يسقط المطر.. تموت الأميرة – قصة قصيرة لمنى الشمري

2 يوليو، 2023،
قد تكون قوة الخيال غير كافية لتحقيق آمال فتاة صغيرة عندما تواجه الفقر في الريف.

 

منى الشمري

ترجمها عن العربية إبراهيم سيد فوزي

 

لم نخرج من البيت منذ يومين، تكاد تتوقف الحياة ولم يتوقف المطر، تغلق المدرسة أبوابها قسرًا، الشتاء كعادته يأتي مباغتًا.

أم غانم تحضر لنا الحليب الطازج في إناء معدني، حين تغليه أمي تكون له رائحة شهية لا تقاوم.

أحشر سؤالي في أنف أمي كالعادة: "أليست فقيرة؟ كيف تأتي لنا بالحليب؟"

"أبوك صديق معزبهم، وهو الذي يوصي أم غانم كلما حلبت البقر بأن ترفع نصيبنا وتحضره لنا".

أم غانم تعرض مساعدة أمي لكنها ترفض بشدة: "اذهبي لابنك المعاق أولى"، وتدس بيدها المقسوم وصرة الثياب التي صغرت علينا.

حالة الانتظار في البيت تبعث الملل، ويزيد شوقي للمدرسة التي نشتاق لها حين نغيب طويلًا عنها، وحين نعود نتعسر كأننا سرقنا من قماطنا ودفء أمهاتنا.

أخيرًا توقف المطر، وعدنا للمدرسة مثل براعم تتفتح من جديد تحت الشمس، لكن حياة لم تعد.

مرض حياة وغيابها عن المدرسة لأيام مد لسان السؤال: "من يعرف بيت حياة؟" سألتنا المعلمة الفلسطينية، ابتلعتنا الحيرة لقمة سائغة، نظر بعضنا إلى بعض، ثم دارت الرؤوس في الفصل حولي تنظر لي.

معرفتي بها لا تتعدى باب معرفتهم، لا أدري على وجه التحديد أين يقع بيت زميلتي حياة؟ كل ما أعرفه أننا نلتقي مصادفة على مرمى نظر في الطريق الباردة التي تأخذنا إلى المدرسة التي تطل على البحر، رحى أسناننا تصطك من البرد الأزرق حين يدور الحديث، وبخار أفواهنا يسبقنا بالثرثرة، حقائبنا صخور ثقيلة تثقب ظهورنا، وخطواتنا تقاوم التجمد، أناملي تختبئ داخل القفازات الصوفية، ورأسي يعتمر القبعة، بينما أنامل حياة ورأسها مكشوفات دائمًا للسعات الشتاء القارس. نواصل السير، نتجاذب أطراف التذمر والنميمة بالمعلمات حتى نلج بوابة المدرسة.

عادت المعلمة وألقت بحلقة السؤال من جديد على بلاط الفصل: "من يعرف بيت حياة؟"، لا صدى للرنين على الإطلاق.

حياة مشروع أديبة لكنها متعثرة الحضور، بسبب البرد الذي فطم عظامها على الروماتيزم وهيج عليها الربو.

بعد يومين لمحت حياة تسير باكرًا إلى المدرسة مثل عجوز نحيفة احدودب ظهرها، من بعيد ناديتها، وركضت نحوها كحلم جديد لوَّح لي. مريضة لكنها مبتسمة دائمًا، سألتها عن بيتهم لأن المعلمة أرادت أن ننقل لها التكليفات والواجبات الجديدة.

أشارت لي دون اهتمام: "هناك خلف بيوت المعازيب".

بادرتها: "كانت البارحة ليلة مظلمة، انقطعت فيه الكهرباء، وتجمدنا، حتى أشعل لنا أبي دوة الفحم، النعاس يتمدد على جفوني حين ألقى إخوتي حبات الكستناء ذات الزغب في جوف النار، رائحة شواء متأخرة، صوت حسيس النار وحبات الكستناء وهي تخلع صندوقها الخشبي فوق لظى الجمر لتبدو الثمرة ناضجة بداخله قد حان قطافها.. مشهد سرق النوم من عيني".

تطوق حياة حماسي بابتسامة مريضة ولغز: "نحن كل يوم نعيش في صحوة ظلام".

وجهها مكتنز بالسر والحزن، دومًا عالقة في شرك لا أراه، تبدو أكبر من عمرها، قليلة كلام، تتحاشى التفاصيل، وتقاوم بكبرياء غريب إيقاع الضحكات وشهية الصخب في المدرسة وشغب الطفولة ومطبات المراهقة، أذهب ألعب أمرح في ساحة المدرسة، أقف على ظهر إحدى الزميلات لأتسلق جدار المدرسة أتأمل حركة النوارس على شاطئ البحر أمامي، وحياة تجلس على دكة تقرأ ديوان شعر استعارته من مكتبة المدرسة.

أصرخ بها: "اقرئيه في البيت، تعالي عيشي الحياة يا حياة".

يهطل المطر، أنتشي بسعادة، أفتح صدري وذراعي لاستقباله، وأرقص مع رفيقاتي تحت زخاته، تشيح حياة بوجهها عنه كإثم اقترفته، تدس كتابها داخل كنزتها الصوفية خوفًا عليه من البلل، وتهرب إلى الصف تختبئ، أواصل الرقص، أفتح فمي للمطر، وأدور مثل مروحة في سقف.

يدوي صراخ معلمة الإذاعة المدرسية: "عودوا للصفوف واجمعوا حقائبكم"، ويرن جرس العودة للبيت! يطردوننا باكرًا إلى بيوتنا خوفًا من سطوة الطقس. نعود للمنزل، حياة لا تطيق المطر تكرهه مثل عدو يتربص بها.

طوال الطريق تلتصق بأنوفنا الحمراء روائح العشب النافرة واحتراق حطب التدفئة في بعض البيوت الطينية التي لم تصلها الكهرباء. السماء رمادية تتوزع فيها غيوم سوداء، وبرك ماء هنا وهناك تلتهم الدرب الرملي لتحيله إلى نقع آسنة نتحاشاها أنا وحياة كمن يسير فوق جمر، أدلف إلى "فريجنا" وتواصل حياة السير، كم قاومت رغبتي بالسير خلفها لأعرف أي "فريج" تسكن وفي أي بيت تعيش، إلا أنني أتراجع خوفًا من والدي.

حين وصلت البيت وجدت أم غانم أمام الباب تنقل كالعادة حاجيات مختلفة؛ ملابس، فحمًا، شموعًا، طعامًا، وكمية كبيرة من الخيش يجمعها والدي من المحل، وأكثر من طربال.. لتأخذها بفرح غامر وتحملها هي وزوجها أبو غانم وهما يلهجان بالدعاء لنا، حين أهم بدخول البيت تقبل أم غانم رأسي: "هلا بالغالية" وتغادر. أحاصر أمي بالأسئلة:

- ماذا تفعل هذه المرأة بكل هذا الخيش؟

- أناس فقراء كان الله في عونهم.

- "بعناد" أفهم أفهم لكن الخيش..

- اذهبي واستبدلي ثياب المدرسة.


انشغلت باقي يومي في كتابة التعبير الذي طلبته منا معلمة اللغة العربية، ونمقت الكلمات وزينت الصور البلاغية، وبعد كل هذا التعب طلبت المعلمة من حياة أن تقرأ تعبيرها في الفصل بصوت عال.

كان الموضوع "غرفتي"، وقرأت حياة أشعارًا في غرفتها الوردية مزينة بنقوش بنفسجية على الجدران، وفراشات تطير، وقمر يتوسط النجوم الفسفورية، ومكتبها الصغير الذي تكتب عليه يومياتها، وستائر الدانتيل البيضاء تراقص الريح. وخزتني الغيرة، فقد بدت لي كأنها تعيش في غرفة أميرة، غرفتها تشبه غرف الاميرات اللاتي كنت أقرأ عنهن في قصص المكتبة الخضراء، إنها أفخم وأجمل من غرفتي البيضاء الصماء بلا لون ولا رائحة، شجعتها المعلمة وطلبت من الجميع التصفيق لحياة، تلتمع عيناها بالدموع تأثرًا.

لكن ظل غيابها يشغلنا في الفصل أكثر من حضورها، وظل الشتاء عدوها الاول، والمطر حزنها الذي يكبر.


كانت ليلة مخيفة، أصوات الانكسارات والشظايا في السماء السوداء تخلع وتين القلب فزعًا، وزخات المطر قاسية ومتواصلة بزخم وقادرة على حفر شقوق جدران البيوت الطينية، رعد يتفجر يصم الأذن لساعات، أخي فتح باب الشارع مواربًا، بجانبه أبي وأقف في طرف الباب ممسكة بوزرته، ضباب يلف بعباءته المكان، أبصر جحيمًا، سوطًا من ضوء، وخيوط نار متفرقة، عروق البرق نابضة تنتشر في الأفق لتضيء العتمة، ودويها يقطع الأنفاس. أنظر إلى أعمدة الكهرباء الخشبية تكاد تهوي فوق رؤوسنا، لا مارة في الطريق، من يغامر ليمشي تحت غضب السماء؟

أسأل أبي: "هل ستقوم القيامة؟"

لا يجيب، يهلل ويحوقل ويسبح ويستغفر الله كثيرًا.

وخلفه أمي تختبئ مذعورة بظهره وتعيد ما يقوله.

الريح مارد يدفع بابنا الخشبي بكل قوة، نقاومها جميعًا بقوتنا، ندفع الباب والريح تدفع من الجانب الآخر، تكاد تسرقني من أبي الذي ينتزعني منها بيد واحدة، بينما اليد الأخرى تغلب الباب، يرميني خلفه، نحبس الأنفاس ونطبق الباب، يطلب أبي إلى أخي وأمي أن يسدا الباب بظهورهما حتى يعود.

الريح العنيدة تهزهما كذجعي شجرة وتنفضهما دفعًا، يقاومان كعصفورين مذعورين تعصف الريح بقوتهما، ثم تجلس تئن عند الباب مثل امرأة في مخاض، صوتها حزين خافت، ثم فجأة ترتفع وتيرته ويتحول إلى هدير مدو، يأتي أبي مسرعًا، يحمل بكلتا يديه أنبوبتي الغاز الثقيلتين، يبتعد أخي فيضع مكانه واحدة ومكان أمي الأخرى، نستعيد توازننا، تخطفني أمي نحو المدفأة، تبدل ثيابي بالكامل.

ويستبد القلق بأبي: "إنها ليلة عاصفة لا بد أن أشعل الفحم الآن".

في الصباح تهدأ العاصفة.. وتلم الريح أشلاء حزنها وأنينها المزعج وترحل، لكن الغيوم الرمادية تتوزع بالأفق كقبلات على منديل، وتكتفي بنثر رذاذ خفيف على الأرض، أبي يستقبل الحداد الإيراني الذي ينشغل بأخذ مقاس بابنا الخشبي الأخضر انتقامًا من عاصفة البارحة.

بعد يومين يركب الباب الحديدي الأسود الثقيل، وينخلع قلبي مع المسن الخشبي الذي صار منبوذًا وضعيفًا، يحمله أبو غانم فرحًا بالغنيمة، أفارقه كأول حب، أعترض بدموع قهر دون ان أنبس بكلمة.

أبي يفهمني: ألم تري ماذا حل به منذ يومين، كاد يتكسر ويتركنا للعراء، لم يعد قويًا، ولا بد من استبداله.

- لكنني أحبه، إنه دافئ، وهذا الحديد بارد بلا قلب.

يستسلم أبي لنوبة ضحك متواصل.

بعد ثلاثة أيام تبتلع الأرض ماءها، وتجف الطرقات، وترتدي الشمس قميص الأفق، ونعود للمدرسة، لكن حياة تغيب وتغيب، فتثير قلق الجميع، تجمع المعلمة مبلغًا من تبرعات التلميذات وتعطيني إياه:

"تشترين لحياة هدية بهذه النقود، تزورينها نيابة عنا، وتقرئينها السلام، وتأخذين معك أوراق العمل والتكليفات لكل المواد".

ببراءة غير مصطنعة: "لكنني لم أزرها من قبل، ولا أعرف عنوان بيتهم".

بمكر تبتلع المعلمة كلامي: "يجب أن نحب الخير والتفوق للجميع، وإذا لم نرسل لحياة ما فاتها من المنهج فستتخلف كثيرًا عنا وترسب، ثم أليست تسكن بالقرب منكم، من يسأل فلن يتوه".

أعود بمهمة ثقيلة، أخبر أمي بهمي، فتقترح أن أذهب برفقة أخي الأكبر إلى دكان أبي لأشتري كلبة ماكنتوش ثم أذهب لبيت زميلتي، على أن ينتظرني في الخارج، وسمحت لي بعشر دقائق فقط، نفذت المقترح بالكامل، لكن حين وصلت وأنا أبحث عن بيت حياة، لم أجد بيتًا خلف بيوت المعازيب المطلة على البحر، بل هناك زرائب طينية بأسوار قصيرة. جبنا المكان ودرنا حوله بلا طائل.

"لا لا، نحن في المكان الخطأ".

أخي يتذمر: "أنا أحفظ المنطقة لا يوجد هنا سوى حظائر البقر، ادخلي هنا في بداية المدخل، ربما تعثرين عليها".

أعترض: "لا لا.. غير معقول أن تسكن حياة هنا، ثم إنني أخاف أن أدخل وحدي".

بتملل يسحبني أخي من كتفي لمدخل بلا باب يؤدي لممر واسع، ويصرخ: يا أهل البيت يا أهل البيت.

أشعر بقلبي يرتجف كسعفة يابسة، المكان تقتسمه العتمة وضوء خافت مما تبقى من شمس العصر، صوت امرأة أعرفه، لكن ذاكرتي لا تفرز شيئًا هذه اللحظة، يأتي من بعيد:

"حياكم الله حياكم الله". إنها أم غانم تحتفي بنا، تقبلني على رأسي كعادتها: "تفضلوا يا أهلًا ومرحبًا". ينسحب أخي ويترك علامات الاستفهام تحرث رأسي، أستجمع خيوط شجاعتي:

- أهلًا.. جئت أسأل عن حياة.

- حياة أتعبها الربو والروماتيزم، إنه المطر المؤذي.. حياة هنا تفضلي.. يا حياة صاحبتك تسأل عنك.

تمشي أم غانم أمامي، وعلى اليمين زرائب البقر، حظائر بأسوار طينية وسقف مفتوح تغطي جزءًا منها ألواح الشينكو البالية، في كل زريبة خمس بقرات، رائحة الروث الفاحشة تطحن الرأس وتقلب المعدة، ورطوبة الطين وأوكار الذباب تطيح بمقاومتي، وعلى اليسار زرائب أخرى دون باب، لكن مغلقة بسقف مفتعل من العشيش، وفوقه طربال يمنع تسرب المطر، أما الأرض فقد فرشت بأكياس الخيش، وفوق أكياس الخيش هناك سجاد قديم عليه مطارح للجلوس والنوم معًا. أسير وعيني تجرحها التفاصيل، زريبة جهزت كمطبخ، وأخرى فيها طفل معاق خمنت أنه غانم.

وفي إحدى الزرائب وجدت حياة ترقد على فراشها، تلتهمها السخونة كرغيف حار، حين رأتني انتفضت كأنها رأت عفريتًا من الجن، وانشطر قلبي من هول الكابوس يلعن الفقر، دخلت في نوبة سعال، دمعت عيونها الحمراء، وتساقطت غزيرة: "أكانت تسعل أم تبكي؟".

أم غانم تمسك بطاسة نحاسية تسقيها في يد لبنًا ساخنًا، وتضرب ظهرها ضربًا خفيفًا بيدها الأخرى وتتنحنح. اختلط سائل أنفها بدموعها وزبد فمها، شربت حياة رشفة من اللبن الساخن، ورفعت كفها: "بس يما".

إذًا فأم غانم أمها، رفعت حياة خرقة مسحت بها أنفها ودموعها وفمها، بادرتها بالاعتذار على الفور: "أنا آسفة زرتكم فجأة".

انسكبت أم غانم خجلًا كدمعة حزينة: "لا حبيبتي نحن نشكرك لأنك جئت تتفقدين حياة".

أعطيتها علبة الماكنتوش وأوراق التكليفات الدراسية، وأوجزت الحديث، فقد ضاع من رأسي كل الكلام، وتعذرت بأن أخي ينتطرني في الخارج: "سلامتك حياة ما تشوفين شر"، لم أسمع صوت حياة، أم غانم خلفي تدعو الله لي ولأهلي.

قبل أن أغادر زريبة حياة ألقيت عليها نظرة الوداع، كانت للتو تبتلع الصدمة، وأنا كذلك. قبل أن أخرج لمحت أبا غانم في مكان قصي مشغولًا بتقطيع أوصال بابنا الخشبي الأخضر من أجل التدفئة.

 

منى الشمري (مواليد 1966) روائية وكاتبة كويتية. درست المسرح والدراما في جامعة الكويت. نشرت قصصها القصيرة الأولى في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. فازت بجائزة من اتحاد الكتاب الإماراتيين العام 1990. تشمل رواياتها  "لا موسيقى في الأحمدي"، التي تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، و "خادمات المقام" التي تم ترشيحها لجائزة البوكر العربية.

إبراهيم سيد فوزي، مترجم أدبي وأكاديمي مصري، مدرس مساعد في قسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة الفيوم، مصر. ظهرت ترجماته في مجلة ArabLit الفصلية، و"كلمات بلا حدود"، و"ذا سنتراز ريفيو"، و"الشعر الحديث في الترجمة"، ومجلة "شعر برمنغهام الأدبية"، وغيرها. سيتم نشر دراسته الأولى ، الانتماء إلى السجن ، من قبل علماء كامبريدج في الصيف. في عام 2023 ، أنهى إرشادا لمدة ستة أشهر مع المركز الوطني البريطاني للكتابة كجزء من برنامج المترجمين الأدبيين الناشئين ، حيث تم توجيهه من قبل سواد حسين.

روائيالكويتفقر الريفقصة قصيرة

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *