموا النكتة بعد، أخبرها أنه الآن يشتهي مضاجعتها، ضحكت وأخبرته أنها لم تشتهيه يومًا ولا تريد مقابلًا لعملها ما دام يتركها ترعى العرائس ويتعهد لها بأن يبقيها في خدمته، ضحك ساخرًا، وأخبرها أنه لا يملك خيارًا آخر.
«عرايس.. وكلنا حلوين.. كلنا طعمين.. محبوبين.. بني آدمين وكراسي.. وشجر ودلافين.. وشموس وسحاب.. عندنا حكايات.. أولها بسم الله.. نحتنا سلطان بإيده.. نعيش حياتين.. في النهار نعسانين.. تغرب الشمس.. تدب الروح.. نرقص ونحكي الليل بطوله.. واللي عندنا نقوله.. وتخلص السهراية.. نرجع على الرفوف.. تاني من غير روح..بس لأ ده زمان.. ومن انهاردة يا روح ما بعدك روح».
تغني العرائس كل مساء، وتبكي صباح بسبب كلمات الأغنية التي كانت تدلل بها العرائس همسًا كل صباح، دوَّنها سلطان وعلق عليها أنها ذات جرس موسيقي، لكنه لا يؤمن بحرف واحد منها.
تربِّت صباح على وجه مرجانة الجميل، وتخبرها أنها حية في كل بيت في القرية، لا يكف أحد عن ذكر اسمها ويتمنون لو يمسون طرف ثوبها مرة واحدة.
في إحدى الليالي سمع سلطان حديث صباح مع مرجانة، اقتحم الغرفة وجذب العروسة بعنف من يدها، وقال بعصبية وغضب:
– دي عروسة خشب يا صباح.. يعني ممكن أكسرها دلوقتي قدامك ومش هتنطق حرف واحد.. تحبي تشوفي؟
مدَّت صباح يدها، وركعت على الأرض وتوسَّلت أن يسامحها سلطان وألا يكسر العروسة، وتعهَّدت ألا تُحدِّثها مرة أخرى.
نظر سلطان إليها بشفقة وتركها، نحبت صباح وهمست:
– مش كل اللي ساكت ومش بينطق حرف واحد يبقى خشب.. ومعندوش اللي بيوجعه.. ده الشجرة نفسها تعيش تحس.. وتبكي جذعها.. حتى وهي كراسي.
بعد عدة أيام من تهديد سلطان بكسر العروسة، استيقظت صباح وبدأت نشاطها المنزلي كعادتها بدخول غرفة العرائس، وفتح النوافذ لتهويتها. لم تجد مرجانة في مكانها، بحثت عنها، وعندما لم تجدها ركضت إلى غرفة سلطان وهي تصرخ بأن المنزل تعرض للسرقة، وعندما دخلت الغرفة وجدت العروسة ملقاة على الأرض مهشمة الرأس ممزقة الأوصال.
لم تنطق صباح كلمة واحدة، ركعت على الأرض ومدت يدها لملمت أشلاء الدمية، وبصوت حاد سألت:
– ودا الوقت هتعمل الليالي إزاي من غير مرجانة يا سي سلطان؟
جاوبها سلطان بصوت يخلو من الإحساس:
– أنا الحكاية يا صباح.. الناس بتيجي عشاني مش عشان العرايس.
بكت صباح في غرفة العرائس وهي تُعيد مرجانة إلى صندوقها الخشبي للمرة الأخيرة، بعد أن طلب منها سلطان أن تتخلص منها، ولكنها قررت أن تحتفظ بها بلا علمه، قالت للعرائس بصوت خفيض:
– دي مرجانة اللي نسِّل على رأسها البابور.. مرجانتكم.
عاد سلطان بعرض جديد بعد أن أزاح مرجانة من الحكاية، لم يتلقَ جمهوره من أبناء القرية والقرى المحيطة العرض بالشغف ذاته، وارتفعت الأصوات متسائلة عن العروسة، توالت الليالي وتراجع عدد المقبلين على عرض سلطان، وكلما حاولت صباح تذكيره بمرجانة وإمكانية إعادتها إلى الحياة مرة أخرى، انفعل وبالغ في سب العروسة، مهددًا بأن يحرق غرفة العرائس بالكامل ويُعيد بناء عالم جديد.
في إحدى الأيام أعلن منادي القرية عن قُرب وصول مسرح عرائس قادمًا من قرية بعيدة، تسرد فيه الحكايات سيدة تُعرف بـ«الملثمة»، لا تكشف عن وجهها أبدًا، وتُحرك ابنتها العشرينية العرائس، سلبت الأبنة عقول الرجال بجمالها الآخاذ، وتساءلوا عما تخفيه الأم من جمال أكثر، أو أنها ربما تخفي قبحًا لم ترث منه الأبنة شيئًا، مشككًا في أمومتها.
أعاد إعلان نبأ وصول المسرح إلى القرية النهاية الدرامية التي وقعت منذ عشرين عام لفنان يُدعى سلطان، تألق عرضه المسرحي بقيادة العروس الخشبية مرجانة، حتى قرر تنحيتها متجاهلًا مطالبات أبناء القرية بعودتها. تراجع جمهوره تدريجيًا حتى لم يبقَ منه سوى بعض الأطفال، ثم اعتزل ولازم منزله، وطواه النسيان حتى اشتعلت النيران في المنزل.
في تلك الليلة البعيدة، فشلت كل محاولات أبناء القرية لإطفاء الحريق، وسُمعت على مدار ساعات أصوات استغاثة لعشرات البشر تنبعث مع الدخان من المنزل، الذي لم يبقَ منه شئ يشير إلى من كانوا بداخله أو كيف اندلعت النيران بهذه السرعة والحدة، انتهت الأقاويل إلى أن سلطان أشعل النيران بنفسه للتخلص من عرائسه التي كرهها ونفر منها. في تلك الليلة، احترقت صباح الدميمة التي خدمته بإخلاص، انتهت حياتها كما عاشت؛ مأساوية.
إكرامًا لسيرتها، خلدتها القرية رمزًا للعفة وقلة البخت.