
جزء من نص طويل يعمل عليه الكاتب دلير يوسف عن عودته إلى دمشق في بدايات العام ٢٠٢٥، بعد أقل من شهر على سقوط نظام بشار الأسد، يحكي فيه عن العودة إلى بيت طفولته، والمشي في شوارع المدينة والجلوس في المقاهي والبارات. كذلك يحكي عن الطعام وعن التلوث في المدينة وعن الناس وطباعهم وعاداتهم، وعن لقاء الأصدقاء القدامىوعن الزمن الضائع والغربة، ومشاعره نحو سوريا الجديدة.
دلير يوسف
في الطريق إلى المطار. في الطريق إلى دمشق. في بداية العام ٢٠٢٥ أتوجه نحو الشام للمرة الأولى منذ العام ٢٠١٣، وإلى البيت الذي كبرت فيه لأول مرة منذ العام ٢٠١١. لا أعرف كيف أشعر ولا كيف أفكر، ربما كان ذلك أحد أعقد المواقف التي واجهتها في حياتي. مشاعر مختلطة لا أعرف كيف أعبِّر عنها.
طريق الوصول من برلين إلى دمشق طويل. ساعة أو أكثر تفصل بيتي عن المطار، ثم انتظار ساعتين، فطائرة تحملني إلى اسطنبول في ثلاث ساعات ونصف، ثم أكثر من ثلاث ساعات من من الانتظار، وثلاث ساعات أخرى تحملني فيها الطائرة إلى عمَّان. أصل في الثانية صباحًا إلى العاصمة الأردنية. أنتظر حتى الثامنة صباحًا موعد فتح الحدود، ومن ثم انتقل إلى دمشق.
إن لم تصادفني أي عراقيل فسأكون غدًا صباحًا في دمشق.
الساعة تجاوزت الواحدة ظهرًا، أجلس في مطار برلين أمام البوابة C6 منتظرًا موعد دخولي إلى الطائرة والإقلاع نحو اسطنبول. حجزتُ هذه الرحلة في الدقيقة الأخيرة. كانت رحلتي الأصلية متجهة إلى بيروت، وكان من المفترض أن أكون في الطائرة الآن.
كان موعد طائرتي الأصلية في السادسة صباحًا. استيقظت في الثانية، لاكتشف عبر رسالة نصية على هاتفي المحمول أن رحلتي ألغيت بسبب أحوال الطقس. حاولتُ العثور على حلول بديلة، هاتفت شركة الخطوط الجوية من دون أن أحصل على أي دعم منها. انتابتني موجة من الخوف والقلق. صرتُ أبحث عن أسرع طريقة أصل بها دمشق. عثرت على هذه الرحلة الواصلة إلى عمان.
الآن بدأت رحلتي نحو دمشق. أحمل معي جهازًا لوحيًا عليه مجموعة من الكتب والأفلام. سأقضي الوقت في القراءة ومشاهدة الأفلام حتى أصل وجهتي النهائية.
أقول بدأت رحلتي ولا أعرف إن كانت تسمية «رحلة» صحيحة، ربما يجب أن تكون ملحقة بكلمة «العودة». ربما أقول: «الآن بدأت رحلة عودتي إلى دمشق، إلى البيت». أعود إلى بيتي وإلى جذوري، إلى حيث وُلدت وترعرعت. لا أريد أن أكون سائحًا يعيش في أوروبا يأتي إلى بلادنا ليتفرَّج على الناس والأماكن ومن ثم يعود إلى بيته الدافئ، أريدُ أن أكون شخصًا عاديًا غاب عن بيت طفولته لسنوات، وها هو يعود مثقلًا بجبل من الأحزان.
أعود إلى مكاني الأصلي، لكن عندي مكان/ بيت في برلين أيضًا. لديَّ بيتان، وما المانع في هذا؟! لماذا يجب أن أختار حياة على أخرى وهوية على أخرى. أليس كل هذا أنا؟
وصلتُ إلى مطار اسطنبول مُتعبًا. أجلس في أحد مقاهي المطار وأشربُ كأسًا من النبيذ. أشعر بألم رهيب في رأسي رغم برشامتين أخذتهما. هذا حالي مع الطيران. كلما سافرت بالطائرة، وكنتُ في السابق أسافر أكثر من الآن، أصاب بنوبة وجع رأس شديدة عند الهبوط، ربما بسبب اختلاف الضغط الجوي بين السماء والأرض.
أنتظرُ طائرتي الثانية، وأفكر في الشام، أقل من اثني عشر ساعة وسأكون هناك. صديقتي التي تعيش في برلين وسبقتني إلى دمشق تُرسل لي رسائل نصية طوال الوقت وتسألني عن مستجدات الطريق. أخي الذي يعيش في باريس وصل قبلي إلى دمشق، رغم أن الخطة الأصلية كانت أن أسبقه. التقى في دمشق صدفة بحبيبتي السابقة، والتي كانت قد سبقتنا جميعًا في الذهاب إلى مدينتنا الأم.
وصلت إلى عمَّان. لم أكن أعرف أنني بحاجة إلى تأشيرة دخول، ظننتُ أن المواطن الألماني يدخل هكذا. دفعت أربعين دينارًا ثمنًا لتأشيرة الدخول. كان الموظفون ودودين للغاية. سألني أحدهم عن وجهتي النهائية. قلتُ، وللمرة الأولى من دون خوف: «إلى الشام».
خارج بوابة الواصلين كان ينتظرني أبو عبد الله، وهو سائقٌ أوصل أخي أمس، وقد اتفق معه أخي على أن يستقبلني في المطار بعد تغيير خططي في اللحظة الأخيرة. أبو عبد الله من ألطف الأشخاص. كان وجوده ضروريًا للحد من تضارب مشاعري. سألني عما أريد فعله في تلك اللحظة. أجبته برغبتي في جولة في عمَّان، التي لديَّ بعض الذكريات الحلوة فيها.
تجولنا بالسيارة قليلًا. أكلنا شاورما من عند مطعم الريم، وهو من أشهر محال بيع الشاورما في الأردن. ثم أكلنا فولًا وفلافل وحمصًا عند مطعم هاشم الشهير. وقبل بزوغ الشمس توجهنا نحو الحدود.
وصلنا قبل السادسة صباحًا بقليل. أبو عبد الله يذهب لشراء القهوة. وأنا أجلس في السيارة مراقبًا البوابة الحدودية. عشرات السيارات والشاحنات تنتظر فتح المعبر. بعض هذه السيارات تحوي كل أفراد العائلة، وفوق سقفها وُضعت فرش وعربات أطفال وطاولات وخزائن… وضعوا ما استطاعوا نقله من أثاث المنزل. الناس يعودون إلى بيوتهم. هذا هو شكل العودة إذن.
أخبرتُ أبو عبد الله قبل قليل بأن أحد أسباب عودتي هو زيارة قبر أخي الصغير الذي مات في العام ٢٠٠٥، كنتُ أظن أنني لن أرى قبره مرة ثانية، لكن ها أنذا. قلتُ له إنني أريدُ رؤية بيتنا لمرة أخرى، وأن أبحث عن صديقي رامي الذي أختفى في معتقلات نظام الأسد منذ العام ٢٠١٣.
أنظر إلى البوابة الحدودية وأقرأ: «المملكة الأردنية الهاشمية تستودعكم السلامة – مديرية حدود جابر». لا أستطيع التصديق بأنني على بعد ساعات قليلة عن دمشق. من كان يظن ذلك؟
عند مركز الحدود الأردني بعد بضعة أسئلة عن الكاميرا التي أحملها وعن عملي الصحفي، ختم لي الموظف الأردني جواز سفري الألماني وتمنى لي السلامة. ودَّعني أبو عبد الله، على أن ألقى سائقًا آخر يوصلني إلى دمشق على الطرف الآخر من الحدود. لم يُسمح للسيارات الأردنية بدخول سوريا، ولا للسيارات السورية بدخول الأردن.
بين النقطة الحدودية السورية والنقطة الحدودية الأردنية توجد حافلة تنقل المسافرين بين الطرفين، حافلة توفرها السلطات السورية الجديدة. صعدت إلى الحافلة قائلًا السلام عليكم. ردَّ عليَّ بعض الشبان السلام. اتخذت مكاني واضعًا حقيبتي جانبي. انتظرنا حتى امتلأت الحافلة بالمسافرين والمسافرات.
صعد إلينا أحد موظفي الإدارة السورية الجديدة. قال: «صباح الخير والحمدلله عالسلامة. أهلًا وسهلًا فيكم ببلدكم. الجوازات على الطرف التاني». دمعت عيناي. ردَّدت هذه الحكاية لكلّ من قابلتهم، أقول لهم: «طوال حياتي في سوريا الأسد لم يقل لي موظفٌ حكومي «صباح الخير»»، ثم أكملُ مازحًا: «لو قال لي أحدهم صباح الخير لما خرجتُ في ثورة».
وصلنا إلى النقطة الحدودية. تعرَّفت على سائقي، وذهبت إلى المكتب كي أختم جواز سفري. أعطيت الموظف جواز سفري الألماني وهويتي السورية. طبع اسمي على حاسب أمامه. ثم ابتسم وقال: «شكلك كنت خارب البلد». ابتسمت، وأنا أضع يدي فوق ساقي التي ترتجف. سألته وأنا أحاول أن أظهر الثقة في صوتي: «هل يظهر لك إن كنتُ مطلوبًا عند النظام الساقط؟». ردّ بالإيجاب وقال إنّ كمبيوتراتهم ما زالت تستعمل النظام القديم. قال إنّ هناك ثلاث «فِيَش» عند اسمي. سألته عن الفروع التي تطلبني، فقال إنّ الفيش الأول يقول مطلوب للأمن السياسي والثاني للأمن العسكري بسبب تخلّف عن الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، والثالثة هي «جرم غير محدود».
«جرم غير محدود؟ ماذا يعني هذا؟» سألته. ضحك وقال: «لا أعرف». طلبتُ منه تصوير الشاشة فقال إنه لا يستطيع فالأوامر تمنع ذلك لأنهم سيمحون كل شيء. هناك شابان يقفان بجانبي. قال لي أحدهما: «شكلهم ما كانوا بيحبوك». قاصدًا نظام الأسد. أجبتهم بأنّهم لم يحبوا إلا أنفسهم.
ختم لي الموظف جواز سفري وأعطاني إياه قائلًا: «الحمدلله على سلامتك وأهلًا وسهلًا فيك ببلدك». خرجت وفي قلبي هوة تسع الكون. ركبت سيارة الأجرة وانطلقنا نحو دمشق.
في الطريق تلال جرداء وأكوام من النفايات وأكياس بلاستيك المتطايرة. دمعت عيناي وقلت للسائق: «ما أحلاها بلادنا». نظر إلي ساخرًا، ثم قال: «شو الحلو اللي فيها يا رجل، كلها زبالة». ضحكت. صار يحكي لي عن حياته خلال سنوات ما بعد ٢٠١١ واعتقاله لمرتين، وعن عمله في أشياء مختلفة، وعن عائلته، وعن أماكن حواجز النظام على الطريق بين درعا ودمشق والفروقات بين هذه الحواجز وتبعيته.
وصلنا إلى مدخل دمشق، وسقط قلبي من مكانه…
