قصيدة إلى الخرطوم - مدينة مزقتها الحرب الأهلية

23 أكتوبر، 2023
اندلعت وهدأت الحرب الأهلية السودانية الأولى بشكل متكرر بين عامي 1955 و1972. ثم اندلعت حرب أهلية ثانية في العام 1983 واستمرت حتى العام 2005. الآن، وفي أعقاب اشتباكات النيل الأزرق العام الماضي، اشتعلت حرب جديدة في أبريل، بين القوات المسلحة السودانية والمجموعة شبه العسكرية، قوات الدعم السريع، ومنذ ذلك الحين انضمت فصائل أخرى إلى القتال. في الوقت نفسه، يغادر السودانيون العاديون، بينما يعود آخرون لمحاولة إنقاذ البلاد.

 

داليا عبد المنعم

 

تعمل الخرطوم وتتحرك بالسرعة التي تناسبها. هي مدينة مترامية الأطراف تتكون من أم درمان وبحري والخرطوم القديمة. كل جزء من الثلاثة له خصائصه الفريدة، منفصلة لكن مترابطة عند مواضع معينة بسكانها والامتداد الطويل الأفعواني لنهر النيل. أم درمان هي العاصمة الأصلية، والخرطوم هي العاصمة الجديدة التي توسعت ببناء أحياء جديدة. للوصول إلى أم درمان أو بحري أو الخرطوم علينا عبور الجسور، يُنظر إلى كل منها على أنها مدينة خاصة به داخل المدينة.

مدينتي دافئة ومرحبة ولكنها أنانية وقاسية، وعندما تصل درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية بلا ظل، يمكنها أن تكون غير رحيمة. يساء فهمها تمامًا، غير معروفة بالنسبة إلى العالم الخارجي، إذا قمت بإزالة الطبقات، ستجد الكثير من العمق وستظهر المدينة جواهر مخفية. لقد اندفعنا إليها نحن السودانيون جميعًا، نسعى ونبني بيوتًا بين طرقاتها المحطمة، وبنيتها التحتية المتهالكة، ومزاجها الذي لا يرحم. لقد رحبت بالملايين من خلفيات لا تعد ولا تحصى، أولئك الذين يبحثون عن ملجأ وحياة أفضل.

لم تكن جنة، لكنها كانت موطنًا: بوتقة ينصهر فيها أناس ينتمون إلى خلفيات متنوعة: أفارقة، وعرب، ومسلمين، وأقباط، ومسيحيين. مكان يضم عشرات اللهجات واللغات، ولكننا جميعًا نتحدث مجازيًا بلسان واحد. في الخرطوم، تم الاحتفال بعيد الميلاد والمولد النبوي بحماسة، ودقت أجراس الكنائس وارتفع صوت الأذان مناديًا للصلاة. كانت المدينة مدينة احتفالات من ديسمبر وحتى أواخر يناير، مع حفلات الزفاف والمناسبات والاحتفالات الدينية. إذا لم تكن هناك، فقد فاتك الكثير.

إن تحدثت مع أي سوداني تقريبًا فسوف يستشهد بذكريات جميلة عن هذه المدينة، التي أصبحت الآن ساحة حرب لجنرالين ورجالهم الفرحين.

لكل حي في الخرطوم قصة.

كانت محطة البشدار هي المكان الذي نتجمع فيه جميعًا، في الساعة الواحدة ظهرًا بالضبط، تبدأ المظاهرة في التوجه نحو القصر الرئاسي. ود نوباوي في أم درمان هو المكان الذي طاردنا فيه أفراد الأمن الذين أطلقوا الغاز المسيل للدموع على مظاهرتنا في العام 2018. كانت بري نقطة دخولنا إلى اعتصام القيادة العامة في العام 2019. وكان شارع المطار هو المكان الذي احتفل الكثير منا فيه بسقوط الدكتاتورية في العام 2019.

كان تناول الشاي عند غروب الشمس في المقرن أمرًا ضروريًا. كما أمكن مشاهدة التقاء النيلين الأزرق والأبيض. يُعرف هذا المنعطف الدقيق الذي تلتقي فيه المسطحات المائية ذات الألوان المختلفة باسم  " أطول قبلة" ، حيث تظهر جزيرة توتي في الخلفية، والحلم المعماري المتمثل في مسجد النيلين في المقدمة. لفترة قصيرة من الزمن، يغمرك شعور بالأمان والصفاء، وهما شعوران كان من الصعب جدًا الإحساس بهما.

في معظم الليالي، يمتلئ الجو بأصوات حفلات الزفاف، مغني يؤدي الأغاني السودانية القديمة والجديدة، مع زغاريد عالية وواضحة. أدى انقطاع التيار الكهربائي المستمر إلى نقل الصوت بشكل أكثر وضوحًا، على الرغم من أن المولدات تسببت في بعض الأحيان في مزيد من الضجة. المقاهي، من المقاهي الراقية التي تقدم المعجنات الفاخرة إلى تلك التي تطورت من كشك شاي تملكه سيدة ما، حيث يتم تقديم كل شيء من الشاي الحلو والهيل والقهوة بنكهة الزنجبيل إلى اللقيمات المقلية الطازجة المرشوشة بسكر البودرة، من شروق الشمس حتى وقت متأخر من الليل. ليلًا، حين اعتدنا أن نلتقي، تحدثنا، خططنا، ضحكنا، وتحسرنا على حال بلدنا. كانت المحادثات تنطلق بحرية، وفي معظم الأوقات كنت تلتقي بشخص تعرفه أو تقيم علاقات واتصالات بأشخاص جدد.

بائعة تبيع المكسرات، الخرطوم.
بائعة تبيع المكسرات، الخرطوم (بإذن من داليا عبد المنعم).

لقد تناولت أفضل لحم مشوي في حياتي في  قندهار ، وهو سوق للماشية يقع خارج حدود المدينة. وعندما سألت عن سبب تسميته بهذا الاسم، سُئلت أين تقع قندهار. أجبت: "أفغانستان". "بالضبط، قندهار بعيدة جدًا عن الخرطوم، ومثلها هذا المكان". تم رش الأرض بالماء لتصير أكثر برودة. تم تجهيز الأسرة والمقاعد في كل مكان استعدادًا لغيبوبة ما بعد الطعام، كان اللحم مشويًا ببطء بينما كانت بطوننا تقرقر مطالبة بالطعام. كان كبد الإبل متبلًا بالليمون والفلفل الحار والملح والفلفل، يقدم كمقبلات لذيذة. تم تقديم اللحم البقري المشوي مع الخبز البلدي الطازج، وسلطة خضراء، وكبد كلى الغنم المقلية في صلصة الثوم، وسلطة الدكوة (بزبدة الفول السوداني) الشهيرة، والشطة حارة للغاية إلى درجة أنها تكاد تكون غير صالحة للأكل. إنه المكان الذي خططنا فيه لتحركاتنا التالية لإحداث التغيير في بلدنا. الطعام والمحادثات أفضل مزيج، هنا تدفقت الأفكار.

كانت أسواق أم درمان، والمركزي، والشعبي، وسعد قشرة هي الأماكن التي تجد فيها كل ما يمكن أن يخطر ببالك، بدءًا من البضائع الطازجة وحتى الأدوات المنزلية والحلي والأقمشة والأزياء والإكسسوارات. كان سوق أم درمان على وجه الخصوص شيئًا خاصًا وفريدًا من نوعه، فهو أقدم وأكبر سوق. هناك ستجد أفضل أنواع التوابل، رائحتها النفاذة تصيبك بنوبة عطس بينما يسخر منك أصحاب المتاجر وهم يضحكون لكونك "حساسًا" للغاية. كانت الأزقة مليئة بالمتاجر التي تبيع الحلي السودانية، من التماثيل المصنوعة من خشب الأبنوس والسجاد الآتي من قبيلة الرشايدة في شرق السودان إلى سلال القش والأدوات المنزلية القديمة التي كان يمتلكها كل منزل سوداني في وقت ما، أوعية فولاذية مطلية بزخارف نجمية، وصحون، وجبنة القهوة والفناجين، القماش المنسوج المستخدمة لتغطية صينية الطعام. في كل مرة ذهبت فيها إلى هناك، كنت أكتشف متجرًا جديدًا، وزقاقًا جديدًا مليئًا بالأشياء الجيدة، لم يغادر أحد سوق أم درمان خالي الوفاض أبدًا. لكن سوق أم درمان لم يعد موجودًا. تم إحراقه ونهبه خلال الحرب المستمرة.

في تلك الأيام الواعدة، عندما كان الهواء مكهربًا بسبب التغيير، كانت هوايتي المفضلة هي الذهاب في رحلة فنية. لقد حقق المشهد الفني في السودان قفزة هائلة في السنوات العشر التي تلت عودتي إلى الوطن في العام 2013. وبينما كان هناك في السابق عدد قليل من الأسماء الراسخة، أصبح هناك الآن جيل أصغر سنًا وأكثر جوعًا، أجرؤ على القول أنه أكثر تعبيرًا. فنانون ظهروا وصنعوا أسماءً لأنفسهم. أعتقد أن القمع يبرز الإبداع عند الناس. باستخدام أشكال مختلفة، من اللوحات والتصميم الجرافيكي إلى الموضة والموسيقى والأفلام، كان المبدعون السودانيون يجدون طرقًا جديدة لسرد قصصهم. تم تنظيم عروض لأفلام وأفلام وثائقية سودانية، وأقيمت معارض لعرض الأفضل والقادم في عالم الفن والنحت والتصميم. مزج مصممو المجوهرات بين التقليدي والمعاصر. امتلأت موجات الراديو بأصوات موجة جديدة من الموسيقيين الذين مزجوا الكلاسيكيات مع مقطوعاتهم الأصلية، ونسجوا بسلاسة على نغمات الإقاعات الأفريقية بالإضافة إلى موسيقى الهيب هوب باللغتين العربية والإنجليزية.

من استطاع منا أخذ كل ما يمكنه أن يأخذ. لقد اشترينا هذا الجنون الإبداعي الجديد. كنا نستثمر في الحاضر والمستقبل، في إخواننا السودانيين الذين تجرأوا على الحلم، والذين رووا قصصنا بأفضل طريقة ممكنة.

اليوم، أولئك منا الذين ما زالوا في وطنهم، والذين لم يتمكنوا من المغادرة، لا يمكنهم الاستمرار باقيين لفترة أطول. لقد كانت المجموعات واللجان التي يقودها المدنيون تتدخل دائمًا عند الحاجة، والآن، عندما انهارت هياكل الدولة في العاصمة تمامًا، يقومون بمهمات لا يستطيع الكثيرون فهمها في أصعب الظروف. لقد أنشأوا مطابخ عامة، وووفروا الملاذ لأولئك الذين هربوا من الحرب المستعرة، وعملوا كنظام رعاية طبية، وساعدوا في دفن الموتى عندما لم تتمكن أسرهم من ذلك. إن هؤلاء الشباب السودانيين هم منارة الأمل لدينا، ونحن جميعًا مدينون لهم إلى الأبد. لكن الخرطوم المتعبة والمرهقة لا يمكنها تقديم الكثير، لقد أعطتنا الكثير، لكنها أخذت منا الكثير أيضًا.

ومع ذلك، يجب أن نبدأ من جديد. في الماضي، حاول الكثير منا لكننا لم نتمكن من مغادرة الخرطوم بشكل دائم، لقد هرعنا دائمًا عائدين إليها. لقد عدنا بالخطط والأفكار، مع الإيمان بأننا سنجعل الأمر أفضل هذه المرة. وقد فعلنا ذلك لفترة قصيرة. حسنًا، سيتعين علينا أن نكرر الأمر مرة أخرى: إعادة البناء، وإعادة التخطيط، وإعادة الحياة. متى؟ لا أحد يعرف. ولكني آمل أن يحدث ذلك قريبًا. أفتقد الخرطوم بلدي، خرطومنا.

 

داليا عبد المنعم كاتبة ومعلقة عادت إلى السودان في العام 2013 وأسست مخبزًا. سمحت لها اهتماماتها وخلفيتها في الديناميات الاجتماعية والسياسية للسودان والمنطقة بالعمل والظهور كمحللة سياسية لمجموعة واسعة من وسائل الإعلام على الصعيدين الإقليمي والدولي.

حربأهلية الخرطوم النيلالسودان

1 تعليق

  1. شكرا لك داليا. هذا حركني بعمق. كنا محظوظين بمعرفة ونمو الخرطوم التي وفرت لنا فرصا وقيما عظيمة ، وهوية سودانية سنحملها معنا أينما ذهبنا. يجب أن نتمسك بذلك ، ونواصل رحلتنا من خلال تنوير أنفسنا والآخرين. أنت تنجح في القيام بذلك ، على الرغم من كل ما فقدته. من الواضح أنك وستكسب الكثير إن شاء الله.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *