"أسباب جديدة" – قصة قصيرة لسميرة عزام

قصة قصية لسميرة عزام، رائدة القصص القصيرة الفلسطينية، تفرض أحدث التقنيات عبئًا على الناس.

 

سميرة عزام

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية رانية عبد الرحمن

الخبر لا يعدو أن يكون خبرًا في صحيفة، تشده إلى تلك الزاوية من عمود "المحليات" حروف صارمة تصف بشكل خاص لتشكل خبرًا خاصًا، ثم تنتثر لتجتمع مرة أخرى في خبر آخر مختلف. الحروف نفسها، واليد المنضدة واحدة، والخبر القابع حيث شاء له المنضد، لم يستطع أن ينتفض ليثبت أنه أحفل بالمأساة من قصة الدولارات المزيفة أو من إعلان تفليسة فلان، وحين مرت عيناي به لم يتوقف فمي عن المضغ إذا كانت الصحيفة في يدي وفي اليد الأخرى تلك الشطيرة التي أتناولها ظهرًا في المكتب، آكلها وأنا أقرأ صحيفتي فلا أدري هل يأتي طعامي على هامش القراءة، أو قراءتي على هامش طعامي. ولقد عرفت بجهد يسير، أن واحدًا قد مات، ولكن هذا لم يضعني إطلاقًا في أي جو، ففمي ما زال يدور، وأصوات سيارات الأجرة تبلغني عنيفة من الشارع العام، وزعاق الإعلانات عن اليانصيب الوطني عبر مكبرات الصوت التي تحملها سيارات مزوقة ترشح موعود الثراء، ما يزال يمزق كل ما هو قانع ومستكين في هذا العالم.

أجل لقد مات، وصحيح أنه مات بطريقة تختلف عما يموت به الناس، ولكن ميتته المبتكرة تلك، قد شفعت له ليكون خبرًا في صحيفة، لا إعلانًا صغيرًا في عمود الوفيات، يدفع لكل سنتيمتر منه ثمن خاص.. لقد وقع عن سطح عمارة ذات أربعة طوابق وهو يركب (الهوائي) لجهاز تلفزيون جديد.. أجل فقد بات لدينا تلفزيونات، وهي ككل شيء جديد آخر قد خلقت أسبابًا جديدة، فالذين يقعون عن الأسطح فيما أعلم، ليسوا في العادة إلا منتحرين، وهؤلاء بالطبع يختارون موتهم. ولهذا الفتى الذي لا يبدو أنه مات مختارًا اسم، اسم لم يفلح مع ظروف الموت أن يكون أكثر تألقًا منه في الحياة.. ولكن استطاع على أية حال أن يؤكد إلى جانب موته حقيقة أخرى مؤكدة، وهي أن الحادث قد وقع قضاءً وقدرًا، وكأن كل هم العالم معه حين لم يبحث كيف عاش، أنه يعرف كيف مات!

في المساء تطلعت إلى وجه أخي وقد جلس قبالتي راسمًا ملامح وجهه بطريقة خاصة، وقد راح ينقر على مسند الكرسي نقرات عصبية، قد لا تكون لا شعورية تمامًا، فهذا أسلوب يشعرنا به عادة أن مسألة ما ألمت به.. وكنا لا نهمله طويلًا حتى نخفف عناءه بالسؤال فيغير من وضع قدميه المتصالبتين واضعًا اليسرى على اليمنى، أو بالعكس قبل أن يشرع في رواية ما.. ولكنني لحظت أنه كان في ذلك المساء متألمًا بشكل خاص، أنساه أن يكون مسرحيًا على طريقته وهو يقول.. "دنيا".

قلت: "خيرًا؟". 

قال: "خذي".
ومد يده بصحيفة أخرجها من جيبه، الصحيفة نفسها التي تصفحتها في المكتب. وكانت مطوية بحيث لا يبدو من الطية أكثر من نصف عمود المحليات، وأردف: "أهناك ميتة أبشع من هذه؟".

وزاغت عيناي بين السطور مرة أخرى.. "بينما كان المدعو أحمد مرزوق يقوم.." ورفعت عيني متسائلة وأنا لم أكتشف العلاقة بعد بين أخي، وبين موت أحمد مرزوق، فقال: "ألم تعرفي من هو أحمد بعد؟".

"ألم تعرف من هو أحمد بعد؟"


قلت جزعة: "أحمد؟ تقصد أحمد؟.."
وعدت أقرأ الخبر مرة أخرى، وأغمضت عيني لبشاعة الصورة التي تبدت لي فجأة حين أدركت من يكون أحمد.. وغمغمت.. "كيف لم أدرك ذلك.. لقد كدت أنسى أحمد.. ولكن هذا كما يبدو عامل تلفزيون.. وذاك كان أجيرًا".

وقاطعني أخي: "وبين الأجير والموظف مسافة سبع سنوات.. وهي كافية جدًا لتجعل منه إنسانًا غير الذي تعرفين".

من خلال كثافة الزمن عاودني الوجه الطفل الأسمر، تذكرت يوم بعث به أخي إلى البيت وقال ابحثوا عن حذاء ينتعله، فسأستخدمه أجيرًا في المحل.
 

وحين دفعت له بحذاء عتيق من أحذية أخي الأصغر قال: "أأتركه في المحل مساء أم آخذه لبيتنا؟".

وظللنا طويلًا نمازحه سائلين: "أين بات الحذاء في الحانوت أو في البيت؟" فيرسل ضحكة تضيئ وجهه الأسمر ويشد على السل الذي حمل لنا فيه حاجيات البيت، وينطلق إلى حيث تنتظره دراجة مركونة يطير بها من بيت لآخر.. دراجة تعبت معه ثلاث سنوات قبل أن يترك أحمد المحل.

سألت أخي وأنا ما أزال أحاول أن أستعدي أحمد بكل أبعاده: "لقد نسيت لماذا تركك.."

قال وهو يعالج الولاعة: "مثل أحمد لا يرضى بأن يظل أجيرًا للأبد. أتعلمين أنه كان يجمع الأرقام في ذهنه بصورة عجيبة بأسرع مما أفعل أنا بقلمي، ولم يخطئ مرة في محاسبة زبون؟ وحين كان يمسك بالجريدة كنت أشعر بأنه يفك خطوطها بالقوة، فهو لم يعرف المدرسة لأكثر من عامين.. أو لعلها ثلاثة، وكين تركني.. أجل ما أزال أذكر تلك الساعة.. كان قد انتهى لتوه من كنس المحل استعدادًا لإغلاقه، ومرة على الواجهات ماسحًا إياها من الغبار، ثم تفقد البراد ووضع فيه مزيدًا من زجاجات الكوكا كولا، ولما انتهى تقدم مني وسأل بطريقته تلك، الضحكة تسبق الكلمة على شفتيه.

قال: "هل يمكن أن أسألك شيئًا؟".

قلت: "اسأل". 

ففرك أرنبة أنفه بأصبعه وقال: "ماذا تعتقد أن مستقبلي سيكون عندك يا معلمي؟".

والحقيقة أنه فاجأني بهذا السؤال، فقد شعرت بأنه يستعمل كلمة غريبة.. ماذا يمكن أن يكون مستقبله إلا أن أزيد أجرته ليرة أو اثنتين في الأسبوع.. وكنت أطعمه كما تعلمين.. سألته دون أن أفهم بالضبط ماذا يريد: "ماذا تقصد؟".

قال: "ماذا سأكون بعد خدمة عشر سنوات مثلًا؟".

قلت له بشيء من الغيظ: "أي شيء إلا أن تصبح شريكًا". 

قال: "أعرف ذلك".

قلت: "أهذه مناورة؟ لقد رفعت أجرتك قبل شهرين".

قال: "متى كنت مناورًا؟ لا يا "معلمي" ليس هذا غرضي، ولكنني أريد أن أتعلم شيئًا ينفعني، أنت ترضى لي أن أعيش العمر حاملًا سلال الناس".

قلت له وأنا أحاول أن أكتم غضبي: "ماذا تريد أن تكون؟ باشا؟".

قال وهو يضحك: "لا هذه كبيرة علينا يا معلمي، ولكن بإمكاني أن أتعلم أشغال الكهرباء في محل ابن خالتي. أظنك تحب لي الخير.. أليس كذلك؟".

وتركني دون أن تغريه الزيادة التي عرضتها عليه، إلا أنه لم ينقطع عن زيارتي أبدًا. وفي كل مرة يأتي فيها إليَّ، كان يتصرف مثلما كان يتصرف وهو أجير في المحل، يلمع الواجهات الزجاجية، ورتب البضاعة بالشكل الذي يعجبه. ثم يفتح البراد ويتناول زجاجة كوكا ويقول "هذه أجرتي" ويشربها متمهلًا وهو يسألني عن أهل البيت، ويقدم لي سيجارة من علبته الخاصة.

سألته مرة دون أن يخلو سؤالي من غمز: "قل لي يا أحمد.. هل غدوت شريكًا لابن خالتك في المحل؟".

"لقد تركته".
وقبل أن يدعني أسأله عن السبب بادرني بالسؤال: "هل اشتريت تلفزيونًا لبيتك؟".

قلت: "لماذا تسأل؟ لا لم أشتر.."

قال: "ولكنك ستشتري.. كل الناس يشترون. أتدري بأنني تركت ابن خالتي لألتحق بإحدى وكالات أجهزة التلفزيون، أتمرن في ورشتها على.."

وقاطعته مكملًا بهزء: "على هندسة التلفزيون".

قال وقد تجاهل تظارفي: "هل من الضروري أن نقول هندسة؟ إنهم يسمونها صيانة في الورشة". وسكت قليلًا ثم أردف: "ويبدو أن الجماعة قد رضوا عن عملي، فاستدعاني المدير وقال بأنني سأكون أحد اثنين توفدهما الوكالة إلى ألمانيا بناء على طلب الشركة ليتمرنا فيها على أعمال الصيانة وتركيب الهوائيات، فإذا تم كل شيء، فسأسافر بعد ثلاثة شهور". 

تطلعت إليه وقد شعرت بقامته تستطيل حتى أنني لم أسلمه المفاتيح ليقوم بإغلاق المحل، شأنه في كل مرة يزورني فيها.. إلا أنه تقدم وأخذها مني، وبعد أن جر الباب الحديدي وثبت القفل جيدًا قال: "أنا الآن أتعلم بعض الألمانية في معهد مسائي".

ولأول مرة في حياتي مددت له يدي مصافحًا..
كان ذلك قبل عامين بالضبط، وانقطع عني أحمد، فأدركت أنه سافر، ولم أسمع عنه شيئًا إلى ما قبل أسبوع إذ زارني شخصيًا..

وسألت: "بعد عودته؟".

قال: "أجل.. وددت لو ترين كيف تحول ذلك الحافي الأكرت الشعر، إلى شاب وضيء الطلعة تمتلئ العين بمرآه.
 

لقد تقدم مني وسألني: "كيف تراني يا معلمي؟".

فقلت له: "لا تقلها.. أشعر أنه يجب أن أقولها أنا لك.."

وضحك، ضحك طويلًا، وقال: "أخجلتني، العين لا تعلو على الحاجب.. هل اشتريت تلفزيونًا؟".

قلت: "أجل".

قال: "إذا لا تنسى أن تستدعيني إذا تعطل فيه شيء".

سألته هازئًا: "هل صرت مهندسًا؟".

قال: "ليس تمامًا ولكن زوجتي تسميني هكذا".

قلت: "إذًا فقد تزوجت؟".

قال: "أجل.. ألمانية يا معلمي، ولكنها تحب السمر!!".

إن أي شيء لا يفلح في أن يكون ذا معنى إلا من خلال علاقة ما.. فمن خلال وجدان أخى استطعت أن أشعر بأن ميتة أحمد تعني لي أكثر من خبر أقرأه في صحيفة تمر عيناي بها، وأنا أقضم شطيرتي، حتى أنني لم أجد نفسي مدفوعة بأن أفكر للحظة واحدة فيمن عسى أن يكون أحمد مرزوق، الذي سقط عن سطح بناية ذات طوابق أربع، وهو يقوم بتركيب "الهوائي". ولكن صورة الصبي بوجهه الأسمر وضحكته التي لا تغيب قد مزقت الآن كل ما تراكم خلال السنين، لتثبت في غير صعوبة، أن حياته قد كانت حقيقة بقدر ما كان موته حقيقة، وأن الحقيقة الأولى ترفض أن تغيم بسهولة في ثنايا الحقيقة الأقصى، فكأن طرقات يده على بابنا، يوم كان يحمل لنا السل، قد أخذت الآن تقرع نفسي في كثير من الإلحاح الذي يثير حزنًا ما تحرك فيَّ وأنا أقرأ الجريدة ظهرًا قراءة من يريد أن يستوعب العالم بشكل مسطح..

لقد ظل الوجوم مسيطرًا علينا طوال المساء، ولم نستطِع أن نبدده حتى حين قام أخي يستمع إلى نشرة أخبار التلفزيون في الجهاز المواجه، فكانت الصور تتراءى ونحن نحدق إليها تحديقًا قاصرًا عن استيعاب التفاصيل، فقد كان طيف أحمد ينتقل بقوة التركيز إلى الشاشة الصغيرة وكأنه الصورة الوحيدة التي تجد في نفسها الجدارة على أن تقول شيئًا ذا معنى.. ولم أشعر كيف بدأت النشرة، وكيف انتهت، وكيف احتل الشاشة برنامج آخر مصور لمحليات المدينة، كما سجلتها عدسات الشركة. ولكنني فجأة وجدت نفسي أواجه أحمد بغير الصورة التي أعرف حين راح المذيع يردد كلامًا شبيهًا بما قالته الصحيفة المسائية مشفوعًا بصورة لجثة مكومة أمام دار إذ كانت الكاميرا أكثر فضولًا وسعيًا وراء الإثارة، فسلطت عدساتها على "الهوائي" القاتل يرفرف بزهو على السطوح متيحًا لجهاز خاص في تلك العمارة، أن يستقبل صورة أحمد بمثل ما نستقبلها الساعة.. كومة رابضة تمثل قصة الطموح في فصلها الختامي..

 

 

 

ولدت سميرة عزام (1927-1967) في عكا، فلسطين. كانت مراهقة عندما بدأت قصصها تظهر في مجلة فلسطين، تحت الاسم المستعار فتاة الساحل. بعد الانتهاء من تعليمها الأساسي ، عملت كمعلمة مدرسة في سن 16 ، وعينت فيما بعد مديرة لمدرسة للبنات. في عام 1948 فرت من فلسطين مع عائلتها إلى لبنان، حيث أصبحت صحفية. كان عزام مترجما عربيا مشهورا لكلاسيكيات اللغة الإنجليزية من قبل بيرل باك وسنكلير لويس وسومرست موم وبرنارد شو وجون شتاينبك وإديث وارتون وغيرهم. وكما كتب م. لينكس كويلي من عربليت، "برزت أعمال عزام في عام 1950، في وقت كانت فيه الرواية الفلسطينية لا تزال تركز على القصة القصيرة".

رانية عبد الرحمن مترجمة للأدب العربي إلى الإنجليزية. بعد أن عملت لأكثر من 16 عامًا في صناعة تكنولوجيا المعلومات، غيرت مهنتها لمتابعة شغفها بالكتب، وتشجيع القراءة والترجمة. نشرت ترجمات في مجلة ArabLit Quarterly و The Common، وهي مترجمة "خارج الزمن" وهي مجموعة قصصية للكاتبة الفلسطينية الراحلة سميرة عزام. تترجم حاليا رواية "دمشق: قصة مدينة" لعلاء مرتضى، التي فازت بجائزة اتصالات لأدب الأطفال لعام 2019 في فئة أفضل نص، وتشارك في ترجمة رواية الكاتبة الكويتية الساخرة "حارس سقف العالم" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى مع سواد حسين.

الحياة والموت فلسطين

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *