في كتابها السينمائي الأول "يتمنعن وهن الراغبات" تتناول سلمى الطرزي رؤيتها لصورة المرأة في السينما المصرية، من وجهة نظر نسوية.
البيت ده طاهر وهيفضل طول عمره طاهر
«دائمًا توجد امرأة مع الرقباء؛ لأنها تحس بالآداب والذوق، أحيانًا تكون المرأة متشددة أكثر، أكثر محافظة».
نجيب محفوظ، الرقابة ضرورة.

سلوى شابة جميلة تعاني من التفكك الأسري بسبب تغيب والدها وخيانته المستمرة لأمها المنكسرة. تعرفها صديقتها عصمت على صديقها علاء وهو شاب متحرر عاطل يتحدى التقاليد وقيم المجتمع الأخلاقية. تنبهر سلوى بشخصية علاء الذي يفهم نقاط ضعفها وافتقادها لـ«أب» فيتمكن من الإيقاع بها في شباكه. تنجرف سلوى مع نمط حياة علاء البوهيمية فتهجر خطيبها وابن خالتها مدحت، الشاب المهذب السوي، وتهرب من البيت للعيش مع علاء حياة بلا قواعد أو حدود بصحبة عصمت التائهة وشلة الشباب الضائع. تنتبه سلوى للورطة التي أوقعت نفسها فيها عندما تدرك التبعات المدمرة لحياة السُّكر والعربدة والمجون والرذيلة ولكن بعد فوات الأوان.
فيلم «جنون الشباب» من إنتاج عام ١٩٧٣ هو فيلم آخر من نوعية الأفلام التي تعبر عن الهلع القومي البطريركي من فكرة انتشار «ثقافة الغرب المنحل» في المجتمع الطاهر. هذا بالإضافة إلى الرعب الذي ولَّده «كابوس» اندلاع ثورة الشباب في أوروبا وحركة الهيبيز في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، وانتشار الحركات الشبابية التي تندد بالحرب والاستعمار والرأسمالية والبطريركية وتتمرد على السلطة البرجوازية وقيمها الأخلاقية. فذلك هو أيضًا زمن صعود الموجة الثانية للنسوية، والمطالبة بحقوق المثليين، والتمرد على القيود الاجتماعية، والمطالبة بالمساواة والحرية الجنسية، وهو أيضًا زمن الموسيقى السايكاديليك وفريق البيتلز وشعارات؛ مثل: Sex, drugs & rock’n’roll «جنس مخدرات وروك أند رول»، وMake Love Not War «لنمارس الحب لا الحرب».
لذا، فاتساقًا مع الخطاب البطريركي المحافظ للمجتمع والدولة، يأتي فيلم «جنون الشباب» ليدق ناقوس الخطر ويحذر من خطورة انتشار ثقافة الهيبيز الغربية وتقاليعها المنحرفة على شباب مصر الطاهر ومستقبل الأمة. يحقق صناع الفيلم ذلك عن طريق تقديم الشباب المتمرد على القيود الاجتماعية بشكل كاريكاتوري كارثي، بهدف شيطنتهم وشيطنة أفكارهم «الدخيلة على المجتمع». هذه الصور هي جزء من خطاب شعبوي يتعمد التعميم والربط بين كل مَن يحيد عن تقاليد النظام السائد ووضعهم تحت مظلة نموذج سلبي واحد. هذا النموذج قد يشمل الهيبيز والمثقفين والفنانين واليساريين والنسويات والشباب المتمرد وغيرهم حسب الموقف. يستمد هذا الخطاب جذوره من عداء السادات الموجَّه إلى المثقفين اليساريين بسبب انتقاداتهم المستمرة لسياساته. تعمد السادات إعلان احتقاره للمثقفين في كل فرصة وتسخيفهم عن طريق تصويرهم كمجموعة من العاطلين الكسالى المنفصلين عن واقع الشعب الكادح وعاداته وتقاليده، يرددون شعارات عبثية وكلامًا متحذلقًا غير مفهوم بينما يحتسون الخمر ويلقون الشعر العدمي ويمارسون الفواحش.
فعصمت (سناء يونس) صديقة سلوى (ميرفت أمين) التي تقدمها لعلاء (أحمد رمزي) وحياة المجون والضياع فنانة تشكيلية كما أنها أيضًا مثلية. ترتدي ملابس رجالية ملطخة بالألوان والدهانات. تدمن الخمر والمخدرات وتلقي مونولوجات عن كراهيتها للرجال بسبب أبيها المتحرش. تقطع مرسمها ذهابًا وإيابًا وهي تدخن بعصبية؛ لأنها مهووسة بعشق فتاة اسمها داليا تلهمها كل لوحاتها. تتمرغ في التراب والألوان وتمزق اللوحات وتخدش وجهها بأظافرها، وتشد شعرها في هياج هيستيري عندما تمل داليا حياة الرذيلة فتهجرها من أجل الزواج من شاب. تنتحر عصمت كما هو متوقع لمَن مثلها، طبقًا للفيلم والخطاب الذي يصدره.
أما علاء زعيم الشباب المتحرر فهو أيضًا فنان تشكيلي تخرج في كلية الفنون الجميلة. عاطل لرفضه مبدأ العمل ذاته، هذا بالإضافة لأنه يرفض الاستحمام والشامبو والصابون لأسباب ثورية فلسفية. يتعالى على المجتمع وقيمه؛ لظنه أنه أفضل من الآخرين بسبب ثقافته وعقليته المتفتحة. عاري الصدر حافي القدمين طويل الشعر. يعيش في قصر متهالك ورثه عن أهله، مزينة أعمدته بملصقات مكتوب عليها SEX WITHOUT LOVE «جنس بلا حب». مفلس ومعدم ويعيش عالة على أعضاء الشلة التي تجد في قصره وكرًا يمارسون فيه أشكال الانحراف المختلفة من سُكر وتعاطٍ ورقص وجنس وعدمية. إلا أن موت عصمت يزيل الغشاوة من على أعينهم؛ حيث يدركون أن «انتحار عصمت هو جريمة قتل»؛ لأنها مثلهم: ضحية الأفكار الهدامة التي يبثها علاء في عقولهم، بالإضافة إلى استغلاله المادي لهم. يتركونه جميعًا ويهربون من القصر بعد أن يحاول إقناعهم بالتخلص من الجثة، بينما أصوات سارينات سيارات الشرطة تعلن اقترابها.
حتى سلوى البريئة التي انجذبت إلى علاء وعالمه بسبب افتقادها للأب بعد أن تحطمت صورة والدها أمامها، لم تفلت من الدمار الذي سبَّبه انصياعها لأفكار علاء الهدامة. فما إن يبدأ انبهارها بحياة التحرر في الزوال حتى تدرك تدريجيًّا خطورة الأفكار التي يروجها علاء، فعندما يباغتها الجوع بعد أيام من التمرغ بين أحضانه على الحشائش، ورسم الفراشات والقلوب على وجهها، والتجول في القصر شبه عارية وهي ترقص حافية، تكتشف أنها تعيش في الحرام مع رجل عاطل مفلس نطع، يرفض أن يعيلها وغير قادر حتى على إطعامها. بل يصل بها اليأس -أو ربما هو الجوع- إلى درجة أنها في أحلام يقظتها تتمنى أن يأتي خطيبها مدحت فيقوم بصفعها على وجهها وسحلها من شعرها إلى خارج القصر ليعيدها إلى حضن الأسرة. عندما تموت عصمت لا تتردد سلوى في مواجهة علاء وتنبيه أعضاء الشلة لشره، حتى إنها تردد مرات كثيرة: «اطلبوا البوليس… اطلبوا البوليس» في إشارة رمزية لضرورة تدخل الدولة لإنقاذ الشباب من الضياع الغربي المتحرر. إلا أن أوان نجاتها هي نفسها قد فات. فكيف لفتاة أن تنجو بعد أن هربت من بيتها وتركت خطيبها وفرطت في شرفها وعاشت حياة الصعاليك البوهيمية؟ فينتهي الفيلم بجلوسها محطمة بمفردها بجانب حمام السباحة، بينما تطفو جثة عصمت على سطح الماء.

لا يكتفي صُنَّاع الفيلم بتقديم صورة كارثية للشباب المتحرر وإظهار العواقب المأساوية لابتعادهم عن القيم الدينية والأخلاقية الخاصة بـ«مجتمعنا الشرقي». بل إنهم يستكملون رسالتهم وينبهوننا أيضًا إلى الأسباب التي تدفع الشباب إلى الهلاك وكيفية تفاديها. حتى أنهم استحضروا الفنان حسن عابدين -الذي لم يظهر في الفيلم قبل هذه اللحظة أو بعدها- ليلقي علينا محاضرة من خلال مشهد مقحم على الفيلم؛ حيث يظهر مع والد أحد الشباب الضائعين، يحمِّل فيها المواطنين مسئولية انحراف أبنائهم، ويرجع ذلك إلى روح اليأس والسلبية التي يبثها الآباء في نفوس الشباب عن طريق الشكوى المستمرة من الأوضاع الاقتصادية وإلقاء اللوم على النظام. ويؤكد أن الشعب هو المتسبب في تردي الأوضاع الاقتصادية لفشل المواطنين في تحديد النسل حتى وصل التعداد السكاني إلى ٣٥ مليون نسمة.
قد يظن السذج والحالمون أن خطاب الفيلم وتملقه للنظام كفيل برفع يد الرقابة عنه، بل وربما آمل صُناعه في الحصول على تكريم لتفانيهم في خدمة الصالح العام، إلا أن ما حدث هو العكس تمامًا.لكن قبل الخوض في تفاصيل معركة «جنون الشباب» مع الرقابة، دعوني أحكي لكم قصة الأستاذة اعتدال.
اعتدال ممتاز هي ابنة موظف كبير في وزارة الداخلية، كانت لديه ميول أدبية في شبابه وانشغل بالأدب لفترة. بعد حصولها على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة في ١٩٤٢ ثم ماجستير في الترجمة من الجامعة نفسها في ١٩٤٤، التحقت الأستاذة اعتدال في ١٩٤٥بالعمل في الرقابة التي كانت تابعة لوزارة الداخلية حينها، وكانت تسمى «قسم السينما». استمرت مسيرتها الرقابية ٣٠ سنة تدرجت خلالها السلم الوظيفي وصولًا إلى منصب مدير إدارة الرقابة في ١٩٥٩، لتكون أول امرأة تتولى هذا المنصب. ولأن مصر أسرة كبيرة ورئيس الدولة ربها، فقد كانت الأستاذة اعتدال نِعم الأم؛ حيث توالى عليها الملوك والرؤساء والأنظمة المختلفة وهي على القدر نفسه من المسئولية والتفاني في حماية الشعب من كل ما قد يخدش حياءه ويلوث أفكاره. بل وحرصت على تربية الجمهور وتهذيب ذوقه من أجل الارتقاء بالمجتمع ونهضة الوطن. فالأستاذة اعتدال تؤدي الدور الذي رسمته لها منهجية النظام البطريركي التي تضمن أن يعيد أفراد المجتمع إنتاج خطابه بغض النظر عن النوع الاجتماعي الذي ينتمون إليه. فعلى سبيل المثال، تذكر الأستاذة اعتدال في كتابها المدهش بعنوان «مذكرات رقيبة سينما ٣٠ عامًا» أنه عند التحاقها بالعمل الرقابي في ١٩٤٥، كان قسم السينما يراقب الأفلام العربية والأجنبية على حدٍّ سواء، وتقوم بأعمال الرقابة ٥ سيدات: ثلاث أجنبيات واثنتان مصريتان من خريجات الجامعة، بينما يرأس القسم رجل. وظلت أعمال الرقابة توكل إلى رقيبات سيدات حتى بعد قيام ثورة يوليو وانتقال الرقابة إلى وزارة الإرشاد القومي. إلا أنه عندما عُيِّنَت الأستاذة اعتدال مديرة لإدارة الرقابة في ١٩٥٩ بناءً على تدرجها الوظيفي، قام وكيل وزارة الثقافة حينها باستدعائها، وطلب منها التنازل عن المركز لأحد زملائها من الرجال. فغضبت الأستاذة اعتدال وقالت له: «لماذا؟ هل أنا التي طلبت أن أُعَيَّن مديرة للرقابة؟ والآن وقد وضعتموني تحت الأضواء ماذا يُقال؟ إنها لم تفلح لأنها سيدة؟ هل أسأت؟ هل أخطات؟». فاعتذر وكيل الوزارة وظلت هي في منصبها حتى بلغت سن التقاعد في ١٩٧٧. فبينما يرى الفكر البطريركي أن المرأة هي الأصلح للقيام بدور الرقيبة بناءً على الصفات التي حددها للفطرة الأنثوية؛ كالحياء والخجل، يعجز هذا الفكر عن قبول توليها القيادة. بالتالي، حتى تنتصر الأستاذة اعتدال في معركتها «النسوية» للحصول على المساواة، عليها أن تثبت أنها ستعمل على ترسيخ الخطاب البطريركي الذي تقوم الرقابة بحمايته بكفاءة لا تقل عن أقرانها من الذكور.

تظهر تجليات ذلك فيما تحكيه الأستاذة اعتدال في كتابها عن فهمها لدور الرقابة و«المخاطر» التي تتصدى لها. فبالعودة إلى فيلم «جنون الشباب» على سبيل المثال، نجد أنها قد خصصت فصلًا كاملًا تحكي فيه عن معركة الرقابة (التي ترأسها) مع هذا الفيلم وصُنَّاعه التي بدأت قبل تصويره. توضح لنا الأستاذة اعتدال أن الفيلم قد أثار قلق الرقابة من قبل أن يتم تصويره، حتى إن اللجنة المختصة رخصت سيناريو الفيلم في ٣١/٨/١٩٧١ بشرط الالتزام بما يلي:
– عدم الإشارة إلى الشذوذ الجنسي بين عصمت وداليا، والاكتفاء بإظهارها كصداقة قوية؛ وذلك حرصًا من الرقابة على الشباب؛ حتى لا تضع أمامه أمثلة لافتة لشذوذ جنسي.
– عدم إطلاق كلمة «هيبيز» أو وصف شبابنا بما يتصف به شباب الغرب والاكتفاء بجعله شبابًا متحررًا؛ وذلك حرصًا من الرقابة لاختلاف البيئة ورسوخ التقاليد ولبعد الأسباب التي أدت بشباب أوروبا إلى هذا الانحراف.
– مراعاة الآداب العامة والبُعد عن الإثارة الجنسية في بعض المشاهد.
– حذف قول عصمت «الجواز نظام فاسد ورجعي ولازم يتلغي فورًا»؛ وذلك حفاظًا من الرقابة على النظام العام والنظام الاجتماعي.
– حذف مشهد الفتى في ملابس فتاة يضع حلق في أذنه وباروكة.
وتضيف الأستاذة اعتدال أنه «عندما كتبت مجلة الكواكب موضوعًا بعنوان «تقليعة الهيبيز تصيب أفلامنا» أرسلت الرقابة تحذيرًا إلى المخرج بعدم إظهار الشباب المصري بمظهر الشباب الهيبيز لمخالفته للبيئة والتقاليد المصرية، وذلك عند تصوير فيلم «جنون الشباب»، وعدم الخروج عن السيناريو المرخص به إلا بإذن من الرقابة تنفيذًا للقانون الرقابي».
إلا أن صناع الفيلم تجاهلوا الشروط التي وضعتها الرقابة عند ترخيص السيناريو، وتمسكوا بتصوير العلاقة المثلية وإظهار العادات الدخيلة التي تتنافي مع «قيم المجتمع وتقاليده» بهدف التحذير من خطورة انتشار ثقافة الهيبيز. نتيجة لذلك، عندما عرضت نسخة الفيلم على الرقابة من أجل الحصول على رخصة العرض، فوجئت اللجنة بتجاهل الشروط التي وضعتها عند ترخيص السيناريو، فقامت بمنع الفيلم لمدة خمس سنوات كاملة، حتى تم عرضه في ١٩٨٠ ليلاقي فشلًا جماهيريًّا؛ حيث كانت اللحظة التاريخية التي يحذر منها الفيلم قد انتهت منذ عدة سنوات.
وهنا تكمن المفارقة، فكل المعطيات تشير إلى أن السينما السائدة ممثلة في صناع الفيلم، والدولة ممثلة في جهاز الرقابة، والمجتمع المحافظ ممثلًا في مجلة الكواكب، متفقون على أن المثلية الجنسية، وثقافة الهيبيز الغربية، والتحرر الجنسي، والتمرد على مؤسسة الزواج، وتخلي الرجال عن المظهر التقليدي للرجولة عن طريق «التشبه بالنساء» هي أمور شديدة السوء والخطورة ويجب التصدي لها وحماية المجتمع منها. إلا أن هناك خلافًا واضحًا بين هذه الأطراف حول الأساليب الصحيحة للتعبير عن هذه المخاوف.
فعلى سبيل المثال، بينما رأى سينمائيون أن عليهم صنع أفلام تحذر من ثقافة الهيبيز، تقول مديرة الرقابة في كتابها: «وأخذت حذري من تلك الأفلام واعتبرت أنها جرثومة خطيرة لأمراض اجتماعية يجب القضاء عليها في مهدها وحماية شبابنا من أضرارها باعتبارها مخلة بالأمن العام، ولأنها تخرج عن تقاليدنا وآدابنا ومُثُلِنا، ولم تكن النهاية المحزنة لهذه الأفلام تقلل في رأيي من خطرها أو تأثيرها باعتبارها توحي إلى الجريمة واستعمال القوة وانحلال الخلق». وتضيف معللة: «وكنت أظن أن المؤسسة المصرية للسينما ستأخذ في تقديرها أن مجتمعنا له تقاليده وعاداته الراسخة، كما أنه يخلو بالقطع من أسباب وجود وانتشار أمثال هذه الحركات الشاذة».

هناك أمثلة أخرى كثيرة بعضها وصلت به الحدة لدرجة أن يؤدي تفاقم المزايدات إلى تعرض الرقابة نفسها للمساءلة القانونية. من أشهر هذه الأمثلة فيلم «المذنبون» من إنتاج ١٩٧٥.
تدور أحداث الفيلم في إطار بوليسي؛ حيث تقع جريمة قتل ممثلة مشهورة في بيتها في أثناء إحدى السهرات الماجنة التي تضم شخصيات نافذة وبارزة بالسلطة. يكشف التحقيق مع هذه الشخصيات تورطها في جرائم فساد واستغلال نفوذ لا تقل فداحة عن جريمة القتل الأصلية.
أثار الفيلم اعتراضات كثيرة من الرقابة لاحتوائه على مشاهد جنسية جريئة ولتعريته للفساد بشكل غير مسبوق، إلا أن عرضه في أولى دورات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في أغسطس ١٩٧٦وحصوله على تقييمات نقدية إيجابية جعل الرقابة ترضخ للترخيص له بالعرض الجماهيري داخل مصر وفي بعض العواصم العربية، ورد في ديباجة قرار لجنة الرقابة ملف رقم ٢٣٠/٧٥:
«مجتمعنا تعرض لتغيرات في قيم الحياء الجنسي وهو شيء لا يستهان به ولا ينبغي أن ننساق وراءه ونكرس للإباحية، والفيلم فيه مشاهد جنسية صارخة وأنواع شذوذ».
وتم التصريح بالعرض العام في سبتمبر ١٩٧٦ بعد حذف عدد من المشاهد واللقطات والجمل التي تصور أشكال الانحلال الأخلاقي و«الممارسات الجنسية الصارخة والشاذة» التي تمت الإشارة إليها في الديباجة.
إلا أنه لم يمض شهر على العرض حتى تم وقفه بسبب مصريين مقيمين بالخارج أرسلوا خطابات إلى مجلس الشعب يطالبون بوقف عرض الفيلم؛ لأنه يسيء لصورتهم! نتيجة لذلك، تم منع الفيلم بقرار وزاري وتحويل الرقيبة اعتدال ممتاز للتحقيق؛ لأنها صرحت بعرضه «رغم انطوائه على مخالفات صارخة تمس الآداب العامة وتنال من قيم المجتمع وتشكك فيما تنادي به الدولة من شعارات العلم والإيمان».
ليس هذا فحسب، بل كانت أزمة الفيلم السبب في صدور قرار رقم ٢٢٠ لسنة ١٩٧٦ ليضيف معايير أكثر تزمتًا وتقييدًا إلى القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية. وتكمن خطورة القرار في استخدامه مصطلحات أدبية رنانة محملة بمفاهيم دينية مثل «الرذيلة» و«الخطيئة»، إلا أن أغلبها مطاطية لا تصف أشياء بعينها؛ حيث إنها مصممة لتشمل أي شيء وكل شيء إذا اقتضت الحاجة.
لم تكن هذه سوى نقطة انطلاق لحملات متكررة يقودها بالخارج والداخل «مواطنون شرفاء»، ينتفضون للدفاع عن سمعة مصر ضد الأعمال التي تصور عادات دخيلة «تمس الآداب العامة وتنال من قيم المجتمع وتشكك فيما تنادي به الدولة من شعارات العلم والإيمان».
فبعد أزمة «المذنبون» بعدة سنوات حدثت واقعة شبيهة في ١٩٨٣ في بداية حكم حسني مبارك؛ حيث أرسل «المواطنون الشرفاء» خطاباتهم المحمومة إلى مجلس الشعب مطالبين بمنع فيلمَي «درب الهوى» و«خمسة باب» لأن أحداثهما تدور في بيوت الدعارة التي كانت مرخصة في بداية القرن العشرين. تم سحب الفيلمين من دور العرض بالرغم من أن الرقابة قد صرحت بعرضهما بعد حذف ما رأت حذفه بناءً على قرار الرقابة الجديد المتشدد. وقامت الصحافة بالتهليل لقرار المنع مع مطالبات بمراجعة الرقابة التي صرحت بعرض الكثير من الأفلام التي تندرج تحت هذه النوعية التي تتناول حياة العاهرات والقوادين والشواذ. بل وصل العبث بالصحفي محمود السعدني إلى المطالبة بإعدام الأفلام الممنوعة وتحويل أصحابها إلى شرطة الآداب!

إلا أنه بعد ثلاث سنوات فقط، تحول هذا المطلب العبثي إلى حقيقة. فقد ألقت مباحث الآداب القبض على الفنانة معالي زايد والفنان يحيى الفخراني في ١٩٨٦ووجهت إليهما تهمة الفعل الفاضح بناءً على بلاغ تقدم به أحد الضباط لظنه أن المشهد الجنسي بينهما في فيلم «للحب قصة أخيرة» هو معاشرة حقيقية!
هذه الحملات مستمرة إلى يومنا هذا ويتم الإشارة إليها في وسائل الإعلام بـ«استياء شديد بين نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي»، بينما أضيف إلى قانون تقنية المعلومات تهمة «للتعدي على قيم الأسرة المصرية» في ٢٠١٨ التي كانت سببًا في سجن العشرات من صانعات المحتوى، فيما عُرِف إعلاميًّا بقضايا «فتيات التيك توك».
دورة المزايدات الأخلاقية التي تمارسها قوي المجتمع لها دور مهم في تغليب الخطاب البطريركي المحافظ وضمان سيادته. بالتالي فإن مفاهيم الرغبة ومعايير الأنوثة والرجولة النموذجية التي يتم الترسيخ لها في السينما السائدة تُصاغ من خلال مرورها بالمحطات التي تضمن انتصار الأصوات الأكثر محافظة. فالرقابة تزايد على صناع الفيلم، بينما يزايد المواطنون الشرفاء على الرقابة، وتزايد الصحافة على الدولة التي تستخدم سلطتها للمنع والمعاقبة وتغيير القوانين لتشديد القيود. لتُعاد الدورة كلها مع الفيلم التالي من نقطة انتهاء الدورة الأخيرة. أي مع قوانين أكثر تقييدًا وجمهور أكثر محافظة ورقابة يخاف موظفوها من التعرض للجزاء فيقومون بالحذف والمنع من باب الاحتياط. هذه الدائرة المفرغة هي التي تجعل من البطريركية خطابًا ممنهجًا يُعاد إنتاجه باستمرار، ولا تمكن مواجهته بتوجيه الاتهام إلى طرف بعينه. لذلك فإن الحملات التي تطلقها بعض الأصوات النسوية للمطالبة بوقف عرض الأفلام التي تقدم خطابًا ذكوريًّا أو بها عنف ضد المرأة تعجز عن إحداث أي تأثير جذري يتجاوز الانتصار اللحظي لاستجابة الدولة ومنع فيلم بعينه. ليس هذا فحسب، فهذه الحملات لا تختلف كثيرًا عن حملات المواطنين الشرفاء المحافظين من حيث إنها تعيد إنتاج الخطاب البطريركي السلطوي الذي يشرعن الوصاية الأخلاقية للدولة على الشعب ويرى في «المنع والعقاب» حلًّا أوحد ونهائيًّا لكل المشكلات.
نتيجة لذلك، نجد أنفسنا أمام معارك عبثية يناضل فيها الفنانون ضد الوصاية البطريركية التي تمنعهم من التعبير عن أفكارهم التي كثيرًا ما تكون بطريركية أيضًا! وعندما تجد الأصوات التقدمية نفسها مضطرة مرة بعد الأخرى للتضامن مع حق عرض هذه الأفلام، يصبح نقد خطاب هذه الأفلام معركة ثانوية ليس الوقت الحالي مناسبًا لها. حيث إن فرصة النقد تتراجع أمام إلحاح اللحظة الآنية التي يخوض فيها صناع الأفلام معركة ضارية ضد أجهزة الدولة والرأي العام المحافظ من أجل حرية التعبير. ومع توالي المعارك وانخفاض سقف الحريات، تتحول هذه الأفلام التي يحمل بعضها خطابًا ذكوريًّا رجعيًّا صارخًا إلى أيقونات للتحرر، ويتم استخدامها كنماذج للفن الذي «يتحدى قيود المجتمع المحافظ» عند التصدي للأجيال التالية من المحافظين الذين يطالبون بالمزيد من التزمُّت والتشدد والمنع.

