السينما العربية تنتج أعمالًا دستوبية بعد الثورة

6 فبراير، 2023


 

يُعرض فيلم "أشكال" (2022) للمخرج يوسف الشابي في دور السينما الأوروبية هذه الأيام، أقترح أن أصنف الفيلم كجزء من السينما التونسية الدستوبية التي أنتجت بعد الثورة. في الواقع، ليس هذا الفيلم فريدًا من نوعه، بل يندمج مع موجة من الأفلام الدستوبية أو شبه الدستوبية من إخراج الشابي واثنين من زملائه من نفس الجيل والمتعاونين معه: إسماعيل وعلاء الدين سليم. وعلى الرغم من حقيقة أن "أشكال" يستفيد من العناصر المعروفة لسينما النوع، أي الجثث، ورجال الشرطة الجيدين والسيئين، والتشويق، والإضاءة الغريبة، فقد يسبب الفيلم خيبة أمل لشخص يتوقع الإثارة المصاحبة لفيلم بوليسي أو فيلم إثارة. ما تجده بدلًا من ذلك هو استبطان اجتماعي وسياسي كثيف قاتم إلى حد ما، يستكشف صدمة وطنية، وصدمة دولة شمولية لها آذانها وعيونها في كل مكان، وصدمة جيل محبط خرج للاحتجاج لكنه لم يكسب حتى الآن سوى القليل لمستقبل بلده.

قد يبدو هذا مفاجئًا بالنظر إلى حقيقة أن تونس حظيت بالثناء لكونها الدولة العربية الوحيدة التي يمكنها تحقيق انتقال "ديمقراطي" من دون التعرض لحرب أهلية أو رد فعل شمولي فوري. مع ذلك، عزز الاستقطاب السياسي بين الليبراليين والإسلاميين التطرف. وظل الفساد وسوء الإدارة يعززان عدم المساواة الاجتماعية والجنسية. لا عجب أن أفلام السينما التونسية المعروضة أخيرًا لم تتوقف عن توجيه أصابع الاتهام إلى كل هذه القضايا، بل جمعت بينها في بعض الأحيان، مع التركيز بشكل خاص على ضعف المرأة في ضوء التحالف الفعال بين الهياكل الأسرية الأبوية وأجهزة الشرطة المسيئة التي يهيمن عليها الرجال. كما هو موضح في أفلام المخرجات الإناث، في فيلم "الجميلة والكلاب" لكوثر بن هنية (2017) وفيلم "نورة تحلم" لهند بوجمعة (2019). في حين تظهر بطلاتهن علامات المقاومة والاعتراض، فإن الأفلام الدستوبية مثل "أشكال" لا تفعل ذلك.

يبدو أبطال "أشكال" أيضًا صامتين ومنعزلين بشكل غريب، مثل الموتى الأحياء تقريبًا. تدور حبكة الفيلم حول التحقيق في عدد متزايد من المشتبه بهم، ولكن غير المسجلين، الذين يحرقون أنفسهم. بالطبع، ما زلنا نتذكر أن البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في 17 ديسمبر 2010 وهو ما تسبب في سلسلة من عمليات الانتحار في بلدان أخرى، ولكن أيضًا أشعل الاحتجاجات الضخمة، الثورة العربية أو ما يسمى الربيع العربي، أولًا في تونس ثم في أماكن أخرى مما أدى إلى تغييرات حاسمة في المشهد السياسي في المنطقة. يستحضر "أشكال" بشكل طبيعي هذه الخلفية السياسية الدراماتيكية للغاية.

مع ذلك، يبتعد الفيلم عن قواعد النوع في عدم تقديم قرار واضح أو في تجسيد دوافع الشخصيات أو المشاركة العاطفية بطريقة متعاطفة علنًا. بدلًا من ذلك، تظل شخصيات الفيلم الرئيسية غامضة إلى حد ما، مثل ما يتبقى من حلم سيء. فتظهر فاطمة (فاطمة العصيفي)، وهي محققة شابة وصديقها، بطل (محمد حسين جرايا)، وهو أب وشرطي لطيف ولكنه مضطرب، كشخصيات هادئة ومغلقة. حتى عندما يقومان بفعل أي شيء، فإنهما يظلان مراقبين أكثر من كونهم سببًا في التغيير. وهذا بدوره يجعل موضوع ملاحظتهم، أي موضع التحقيق، على الأقل بارزًا مثلهما في مسار القصة، على سبيل المثال: موقع بناء شاسع غير مكتمل، حدائق قرطاج، التي كانت ذات يوم إحدى تحف نظام بن علي، ولكن تم إهمالها بعد الإطاحة به في العام 2011، تاركة وراءها مكانًا واسعًا مكونًا من الأنقاض الخرسانية.

هنا يتم العثور على جثة حارس ليلي محترقة. وسرعان ما يتم اكتشاف جثة خادمة شابة، ثم بعد بضعة أيام تلتهم النار جثة شرطي. مثل الآخرين، تكشف رفاته عن استسلام سلمي وطوعي، بوجود ملابسه مطوية بشكل منظم بالإضافة إلى حذائه. بينما تبدأ فاطمة وبطل التحقيق، يجدان نفسيهما تحت الضغط من قبل جهات مختلفة: فاطمة، وهي شخصية غير مرغوب فيها، تتعرض للإهانة من قبل زملائها بسبب تورط والدها في لجنة الحقيقة التي تحقق في جرائم الشرطة أثناء الديكتاتورية، بينما يلعب بطل لعبة خطيرة في الإدلاء بمعلومات داخلية سرًا لممثلي النظام الجديد. في الوقت نفسه، تصبح أسباب ارتفاع عدد الضحايا غامضة أكثر فأكثر، ويبدو أنها تتخذ أبعادًا خارقة للطبيعة.

مع هذا، بعد عرضه الأول في كان، كان رد فعل النقاد على الفيلم هو عدم الرضا: " إن وجود أكثر قليلًا ما يمكن الاهتمام به كان ليجعل أي رسالة يريد الفيلم إرسالها أكثر قوة، لكن الفيلم تركنا في حيرة بمجرد أن تبدأ أسماء المشتركين فيه بالظهور"، هذا ما قاله مارك فان دي كلاشورست من جمعية سينيفيليا الدولية. مع ذلك، ربما لم يلاحظوا، مثل النار متغيرة الشكل، ما يعنيه عنوان الفيلم "أشكال" باللغة العربية، يتلاعب الفيلم أيضًا بالشكل، الأشكال السردية، أو دعنا نقول، الأصفار السردية، واللبنات المعمارية، وأخيرًا وليس آخرًا، التفسيرات المحتملة. ما ينتجه الفيلم بنجاح هو التأثير القوي للخوف الخلائي الناتج من أن يصبح المرء غريبًا في وطنه أو أرضه. في أحد المشاهد، عندما يضع بطل ابنته في الفراش، يلتفت إلى النافذة فقط ليجد ما قد يراه محجوبًا بجدار من الطوب لمبنى مجاور. لم يبق له أي شيء آخر ينظر إليه باستثناء انعكاسه في زجاج النافذة. يغلق الستارة فجأة ليغلق بصره.

كما أن اللقطات اللانهائية عبر "حديقة" بن علي الأسمنتية، مثل التمشيات اللانهائية للشخصيات عبر أطلالها الخرسانية، تنتج تأثيرًا مشابهًا لمسرحية سارتر "خلف الأبواب المغلقة". لوحة ألوان الفيلم بدورها مقيدة للغاية. في النهار، نادرًا ما تتجاوز الألوانُ درجات الرمادي والأخضر - وهو أمر مذهل للغاية بالنسبة لبلد متوسطي - وبالتالي، نجد أنفسنا محصورين في مكان خانق حقًا للحياة والبهجة. هذا الانشغال بمكان بالكاد صالح للسكن هو في رأيي أكثر ما يوجِّه مخزون أفلام دستوبيا ما بعد الثورة. وإذا كان لي أن أستخلص منه رسالة، فسأقول: في حين أن شبح موت البوعزيزي العنيف لم يتوقف عن التحليق فوق رؤوس الناس، فقد أثبت الانتقال الديمقراطي أنه طريق وعر، يقامر لاعبوه بالحد الأدنى من الفرص التي أتيحت لهم لخلق شيء جديد.

ربما لا تزال تتساءل عما أعنيه بالضبط بالدستوبيا في هذا السياق. تعتبر العلوم الاجتماعية اليوتوبيا / ديستوبيا اتجاهًا تأمليًا في الأدب (وبالتالي أيضًا في السينما). ومع ذلك، فإن تخيلها للمستقبل القريب أو البعيد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحاضر. في كثير من الأحيان تتم قراءة الدستوبيا ببساطة على أنها مناهضة لليوتوبيا، أي مستقبل مظلم بدلًا من مستقبل مشرق، أو كوصف لمكان سيء وليس ووصفًا لمكان جيد. ومع ذلك، كما لاحظ توم مويلان، فإن النصوص الدستوبية الناقدة: "تظل عالقة في أهوال الحاضر حتى وهي تجسد ما هو مطلوب لتغييره". حالة من الرعب العالق - أو قد نقول الصدمة - تظهر بالفعل في فيلم "أشكال" للشابي ولكن تظهر أيضًا في فيلمه السابق "ما تسمع كان الريح" (2021)، الذي شارك في إخراجه مع إسماعيل. تم الإعلان عن هذا الفيلم على أنه "فيلم نوار" ليس فقط بسبب تصويره المقبض بالأبيض والأسود ولكن أيضًا بسبب قصته عن امرأة شابة لا تكاد تُلاحظ، تتظاهر بأنها لا تتحدث، ولكنها تتحول في الليل إلى قاتلة للرجال بغرض الانتقام.

هنا أيضًا، يخجل المخرجان من المشاركة العاطفية العلنية بالنسبة إلى شخصياتهما، ويبدو أنهما يحافظان على مسافة بينهما وبين الشخصيات كمراقبين غير مشاركين، وهي خاصية يمكننا تتبعها في فيلم تم إنتاجه في ذروة الثورة. مدينة من العدم. وجوه في أرض معادية، كلمات غير متوافقة مع بعضها البعض، أشجار يمكنها أن ترى، حياة وموت بابل، هكذا اختار المخرجون الثلاثة إسماعيل ويوسف الشابي وعلاء الدين سليم تقديم فيلمهم بعد الانتفاضة التونسية. تم إنتاج "بابل" (2012) ضمن مشروعهم المشترك آنذاك Exit Productions، ويمكن أن نعده فيلمًا وثائقيًا "سينمائيًا مباشرًا" غير جارح بقوة.

في أعقاب تفكك نظام معمر القذافي، لاحظ الثلاثة في "بابل" وصول أول العمال اللاجئين من ليبيا إلى مخيم مؤقت أقيم في وسط الصحراء القاحلة على الجانب التونسي من الحدود. والتقطوا بدقة توسع المخيم خلال العام 2011، وتحول سكانه وازدياد عددهم، ينحدر هؤلاء السكان من أركان العالم الأربعة: بنغلاديش وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط وأماكن أخرى، يستقرون فيه حتى يتم تفكيكه في نهاية المطاف بعد بضعة أشهر. كما يوثق إسماعيل والشابي وسليم ديناميكيات المشروع الإنساني ولوجستياته الصعبة: تحديات التنسيق بين المنظمات غير الحكومية والمشرفين التونسيين والدوليين والمسؤولين والمقيمين، والمحاولات المشتركة للتعامل مع الظروف الصعبة للغاية التي يمليها الجو العام، والوضع المشحون سياسيًا على جانبي الحدود، والتدفق المستمر لموجات جديدة من اللاجئين.

ومع بطء استجابة بعض الدول في تنظيم العودة إليها، فإن الصعوبات التي يواجهها اللاجئون في العثور على شخص قادر على الاستماع إلى مخاوفهم تنعكس أيضًا على المستوى اللغوي. والأمر الأكثر دلالة هو أن الفيلم يمتنع عن ترجمة مختلف اللغات التي المسموعة من خلاله. الغموض اللغوي الناتج يضعك تحت تأثير البلبلة الحاصلة في المخيم. أرى أن هذا القرار الجمالي الراديكالي، لأنه يتجنب بشكل منهجي استخدام الشهادات الشفهية لنقل المظالم والصراعات، أرى أنه تقريبًا علامة مشتركة بين كل الأفلام المشتركة والفردية للمخرجين الثلاثة. في أعمالهم السابقة واللاحقة، يشتركون في تفضيل الأبطال الصامتين، أو دعنا نقول، الأبطال المجبورين على الصمت، أول تلك الأفلام فيلم علاء الدين سليم القصير "الملعب" (2010) الذي تم إنتاجه في الفترة التي كانت فيها ديكتاتورية بن علي لا تزال قائمة، ويصور رجلًا وحيدًا يتجول خلال ليلة مباراة كرة قدم حاسمة خلال مشاهد مدينة مهجورة ومخيفة. هنا، تمامًا كما هو الحال في "أشكال"، أصبحت المساحة المألوفة للمدينة الحديثة غير مألوفة ومعادية وغريبة.

علاوة على ذلك، احتفظت أفلام سليم الروائية بعد الثورة بنفس التفضيل للصمت والشخصيات الصامتة. الشخصية الرئيسية في "آخر واحد فينا" (2016)، رجل أفريقي هارب، لا ينطق بكلمة واحدة طوال الفيلم بأكمله: خلال رحلته الطويلة، وعبوره الصحراء والمدينة، حتى يتراجع في النهاية إلى الطبيعة ليعيش هناك على ما يصطاده وحيث، في النهاية، في صورة رمزية تمامًا، ببساطة يتلاشى جسده العاري في وسط شلال مائي، ولا يتبقى شوئ سوى المياه الجارية.

هذا المشهد الأخير من "آخر واحد فينا" يبدو بالنسبة لي وطأنه أمنية عودة طوباوية إلى أصول الإنسان كجزء لا يتجزأ من الطبيعة، وليس كسيد الكون. بعد ثلاث سنوات، في فيلمه "طلامس" (2019)، استخدم سليم مرة أخرى مجازًا مشابهًا، وهو الهرب من التجنيد الإجباري في الغابة. هذه المرة يجد البطل الصامت رفيقة أنثى، على نحو غير متوقع يحاول بالمشاركة معها التعرف على البرية. هذا لا يعني أن سليم يصور تلك المساحة على أنها جنة، هنا أيضًا، نواجه نفس لوحة الألوان القليلة والشخصيات الصامتة. وبالتالي، فإن رؤى سليم الخاصة بـ"العودة إلى الطبيعة" لا تُرى على أنها نفي، بل أطروحة مضادة مجانية لمنظر مدينة الشابي الدستوبية غير الصالحة للسكن، وهو الفضاء الذي يظهر فيه الصمت بشكل بارز. أنا أتكهن هنا، ولكن هذا الأخير قد يحمل كل علامات الصمت الصادم: "الصمت في هذا السياق هو تكرار لتجربة الانفصال وكذلك مظهر من مظاهر إسكات الهوية مع سبب الإسكات الأصلي"، تقول المحللة النفسية ماريا ريتر. بهذا تشير دستوبيا سليم وإسماعيل والشابي في نفس الوقت إلى الماضي والمستقبل، وشخصياتهم تنتمي ولا تنتمي إلى جاهز الشرطة المسيئ.

 

يوسف الشابي مخرج وكاتب سيناريو، وُلد في تونس العام 1984. بعد دراسة الفن والسينما أخرج فيلمين قصيرين: Vers le Nord و Les Profondeurs. ثم شارك في إخراج الفيلم الوثائقي الطويل "بابل" (2012)، الذي يحكي قصة الحياة والموت في مخيم للاجئين على الحدود التونسية الليبية. حصل الفيلم على الجائزة الكبرى في المسابقة الدولية في FID في مرسيليا وتم عرضه في متحف الفن الحديث في نيويورك. الشابي أيضًا موسيقي ويعمل منتجًا لحساب شركة Bookmaker Records. وهو المؤسس المشارك لـSailing Stones Festival، وهو مهرجان موسيقي يُقام كل عام في منطقة مختلفة من تونس. عُرض فيلمه الطويل الأخير "أشكال" ضمن برنامج Quinzaine des Réalisateurs في مهرجان كان السينمائي للعام 2022، وحصل على ثلاث جوائز في CINEMED للعام 2022 في مونبلييه.

فيولا شفيق هي صانعة أفلام وقيمة فنية وباحثة سينمائية. كتبت العديد من الكتب عن السينما العربية، مثل السينما العربية: التاريخ والهوية الثقافية، 1998/2016 (دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة) والمقاومة والانشقاق والثورة: جماليات الأفلام الوثائقية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (روتليدج 2023). ألقت محاضرات في جامعات مختلفة، وشغلت منصب رئيس قسم الدراسات في برنامج الحرم الجامعي للأفلام الوثائقية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2011-2013، وعملت كقيمة ومستشارة للعديد من المهرجانات الدولية وصناديق الأفلام، مثل بينالي فينيسيا، وبرلينالي، وسوق دبي السينمائي، ومختبر راوي لكتاب السيناريو، ومختبر تورينو السينمائي، وصندوق السينما العالمي. تشمل أعمالها الإخراجية "شجرة الليمون" (1993)، و"زراعة البنات" (1999)، و"اسمي ليس علي" (2011)، و"أريج – رائحة الثورة" (2014).  تعمل الآن على كل من الأعمال التالية Home Movie on Location و Der Gott in Stücken. كانت فيولا شفيق المحررة الضيفة لعدد برلين من مجلة المركز في عام 2022.

 

السينما العربية السينماالبائسةمحمد البوعزيزيالسينما التونسيةيوسف الشابي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *