حكاية إجهاض: على أرضنا

2 يوليو، 2023،
وعلى الرغم من الصعاب، ترفض ثلاث شابات ليس لديهن حقوق الإجهاض أن يكن ضحايا.

 

غدير أحمد

 

كانت لعبة ذهنية شديدة الخطورة. أن نلعب على أرضنا لا أرض العدو، أن نُرغمه دون مساومة، هي اللذة بعينها. الساحة ملكنا. هناك شيء غامض في اللعب على أرضِك. شيءٌ يجعلك أقوى رغم ضعف موقِفِك؛ أنتِ التي كنتِ البارحة طرفًا ضعيفًا مُستَغل ومُبتَز. في لعبة علاقات القوة، عليكِ أن تعرفي مكانِك. إما أن تلعبي بشروط عدوِك وعلى أرضه، أو تسحبيه برفقٍ إلى أرضك وتوقني الفوز.

سحبناه لأرضنا بالحيلة. مارسنا لعبة تفوّ قت على لعبته الحقيرة بإتقانٍ تام. كنّا تحت رحمته. الآن هو في قبضتنا. ورغم وضعنا الحساس إلا أننا استجمعنا شجاعتنا: ثلاثة شابات لم تتجاوز إحداهنّ الثلاثين.

لم أشغل بالي كثيرًا بالبكارة. لن أتزوج من شخص يعتبرها مقياسًا لشرفي. كل هذه الترهات التي ربّتني عليها عائلتي المحافظة، تحطمت مع أول مرة أدركتُ فيها أن جسمي ملكي. أنا تسنيم، شابة في منتصف العشرينات، وأقيم مع عائلتي في بلد خليجي لسنوات. تعرفتُ على شريكي هناك. كان من الوافدين أيضًا، هاربًا من جحيم الحرب في بلده. تواعدنا لشهور اطمأننت وآملتُ فيها أن نبدأ حياتنا معًا، قبل أن نقرر ممارسة الجنس.

كنساءٍ كثيرات، حيضي غير منتظم؛ يأتي في موعده مرة، ويُخلفه ثلاث. عندما تأخر هذه المرة، اعتقدت أنه كالمعتاد، خاصة أنه آتني قبل شهر. لكن ثمة شيء غريب كان يحدث لي؛ هاجس يدفعني لإجراء اختبار حمل. ربما لأن في تأخيراته السابقة لم أكُن في علاقة جنسية. وربما لأنني لا أعتمد أية وسيلة لمنع الحمل سوى القذف خارجًا. كنت أكره الحبوب الهرمونية وما زلت.

طلع بوزتيف. فضلت مصدومة باصة للنتيجة وبقول لنفسي يمكن مش حقيقي. يمكن في حاجة غلط. عملت 3 اختبارات ورا بعض وكلهم بوزتيف. طبعًا عياط وانهيار مش عارفة انا هعمل ايه دلوقتي. هروح فين، اتواصل مع مين؟

لم أذهب لعملي ذلك اليوم، خرجتُ من المنزل في موعد عملي وهاتفتُ عادل، فهرول إلى المكان الذي نلتقي به. حاول تهدئتي وقال أنه معي ولن يتركني في المصيبة وحدي. لم يكُن التواصل مع أي شخص مهما كان قريبًا منّا سهلًا. فكلانا من جاليات عربية وإن فاح الخبر ستكون فضيحة.

جلسنا نعصف أذهاننا، وكان توقعي لمدة الحمل أنها لم تتجاوز الستة أسابيع، حسب آخر حيض. اعتقدنا أن التخلص منه سيكون سهلًا لو حصلنا على دواء مُسبب للإجهاض. ورغم عملي في القطاع الصحي بذات البلد، إلا أنه من الصعب جدًا الحصول على حبوب تحفيز الإجهاض. حيثُ لا تُباع إلا بوصفة طبية وفي المستشفيات العامة. الإجهاض هنا ممنوع ومُجرم بالقانون، خاصة لو من الجاليات العربية أو الأجانب. خَفتُ أن ألقى نفس مصير العاملة المنزلية التي تركت رضيع في حديقة عامة فور ولادته لأنها لم تتمكن من الإجهاض، وتم القبض عليها وترحيلها. أو مصير زميلة الدراسة التي اضطرت لإخبار عائلتها بالحمل بعدما انقضت ستة أشهر كاملة تحاول فيهم الإجهاض هنا بلا فائدة. ثم انقطعت عن الدراسة وسافر أهلها بها إلى دولتهم حيث أتمّوا الإجهاض واحتجزوها في المنزل من وقتها.

منذ رأيت نتيجة اختبار الحمل، وكانت تأتيني نوبات الهلع ولا أعرف حتى كيف أخفيها عن عائلتي. عائلتي! عائلتي الممتدة قتلت شابة اعتقدوا أنها تمارس الجنس، وزُوجت أخرى كرهً ا لأنها في علاقة عاطفية مع شاب. ولم أكن قريبة من موقف أيهما. أنا حامل. فضيحة.. إن كان الأمر سيؤول إلى عقاب أو خصام، كان من الممكن أن أتحدث مع عائلتي عن الكارثة التي حلّت بي، ربما ساعدوني. الأمر لن ينتهي أبدًا بخصام أو عقاب، سيقتلونني وبداخلهم إيمان قوي أن القتل مُستحق. أنني خنتُ استئمانهم لي على جسدي، على شرفهم.

كنتُ أخاف من أي جرح صغير أو وعكة صحية. لن يكون اكتشاف أمر الحمل أسهل من تحليل دم إجباري إن دخلتُ مستشفى لأي سبب. كما أن قوانين الإقامة في هذه الدولة تُجبر المقيمين فيها على تجديد التأمين الصحي بشكل دوري. أسرعت بالتفتيش في أوراق إقامتي بحثًا عن تاريخ تجديد تأميني الصحي والذي يلزمه اختبار دم سيكشف الحمل.

وهكذا لم تكُن عائلتي هي هلعي الوحيد؛ كانت الدولة التي أقيم فيها وقوانينها تُسبب لي خوفًا غير عاديًا. إن عُرف أمر حملي بتلك الطريقة، فأنا عرضة للسجن والترحيل. كل الأشياء ستهبط فوق رأسي في لحظة.

لا أمل في الحصول على حبوب الإجهاض. اعتمدتُ على وصفات بحثتُ عنها على الإنترنت.. قريت إن لو اخدتي حبوب منع الحمل بجرعة كبيرة هتعمل إجهاض. كنت بجيب الحبوب واخد منهم 10 حبات مع بعض. قريت ان القرفة، الأناناس، الحاجات دي لو اخدتيها بكمية كبيرة ممكن تنزل الحمل. وفايتامن سي. فاكنت باخد منه 12 حبة مع بعض.. بلعب رياضة. أي حاجة تساعدني. وقريت ان البروجيسترون لو اخدتيها بجرعة زيادة بتزود السوائل الموجودة فالرحم. فالحمل بينزل. من التجارب الفاشلة بتاعتي، اخدت تقريبا ١ حبات. وكنت فالشغل وحسيت ان في دم بينزل. دخلت الحمام ولقيت دم فعلا. زي بلود بلوك كبيرة ونزفت 3 أيام. اتفائلت ان خلاص الموضوع انتهي. بس جربت الاختبار مرة تانية، طلعت لسة حامل.

 

فنان بغداد فيان سورا 6-باثرز-2020-زيت على قماش-60-x-72
فيان سورا ، "Bathers" ، زيت على قماش ، 60×72 "، 2020 (بإذن من Luis de Jesus Los Angeles).

 

لم يكُن الوقت حليفي؛ فمع مرور الأيام والأسابيع في محاولات الإجهاض الفاشلة، يصبح الأمر أكثر رعبًا وتهديدًا لحياتي. علمتُ بالحمل في أكتوبر وقررت السفر إلى مصر في فبراير. كنتُ قد استنفدتُ صبري ومحاولاتي في الإجهاض؛ حزمتُ أمتعتي وتوجهتُ إلى المجهول.

لم أكُن على تواصل بأي من صديقاتي القديمات إلا صديقة الطفولة لكني كنتُ خائفة من التواصل معها. لا أعرف حتى امرأة واحدة أجهضت في مصر. أي أن هنا وهناك الأمر متشابه كثيرًا. نفس الحيرة ونفس المأزق. لكن على الأقل، في مصر ربما سأحصل على حبوب الإجهاض بطرق غير قانونية. ربما سأكون قادرة على إجراء تحليل دم وسونار. سأكون قادرة على زيارة طبيب والحصول على متابعة طبيّة. لم أعرف سبيلًا لذلك كله، وبداخلي يقين أنني سأجد حلًا ما.

جهّزت كل شيء للسفر. تحججتُ أنني بحاجة لتجديد جواز سفري. أخذتُ إجازة من عملي. بعتُ ذهبي ولجأتُ لمُدخراتي القليلة جدًا، وكذلك فعل عادل. كان عليّ الإقامة عند عمّي وزوجته. وتعمّدت إخبار أمي أنني سأذهب للمبيت عند صديقة ليلة أو اثنتين خلال الإجازة، تحسُبًا إن احتاجتُ لأكثر من ليلة أثناء الإجهاض. فكرتُ في التواصل مع صديق عرفته من الإنترنت، ولم أكن قد رأيته شخصيًا أبدًا فلم أستشعر حرجًا في سؤاله إن كان يعرف طبيبًا يُجري عملية إجهاض في مصر. أعطاني رقم هاتف طبيب معروف. وكان هو الطبيب الأول الذي أزوره في رحلة إجهاضي.

ذهبتُ للكشف وكان تقديري لمدة الحمل خمسة أشهر بأقصى تقدير. بإمكاني إجراء الإجهاض حتى الشهر السادس كما حدث مع زميلة الدراسة. كان بداخلي شعور بالارتياح: سينتهي ذلك كله أخيرًا. أجرينا السونار. قالي: "فاضلك أسبوع وتبقي فالشهر السابع. هيطلع بني ادم. في ناس بتولد فالوقت اللي انتي فيه دة والجنين بيعيش."

خرجت من العيادة معرفش هروح فين ولا هعمل ايه.. سد لي كل الطرق..... مفيش أمل. مفيش حاجة تتعمل. مفيش اختيارات. انا مش شخص انتحاري ابدا حتى في عز أوقات الاكتئاب والضلمة اللي في حياتي. بس انا فاكرة يومها ركبت أوبر وكنت بفكر ان الحل الوحيد هو الانتحار.

بيدٍ مُرتعشة هاتفت صديق الإنترنت. فقال أن له صديقة كانت في موقفي واضطرت للسفر خارج مصر. أنجبت في أوروبا ولم تعُد أبدًا. قال: "انتي تسافري زيها وتقطعي علاقتك بقي بكل حياتك اللي فاتت دي. تنسيها." كنتُ أسمع كلماته وأبكي أكثر. فقال سيُعطيني رقم هاتف صديق آخر، طالب في السنة الأخيرة من كلية الطب وتدرّب في عيادة النساء والتوليد بقصر العيني قبل أعوام.

هاتفتُ هذا الطبيب المُتدرّب وأرسلتُ له صورة السونار. قال: "اوكي هيبقي حي. بس هيقعد مثلا عشر دقايق وهيموت. انا ممكن اقولك على مكان بيبيع السيتوتك بس لازم هيحصل نزيف. لو هتقدري تدبري مكان يبقي حد معاكي فيه، وخلي بالك الموضوع ممكن ياخد يومين او تلاتة. بمجرد ما ينزل، حد ياخدك المستشفى عشان يعالجوا النزيف. بس ميكونش في حمل. يقولوا بس حصل اجهاض باي شكل من الاشكال. لازم يكون معاكي حد."

وانا مكنش في معايا حد، ولا معايا عقد جواز رسمي هيطلبوه في المستشفى. وبعدين هعمل إيه لو الجنين دة خرج وأنا موصلتش للمستشفى؟ هعمل فيه إيه!

كان الفحص مُهينًا لأقصى درجة. تعامل معي الطبيب كأنني عاملة جنس.. ولو كنتُ كذلك، لما كان هذا مُبررًا لئلا يحترمني إطلاقًا. ثم طلب أربعين ألف جنيه مقابل إجراء عملية قيصريّة، حوالي ألفان وخمسمائة دولار.. وغير أن المبلغ كبير ولا أملكه، فقد كان واضحًا فيمّ يخص الجنين. قال أنني سآخذه بعد الإجهاض وعليّ التصرّف فيه. خرجتُ من عيادته أكثر إحباطًا من زيارتي للطبيب الأول.

كنتُ في كل خطوة أتواصل مع عادل الذي لم يقدر على السفر معي لمصر بسبب القيود الأمنية على جنسيّته. أنا هنا بمفردي أصارع للبقاء. وفي مكان آخر من العالم يتواصل معي شريكي بالرسائل لأن ذلك أقصى ما يُمكنه فعله. أقصى دعم يُمكنه تقديمه.

أوقفتُ سيارة أجرة قاصدة منزل عمّي. أجلس في الكرسي الخلفي أحاول منع نفسي من النحيب، وأفشل في كل مرة. كان عادل على الهاتف يُحدثني صوتيًا. وأنا أرد بالرسائل. وانا فالتاكسي بتكلم فالتليفون وبعيط ومنهارة.. وخايفة يكون السواق سامعني.... بحاول أقول كلام غامض اللي هو ميبانش انا بعيط ليه.. بكتب على الواتساب وبتكلم فالتليفون وبعيط. ممكن يكون السواق سامع. ممكن يكون فاهم انا بقول ايه. فايبلغ عني. كنت خايفة الراجل يلبسني قضية ويحبسني. ومش عارفة أبطل عياط.

دارت بيني وبين عادل محادثة لن أنساها. يحاول تهدئتي كعادته، ويدور في بالي فكرة واحدة: كيف سأخرج من هذه الورطة؟ الأمر لم يُصبح فقط أنني حامل وأسعى لإجهاض. بل أنني حامل وأسعى لإجهاض وعليّ التخلص من بقايا جنين. عليّ التخلص من جثة. ما قاله الطبيب الأول وما أكده الطبيب المُتدرب والطبيب الذي وصمني، وضعني في موقف لم أتخيله في حياتي. جميعهم أكدوا أن هناك جنين وأنه شبه مكتمل، وأن ذلك أقرب للولادة المُبكرة منه للإجهاض. كنت أشعر بالوحدة وبرغبة شديدة في الموت، في الاختفاء.

لم يفهم عادل أيًا من ذلك. ربما لو كان موجودًا لكان له رأي آخر غير اقتراحه أنني أشتري حبوب تحفيز الإجهاض وأقوم بتهريبها إلى البلد الخليجي. ربما اكتمل لديه تصورًا آخر عمّا أنا فيه. ربما لم يقترح الإقدام على خطوة قد تُكلفني حياتي أو حريتي وسمعة عائلتي على أقل تقدير. ربما تفهّم أن "مفيش حاجة اسمها اجهضي دلوقتي ونتصرف في الجنين بعدين." ربما أدرك أن الجريمة الآن، جريمتين.

انتهت محادثتنا بمشاجرة. أغلقت الخط في وجه عادل. كان آخر ما أحتاجه هو شخص غير مُدرك لأبعاد الكارثة حتى لو شريكي. وصلتُ إلى منزل عمّي وجلست أنقّح أفكاري بهدوء. هاتفت صديق الإنترنت. قال أنه ليس هناك حلول أخرى، إلا حلٍ واحد.

أعطاني رقم هاتف لشابة معروفة نسبيًا ولم يقُل شيئًا سوى أنها ستُساعدني إن عرفت قصتي. استغربتُ لأنني أعلم اسمها جيدًا - سلمى. فأنا من مُتابعيها. لم أتردد في التواصل معها. كانت معروفة بين أوساط الشباب ومُستخدمي الإنترنت. تمتلئ حساباتها بصور السفر والموضة. لم يخطر ببالي أنا شخصيًا أن تلك التي لم تكتب يومًا حرفًا عن أي من هذه الأمور، هي نفسها التي تُساعد المُجهضات في الخفاء. هي التي تمد يدها لكل امرأة طرقت بابها من اليأس وقلة الحيلة. فارسة مُلثمة ومجهولة.

هاتفتها. رحبّت بي سلمى وأبدت اهتمامها بالمساعدة. أعطتني عنوان طبيب قالت أنه ساعد فتاة قبل ذلك في إجهاضها الناتج عن اغتصاب، واعتذرت عن حضور الكشف. أصرّت أن تتواجد أثناء الإجهاض عندما علمت أنه لا أحد معي. ذهبت للفحص وكان هو الطبيب الرابع في الرحلة. كان هناك الشخص الذي يمكننا تسميته بالطبيب المباشر؛ الطبيب الشاب في التدريب الذي عرض تزويدي بحبوب الإجهاض، والطبيب المخزي الذي طالب ب 40000 جنيه.

كنت قلقانة فالاول. وريته نتايج التحاليل. قالي: "انا مش اول مرة اعمل كدة. متقلقيش ولازم يكون في ثقة بين الدكتور والمريض. والجنين هخلصك منه بعد الإجهاض. بس لو معندكيش مشكلة انا ممكن اكشف عليكي." ابتدى يكشف عليا. مكنتش مرتاحة للطريقة ولا لنظراته. وبعدين سألني: "صدرك عامل إيه؟ وريني كدة." قولتله: منفوخ وبيوجعني والحلمات أغمق من العادي. قرصني في حلمة صدري وكان بيضحك.

لم يكُن لارتياحي من عدمه أهمية. في البداية، ظننتُ أن الفحص طبيعيًا، وتجاهلتُ حدسي وعدم ارتياحي. ربما لأن الوقت ينفد مني، وأن الاعتراض على فحص الطبيب والتعبير عن عدم الراحة يلزمهما وقتًا للبحث عن طبيب أكثر مهنيّة، ولم يكونا بأهمية التخلص من الحمل والنجاة بحياتي. ارتديتُ ملابسي وجلستُ على كرسي أمام مكتبه. طمأنني بأن تلك ليست مرّته الأولى، وكررّ أهمية الثقة بيننا. قال سيُعطيني حبّة محفزّة للإجهاض غدًا وبعدها يأتيني الطَلق، فيتمكن من توليدي ولادة طبيعية وليست قيصريّة. وقال أن العمليات القيصرية ستترك أثرًا جراح يًا لا تتركه أي عمليّة أخرى. وشَدّد أنه حريص على سلامتي بعد الإجهاض وألا تكتشف عائلتي أنني أجهضت. والأهم من ذلك كلّه أنه سيُخلّصني من الجنين.

ثم طلب منّي أن يتوقّف دور سلمى هنا. قال أنها أتمّت مهمتها ووضعتني معه على اتصال، لكنه لن يكُن مرتاحًا في وجودها. كان كلامه غريبًا، خاصة أنه سبقه بمديح سلمى وأنهما صديقين مقربين. زادَ ذلك من شعوري بعدم الراحة. كنتُ قد اعتمدت على حضور سلمى معي يوم الإجهاض.

لم يكُن هناك وقتًا لأخبرها ما قاله الطبيب. لكني استشرتُ عادل. "قالي متروحيش خلاص ندور على دكتور تاني. أنا مش مطمن له." عليّ إيجاد بديل لأني كنت بمفردي وخائفة من كل شيء وأولهم الطبيب نفسه. كان ذلك يوم خميس. في صباح الجمعة، كنتُ قد رتبتُ مع صديقة قديمة أن نلتقي للإفطار.. كنت خلاص هقولها... أنا حامل.

بس معرفش رد فعلها ايه.. هتساعدني ولا مش هتساعدني. بس على الأقل تبقي عارفة لو حصلي حاجة. ملحقتش أقولها. لقيت الدكتور بيكلمني عالواتساب وبيقولي انتي فين. قولتله خارجة مع واحدة صاحبتي. زعقلي وقالي: "انتي بتستهبلي؟ أنا قولت لازم نلحق نتصرف بدري وانتي تقوليلي خارجة مع صاحبتك؟ دة تصرف مش مسؤول. مينفعش. لازم تيجي تشوفيني دلوقتي حالًا. سيبت صاحبتي ونزلت لقيته مستنيني بعربيته في الشارع. لما شافني قالي إحنا هنبتدي دلوقتي بس مش هينفع في العيادة. أنا عندي شقة. قولتله أوكى. راح مستشفى كان بيشتغل فيها والممرضة حطت لي كانيولا. طول الطريق بيقولي: "متخافيش ولازم تثقي فيا. أنا طبيب ضابط ومفيش قلق." معرفش كان بيطمني ولا بيخوفني أكتر.

انطلق على طريق السويس مُتجهًا بي إلى اللامكان، إلى شقة يملكها في إحدى المدن الجديدة. قال أنها أمان وسيتم كل شيء هناك. لكننا الآن سنأخذ الحبة فقط وننتظر الطلق. لم يتملكني الخوف عندما طال الطريق وكأننا نسير إلى مالا نهاية. بل قبلها، عندما التقيته. أرسلت بثًا حيًا لمكاني على واتساب لعادل ومثله لسلمى. لم تتوقف سلمى عن الاتصال بي عندما توقف البث. اتصلت بي مرات متتالية. واتصلت بالطبيب مرات أكثر.

وصلنا إلى حي غريب. جميع المباني رمادية لها نفس الشكل وعدد الأدوار، وأحبال الغسيل ممتدة بعرض البلكونات. توقف أمام أحد المباني وتوجّهنا إلى المدخل حيث توقعت أننا سنصعد لأعلى. لكننا نزلنا بضع درجات لأسفل. شقة في الدور الأرضي أو ما يدنوه. فصلنا عن باب الشقة بابٌ حديديّ موصد بقفلٍ كبير.

فتحَ الطبيب القفل وحرّك الباب. ثم فتح باب الشقة وكان التراب بداخلها أكثر من الهواء. مُعتمة تمامًا. نوافذها مُغلقة وعليها ألواح خشب بحرف إكس بخلاف الإطارات الحديدية من الخارج، كأن فتحها سيُدخل وحشًا ما. توجّه إلى لوحة مفاتيح الكهرباء. فأضاء مصباحًا سقفيًا ذا إضاءة ضئيلة وطلب مني الدخول. ما هذه الرائحة؟ كمكمة أو هواء محبوس لأعوام. خطوت لأجد رُكامًا على البلاط. آنية طعام، مروحة سقف مُتهالكة. وسادات تملؤها بقع بنيّة. كان قد سبقني للممر الفاصل بين الغرف وهذه الفوضى. دخل غرفة، فدخلت وراءه. لم يكُن بها إضاءة، فمصباحها مكسور. بينما افترشت منتصف الغرفة وسادات ومساند عريضة لطاقم جلوس غير موجود. كانت الوسادات موضوعة على الأرض كأنها جلسة عربية في مكانٍ مُعتم، رث وعَفِن. طلب مني الجلوس عليها.

أضئتُ كشّاف هاتفي لأرى ما سأجلس عليه. راقبني كأنه مُستمتع بامتعاضٍ
ظهر على وجهي ولم أكن سأظُهره. الوسادات والمساند بنفسجيّة تقريبًا، وهناك بقع عليها تبدو كبقع دماء قديمة. أصابني المشهد بالغثيان، مُتذكِّرة الموقف الذي أنا فيه، وكم أحتاج لمساعدة هذا الشخص حتى أنني مُستعدة للجلوس على هذا العفن، بلا إضاءة، وبلا هواء؛ واضعة آخر ما تبقى لي من أمل في النجاة بين يديه. طلب مني أن أخلع ملابسي حتى يتمكن من إدخال الحبة في مهبلي. طلب مني خلع ملابسي ليقوم بإدخال الحبّة في مهبلي. فعلت. فتحت ساقيّ وأغمضت
عينيّ وكتمت أنفاسي.

لم أنطق. لم أنظر حتى في اتجاهه وعيناي مغلقتان. طول ماهو بيكشف ايده رايحة جاية على الكليتوريس. وانا بزقه. هو بيعمل كدة عمد. بس انا مش عايزة ازعله او ازقه جامد او اهزقه. بحاول أتجنب أي مواجهة علشان مش عارفة هو ممكن يعمل إيه فيا واحنا في المكان دة والاتصالات مقطوعة ومحدش يعرف عني حاجة..

قال سننتظر عشر دقائق. ظللت كما أنا، على المساند والوسادات الأسفنجية، وساقيّ مثنية. مرّ الوقت بصعوبة. لم يكُن هناك شبكة اتصال لأتصفّح أي شيء وأشتت انتباهي عمّا يحدث. كأن الظروف تُعذبني ببطء. تتصل سلمى في خضم هذا كله. تُغلق الخط وتتصل مرة ثانية وثالثة وعاشرة. لم تكِل. أعطاني هاتفه وطلب مني الرد عليها وطمأنتها. فعلت. أغلقت معها الخط، وإذا بها تتصل مُجدداً.

وضع يده مرة أخرى ليتأكد من ذوبان الحبّة. أخرجها والحبّة بين أصبعيه، وتظاهر بالإحباط.

قال يجب أن تُساعدينني. يجب أن تذوب الحبّة الآن. سألته كيف؟ قال يجب أن أكون مُبللة. لم أفهم. تنهّد كمَن يشرح لطالب غبي: "يعني لازم يكون في إفرازات. لو تحبي أنا ممكن أساعدك. أو أنا ممكن أسيبلك الأوضة تماستربيتي براحتك".

لم أنطق بكلمة. همّ بتقبيلي على شفتي. وكنتُ أرتعش من الهلع. قعد جنبي وحط ايده على كتفي من ورا وقالي: "تسنيم، انتي مش واثقة فيا ولا ايه؟ انا قولتلك ان اهم حاجة ما بين الدكتور والمريض الثقة.

فهمتُ أن المساعدة بالنسبة إليه أن يُمارس الجنس معي، هنا والآن، وأنني لو رفضتها سيكون عقابي أشد. كان الاختيار صعبًا. أختار بين نجاتي وبين ممارسة الجنس بالابتزاز. لأن ما وضعني تحت رحمته هو أنني مارستُ الجنس. مارسته للحب. فلماذا لا أمارس الجنس معه وهو يوفّر لي مقابل خروجي من ورطة الحمل؟ كنتُ في تلك اللحظة أنهار بالكامل. وبداخلي صوت لم أقدر على إسكاته: "غادري الآن ولو لم يتبقَ اختيارات عودي وأعطه ما أراد. اذهبي لطبيب آخر ولو فشلتِ، عودي إليه واخضعي".

كان قبولي بالخضوع لأنجو بحياتي يؤرقني حتى وهو مجرد خاطر يأتي ويذهب بين ثانية وأخرى. كأنني هنا بفعل جنسي بإرادتي، ولن أغادر إلا بفعل جنسي رغمًا عني. فنطقت مُسرعة: سيبني أنا هتصرف طيب. أثناء كل ذلك، لم تتوقف سلمى عن الاتصال بالطبيب. يُغلق الخط وتتصل مُجددًا. مرّت نصف ساعة وهي على هذه الحال. كتَمَ صوت جرس هاتفه. لكن ذلك لم يمنعه من النظر للهاتف كل ثانية، ليرى اسمها على الشاشة. بدت كتهديدٍ ما. وبدا مُرتبكًا. ثم ثار غضبه في لحظة. قال:

"خلاص بقي ك*م كدة هي مين يعني فاكرة نفسها مين. وقالي كدة خلاص قومي البسي." ببطء ارتديت ملابسي على أمل أن يُغير رأيه. كنا على مشارف إتمام الإجهاض لولا اتصالات سلمى. شعورٌ آخر تسلل إليّ: الخضوع. لم يكُن رفضي للطبيب قاطعًا. كنتُ أساومه بسلاسة. أفاوضه كأنه أمر عاديّ أن أمارس الجنس معه أو حتى بمفردي في وجوده مقابل الإجهاض. خرجتُ من الغرفة وراءه ومنها للسيارة، وبداخلي تناقض: هل أنقذتني سلمى مما لم أستطع إنقاذ نفسي منه؟ أم خرّبت ما أنا هُنا لأجله؟ هل سيُجهضني أم سيُعاقبني أنني لم أطلب من سلمى عدم التدخل بيننا؟ أخطو للخارج وبداخلي أريد البقاء. لكني في نفس الوقت أريد المغادرة. ضدّان لم يفارق الخزي أيهما. طول الطريق فالعربية ساكت. سكوت فظيع مفيش حاجة خالص. وقالي: "شوفيلك دكتور تاني. انا قولتلك من الاول نخرجها من الموضوع. انا مش هعرف اشتغل وحد واقف فوق دماغي. مش أسلوب يعني مش طريقة".

وصلنا إلى مكان عام حيث انتظرتنا سلمى. تعاملت سلمى بشكل عادي مع الطبيب. كان صامتًا مقتضب الحديث، وكانت تضحك وتُلقي النكات لتهدئة الأجواء. ثم استأذنت للذهاب إلى دورة المياه وسألتني إن كنتُ أريد الذهاب معها، فوافقتُ.

أصبحنا بمفردنا فسألتني سلمى بشكل واضح: "مكنتيش بتردي عليا ليه؟ هو اتحرش بيكي؟" بكيتُ وحكيتُ ما حدث في شقته وأنه طلب منّي صراحةً ألا تكون موجودة وإلا لن يقوم بإجهاضي. احتضنتني سلمى وسألتني: "انتي حابة ان انا امشي؟ يعني انتي مش عايزاني؟ شوفي انتي محتاجة ايه وأنا هعمله." فأجبتها فورًا أنني أريدها معي. اتفقنا أننا سنُكمل الإجهاض معًا حتى لو لم يوافق الطبيب على حضورها.

رجعنا مرة أخري للجلوس معه. لم تُعره سلمى اهتمامها وكأنني لم أخبرها شيئًا، ثم اقترحت أن نذهب للعيادة ليُعطيني الحبوب المحفزة للإجهاض ونبدأ. لم يرفض لكنه كان يستشيط غضبًا. ذهبنا للعيادة حيث أعطاني الحبّة الحقيقية وليست المزيفة التي أعطاها لي في الشقة في الصباح. كان كشفه عاديًا جدًا في حضور سلمى. لم يتجاوز في اللمس أو النظر لجسمي. قال الطبيب إن مفعول الحبّة سيسري بعد ساعات قليلة. وإنه يجب عليّ الحضور مرة أخرى في السابعة مساءً لنذهب نحنُ الثلاثة إلى شقته حيثُ سيتمم الإجهاض.

لذلك من الأفضل أن أخبر عمّي وزوجته أنني لن أبيت في المنزل الليلة. قبل أن نغادر العيادة، طلبت منّي سلمى انتظارها دقائق خارج العيادة. فعلت. عندما انتهت من لقاءها السريع مع الطبيب، أخبرتني أنها حاولت صرف نظره عنّي. أعطته وعدًا زائفًا في حال أتمّ إجهاضي، سيُمارس الجنس معها هي. سال لُعابه كالكلب. أشعرني ذلك براحة نسبيّة. واضح أن سلمى تعرف كيف تُدير الأمور.

ذهبتُ لمنزل عمّي. تناولنا الغداء وأخبرته أنني سأقضي الليلة عند صديقتي. هاتفَ والدتي للتأكد من كلامي. بعدها بساعة بدأ الطلق.

طلبتُ أوبر وتوجّهت إلى شارع عمومي. انتظرني الطبيب في سيارته. ركبت معاه العربية. راح علي صيدلية عشان يديني حقنة مسكن للألم. اداني الحقنة فالعربية وكلم دكتور تخدير صاحبه علشان يجيب مورفين من عنده. وانا مش قادرة علي الوجع. انا متألمة بشكل واضح. وهو بيقولي: "انتي شخصية واطية وزبالة انا مخدتش منك أي حاجة لحد دلوقتي. اسألي حتي البنت اللي قبلك اللي انا عملتلها إجهاض. عملت معايا كذا وبقينا صحاب اوي. بس انتي زبالة. انا مخدتش منك ولا حتى بوسة." وانا نفسي أقوله: "هو إحنا في ايه ولا في ايه؟ انا ماليش دعوة. خلصني من الموضوع".

وصلنا إلى سلمى وأخذناها معنا، وتحركنا جميعًا لشقة الطبيب. لا أنا ولا الطبيب كنا نعرف وقتها أن سلمى أرسلت بثًا حيًا لصديقتها وأن هذه الصديقة الآن تلحق بنا. كان الطريق مملًا طويلًا، والألم لا يتركني رغم المُسكنات.

وصلنا وكان إحساس دخولي للشقة مختلف عن الصباح. الآن يُمكنني أن أطمئن قليلًا وأنا أعلم أن هناك امرأة ستعتني بي. الآن يُمكن أن يشغل بالي الألم فقط والخوف من الإجهاض فقط، لا الخوف من الاغتصاب أو القتل. لكن دخول سلمى للمكان كان مختلفًا.

كانت مقبوضة رغم محاولاتها لئلا تبدو كذلك. ظلت تراسل أحدًا على واتساب. دخلتُ الغرفة التي بها الوسادات وخلعت ملابسي. لحقت بي سلمى وسألتني: "المكان هنا قذر. لو في مكان تاني في بيت واحدة أعرفها، تحبي تروحي عندها ولا تكملي هنا؟" لم ألبث أن أوافق بالإيجاب حتى قمتُ مُسرعة للحمّام، أتقيأ مرة تلو الأخرى. وبينما تسندني على كتفها لأرجع مكاني، أخبرتها بأنني موافقة على الذهاب. فقالت أن صديقتها في الطريق إلى هنا لتأخذنا معها. ذهبت سلمى للطبيب في غرفة أخرى ثم سمعتُ شجارًا بينهما:

الطبيب: انتي ازاي تقولي لحد وكمان مديالها العنوان؟ انتوا فاكرينها رحلة وبتعزموا صحباتكوا؟

سلمى: تسنيم مش مرتاحة والمكان هنا مش نضيف. وطبعًا إحنا مبلغين ناس بمكاننا. افرض حصلنا حاجة هنا؟

الطبيب بغضب: انتوا بتهزروا. هتودونا في ستين داهية.

سلمى ببرود: لو كدة كدة رايحين في داهية يبقى في مكان أنضف من كدة. صاحبتي وصلت هروح أفتح لها.

كان شجار سلمى مع الطبيب هو اللحظة الأولى التي أشعر فيها بالطمأنينة منذ علمت خبر الحمل. لحظة شعرتُ فيها أن هناك امرأتان كل منهما على أتم الاستعداد لانتشالي من هنا ومن هذا الموقف. لم أعُد بمفردي بعد الآن. أما هو، فلم يصبح لديه خيار. أنا في مرحلة الطلق، ولا رجوع منها. لن يقدر على تهديدي بعد اتمام الإجهاض إن لم يمارس الجنس معي أو مع سلمى بعد أن عرفنا اسمه ومكان عيادته وعنوان هذه الشقة وأرقام لوحة سيارته. مفيش حاجة هترجعنا دلوقتي. اخبط دماغك فالحيطة وخلصني من اللي انت حطيتني فيه. بقيت مطمنة اكتر. موقفي بقي اقوى.

خرجت سلمى دقيقة ثم عادت ومعها صديقتها – سمر. دخلا سويًا. يعلو أنيني وأبدأ في صراخ مكتوم. أحاول معه فِهم ما يحدث بالخارج. لم يوقف الطلق فضولي. ولم يمنعني الألم من الانتباه. أرى ما يحدث من آخر الرواق ومن فوق الوسادات. بدت سمر امرأة ثلاثينية مهمة ولو لم تتجاوز الخمس وعشرين. تسريحة شعرها وحذائها ذو الرقبة الطويلة وطريقة سحبها لهاتفها الغالي من جيب البالطو قالوا ذلك. ظهور دبلة زواجها بينما تدفع الكمكمة بيدها اليُسرى لتتنفس، جعلتها تبدو كزوجة لضابط شرطة أو ضابط جيش. امرأة مهمة جاءت لتُنهي الموقف. لتُنقذني وتنقذ سلمى.

مع أول خطوة لها داخل الشقة، رمقتها بنظرة احتقار. خطوتان إلى الداخل وبدت مُتقززة من المكان. مُتعمّدة أن تدخل هذه الدَخلة. رتّبت لها كما رّتبَ الأولتراس دخلاتهم في استاد القاهرة. مُستعدة ومُتأهبة. مُتأففة ومُستنفرة. خافضة عينيها تتفحّص القذارة. ترفعها من الأرض للطبيب والنظرة نفسها: احتقار واشمئزاز. مع كل خطوة دويَّ صوت كعب حذائها بادئًا عد تنازلي لمغادرة الزريبة. تتخايل كأنها ابنة باشا وصلت لتوّها من المدينة، لتجد رائحة فضلات البهائم تفوح من القرية. لا شك أن دخولها وتخايُلها واستعلاءها المُتعمّد أربكه. مازالت ابنة الباشا، ومازال الطبيب أحد البهائم.

تشتتَ بعد توقعه لشابة صغيرة بالكوتشي مثل سلمى. اعتقد للحظات أنه سيرفض اصطحابها لنا. وكانت خطته أن يُنكر قدرتها على استضافتنا. رآها وتبدّل حاله. شعرَ بالوضاعة. هذا ما تفعله المظاهر في رجالٍ ظنّوا أن بإمكانهم استضعاف النساء. يستقوون، ثم يدركون أن الاستقواء درجات. أن الطبقة وثقة المرأة أنها مسنودة ستُشعره بالصِغر، بالضآلة، وبأن تلك المرأة بالذات قد تكون نهايته إن تحدّاها.

لم تكُن سمر مسنودة إنما كانت واثقة من قرار الاستضافة. كانت شابة عادية مثلي ومثل سلمى. لكن معطياتها عن الموقف والطبيب والمكان كما أخبرتها سلمى، جعلوها تُدرك سريعًا ما عليها فعله. لما لا؟ سمر نفسها كانت في نفس الموقف منذ أعوام. تسبقها أعوام أخرى من تجارب شخصية ومواقف سياسية صعبة. كانت تملك مفتاح الخروج وتعرف كيف تُديره وفي أي اتجاه. لم تكُن زوجة هذا ولا ابنة ذاك. كانت هي وتجاربها الشخصية في مواجهة مقصودة مع الطبيب.

لملمَ ما تبقى من ماء وجهه بعد نظرات احتقارها له. وقال: "انتي متأكدة إن البيت عندك أمان؟" لم ترد. كأنه هواء مكمكم كذلك الذي يملأ هذا الجُحر. وجهت كلامها لسلمى وسألتها أين كنت.

تبعت سمر خطوات سلمى للممر الذي أرقد في نهايته داخل غرفة على الوسادات الإسفنجية، على الأرض، وبلا إضاءة. ها نحنُ الآن على بداية طريق النهاية. جلست إلى جانبي وقالت: "متخافيش ياحبيبتي كل حاجة هتبقى كويسة. تحبي تيجي عندي البيت؟" وكانت المرة الثانية التي يتم سؤالي فيها عمّا أرغب به. كدتُ أنسى أنه يُمكنني الرغبة في شيء. وعلى قدر ما كان اتخاذ أي قرارات في هذا الوقت صعبًا إلا أن هذا السؤال بالذات تبعه في المرتين قرار واثق: أيوة خرجوني من هنا. ساعداني على ارتداء ملابسي. خرجنا من الشقة. تركنا أسوأ مكان دخلته في حياتي. تركتُ المكان الذي كنتُ فيه على وشك الخضوع للطبيب. تركته وتركتُ فيه قلة حيلتي وضعفي.

لكن ألم الطلق صاحبني. لحقنا هو إلى سيارته واتجهنا إلى منزل سمر. طول الطريق قاعدة في ألم وترجيع. وفي بالي: ليه كدة ياربي. شيلي المبايض كلها. انا مش عاوزة ابقي ست تاني ابدًا.


بينما تضرب المطبّات ركلات في بطني من الخارج ويركلني الطلق من الداخل، كانت سمر وسلمى تتوجهّا بالحديث إليّ.

تروي كل منهما قصة إجهاضها بسخرية مقصودة، لعل ذلك يهوّن عليّ ما أنا فيه، أو يصرف تركيزي عن الألم. وصلنا إلى منزل سمر في الواحدة صباحًا. وكان كل تفكيري مُنصبًا على المقارنة بين الشقتين: شقة سمر وشقة الطبيب. تسللّت إليّ شماتة سريعة ومُستحقة.. حسيت براحة كبيرة. خلاص مبقاش بيلعب في ملعبه. مبقاش هو المتحكم الوحيد. حطيناه ادام الأمر الواقع.


فتحت سمر باب غرفة ودخلنا جميعًا. لم يتركنني وحدي معه حتى عندما طلب منهما الخروج. سآلاني، كعادتهما، فأجبت أنني أريدهما معي. لم يعترض الطبيب، وبدأ يضخّ المورفين في الكانيولا. استلقيتُ على السرير وتحتي مفرش طبي. سمر على يميني وسلمى على يساري والألم يأكلني حيّة. كل منهما تطوّقني بذراعيها. فتحتُ ساقيّ عن آخرهما، وللمرة الأخيرة.

أصرخ من الألم، ومع كل صرخة تطلب مني سلمى أن أكتمها حتى لا يتساءل الجيران. أما الطبيب ففتح كيس الرحم وطلب مني أن أدفع الجنين للخارج. واحد، اثنان، ثلاثة. خرج الجنين. خرج بسهولة لم أتوقّعها.

رفعتُ رأسي. نظرتُ لأسفل. فأرجعتني سلمى وسمر للوراء مرة أخرى. لكنني رأيته. بينما تنهمر دموعهما من هول الموقف، قالتا: حمد لله على السلامة.

يا الله! حسيت بارتياح. كأن كل حاجة هديت في ثانية. بس كمان حسيت بالذنب. وخصوصا ان انا شوفته. انا فاكرة اللحظة دي بوضوح جدا. يعني هو اول ما خرج.... انا فاكرة... يعني.... الصورة ادامي.... كأني لسه بعيش اللحظة دي مرة تانية.. اتمني لو كنت عملته بدري عن كدة. بس انا فعلا مكنش في ايدي حاجة اعملها ومعملتهاش.

قبل أن يُخرج الطبيب مشيمتي، وضع الجنين في كيس قمامة أسود حيث لفظ عدة أنفاس وفارق جسدي للأبد. أخذتني سلمى لأتحمم، وكانت سمر بالداخل تُجهّز لي المياه والملابس. وقفتا معي. أغمضتُ عيني كما أغلقتهما في شقة الطبيب صباح يوم الجمعة، بإحساس مختلف تمامًا. في الغمضة الأولى كنتُ خائفة. أحارب وحدي في معركة غير عادلة. لا أعرف حتى إن كانت ستنتهي بموتي. وكان هذا الطبيب هو ملاذي الأخير. كنت بقول لنفسي مش هرجع من مصر غير يا اما انا متخلصة من الجنين. يا اما هنخلص انا وهو سوا. في الغمضة الثانية، كانت المعركة انتهت، ولصالحي. أنا حيّة!

كنتُ أخفّ وأعلم أنني بخير. أعلم أن الأسوأ قد مضى. أعلم أنني غير مُهددة بالموت أثناء الإجهاض، أو بالفضيحة، أو بممارسة الجنس مع الطبيب ليُجهضني. تنزل المياه الساخنة على رأسي مُتخللة شعري وكأنها تغسل كل تلك الهواجس وكل هذا الخوف. تستبدل الرعب بالأمان، والهلع بالطمأنينة. تستبدل المجهول بالمعلوم.

حممتني سلمى وسمر. كنتُ أمامهما عارية لأول مرة في حياتي أمام نساء. لم أشعر بالخزي. بالعكس. كان هناك حميمية لم أختبرها قبلًا. واحدة تُجفف جسمي من الماء، والأخرى تلحقها بالملابس أينما جففت. واحدة تُجفف شعري، والأخرى تُمشّطه. لم يخطر في بالي أبدًا مشهدًا طيبًا وحميميًا كهذا. عُدنا إلى الغرفة، واستلقيتُ على ذات السرير. راسلتُ عادل وطمأنته أن الأمر انتهى. جهّزت سمر وجبة خفيفة، وجلست سلمى بجواري تطلب مني أن آكل.

سألتها: انتي إيه يجبرك تعملي كل دة معايا؟ انتي ادتيني رقم الدكتور وكان ممكن مساعدتك تقف هنا.

قالت لي: "لما كنت في نفس الموقف دة كنت لوحدي. مش عايزة ست تمر بالتجربة دي لوحدها مرة تانية."

في كل مرة أتذكّر كلامها، أبكي كما بكيتُ أمامها واحتضنتها وشكرتها. من وقتها وبداخلي إيمان قوي: انا كمان ممكن اعمل كدة... اذا ست اتحطت في نفس الموقف. هعمل أي حاجة اقل من اللي سلمى عملته معايا.. مش المفروض اي ست تعدي بتجربة زي كدة ولوحدها.

كانت الثالثة فجرًا، استسلمتُ للنوم أثناء حديثي مع سلمى. فأطفأت الأنوار وتركتني أستريح. كانت سمر جالسة مع الطبيب في الصالة. ينتظران خروجها من الغرفة. أعطته سلمى مبلغًا سلّمته لها قبل نومي، وطلبت منه أن ينتظر البقيّة غدًا. وافق على مضض.

كان يهمّ بالمغادرة، لكنّ مخاوف سلمى دفعتها للدخول مرة أخرى للغرفة. فتحتْ كل خزانات الملابس. نظرتْ تحت السرير. فتحتْ أدراج الكومودينو تبحث عن الجنين. كانت تخشى أن ينتقم منّا الطبيب بأن يترك الجنين في منزل سمر ويُبلغ عننا نحنُ الثلاثة. حتى وهي تراه مُمسكًا بكيس القمامة، وترى وزنه الثقيل بعينيها، كانت ثقتها في الطبيب معدومة. لم تتركه ينزل حتى تأكدت أنه أخذه معه، وأن بمجرد خروج هذا الطبيب من منزل سمر، فكل شيء انتهى.

فيان سورا الاندساس ، 2022 زيت ووسائط مختلطة على قماش 72 × 72 بوصة
فيان سورا ، "الاندساس" ، زيت ووسائط مختلطة على قماش ، 72×72 بوصة ، 2022 (بإذن من لويس دي خيسوس لوس أنجلوس).

 

خرج الطبيب وهاتفَ سلمى بعد نصف ساعة يُخبرها أن هناك ثلاثة آلاف جنيهًا إضافية، طلبها غفير المقابر ليدفن الجنين في مقبرة مجهولة، وبذلك كلفني الإجهاض عشرين ألف جنيه تقريبًا أو ألف وثلاثمائة دولار أمريكي. وافقت سلمى وأغلقت الخط.

في الحادية عشر صباحًا، استيقظتُ لأجد سلمى وسمر جالستان. تبتسمان في وجهي وعلى وجهيهما علامات قلة النوم والإرهاق. تناولنا الإفطار مُبتسمات ابتسامة انتصار. نتبادل الحديث عن تلك الليلة الغريبة التي لن ننساها طالما حيينا. كنا في صباح يوم انتصار لحرب داميّة سادها الخوف وتحكّم فيها الفزع. شكرتهما وغادرتُ مُنطلقة إلى منزل عمّي.

طول الطريق النظرة بتاعتي عن الحياة مختلفة. مكنتش متضايقة من الزحمة زي ماكنت بتضايق..... كانت كل حاجة واضحة. كل حاجة... وطبعا انا فخورة بنفسي انا ان خضت دة وخرجت منه. كنت أتمنى اقدر أوقف دة بدري عن كدة. كنت اتمني.... انا بفكر في اللحظة اللي انا شوفت الجنين وهو بينزل من بطني. وعلى قدر ما حاسة وحش عن دة، انا مكنتش عندي اختيارات تانية. 

بعد إجهاضي بأيام، ذهبتُ مرة أخرى لأول طبيب زُرته في مصر لأطمئن أنني لم ألتقط أي عدوى خلال الإجهاض وأنه لا يوجد أي مضاعفات طبيّة.

ثم، أثناء عودتي للبلد الخليجي، طلبت إحدى الضابطات في المطار هناك أن تفتّشني تفتيشًا ذاتيًا، لأن هناك سائل على ملابسي، فاعتقدت أنني أقوم بتهريب مادة ما. كان هذا السائل لبن يخرج من صدري. وكان في ذهني خاطر غريب كأن الحكاية تُطاردني: قعدت افكر طيب اقولها ايه لو سألتني؟ اذا في لبن في صدري... طيب فين البيبي؟ مش مكتوب فالجواز بتاعي ان انا متجوزة. ولا فالبطاقة ولا أي حاجة. كانت ممكن تعمل ايه؟

ثلاث أيام مرّت على وصولي. استلمتُ رسائل صوتيّة من سلمى تطمئن على صحتي وتُبلغني أنها زارت الطبيب المُبتز في عيادته، وقالت له: أنا مش جيالك النهاردا علشان تنام معايا زي ما وعدتك وقت إجهاض تسنيم. لأ. أنا جاية أقولك إن اللي عملته معاها ومعايا اسمه ابتزاز جنسي، ومالوش اسم تاني مهما بررته. فقال لها: "أنا مأجبرتهاش حتى اسأليها. أنا عرضت وهي كانت حرة توافق أو ترفض." قالتله: لأ مكانتش حرّة. والعرض والطلب دة مفروض يكون له سياق وفي علاقات قوة متكافئة. اللي عرضته عليها وهددتها إنك مش هتجهضها لو معملتوش، لحد آخر لحظة واحنا رايحين شقتك، كان ابتزاز. هي مكنش أدامها تختار الرفض لأنك عارف كويس إنها كانت محتاجة الإجهاض. ولو أنا مكنتش موجودة كنت هتنام معاها وانت عارف إنها مجبرة. مفيش أي مبرر للي عملته. الطبيب: طيب أعمل إيه؟ دي الطريقة الوحيدة اللي أقدر أعرف بيها ستات. سلمى: اعمل حياة اجتماعية يادكتور ومتستغلش ظروف الستات عشان تنام معاهم بالغصب وتحت ضغط إن حياتهم متهددة. خاصة وانت عارف إن في موقف تسنيم، مكانش في أي دكتور غيرك راضي يساعدها. الطبيب: أنا بعتذر عن اللي صدر مني وشكرًا انك جيتي لحد العيادة تقوليلي دة. أنا هعتذرلها هي كمان. سلمى: متتواصلش معاها نهائيًا. أنا هبقي أبلغها.

أبلغتني سلمى أنها قطعت صلتها بالطبيب بعد أن هددته إن فعل ذلك مرة أخرى ستُدمر مستقبله. أما أنا، فكنتُ سعيدة بما فعلته من أجلي. شعرتُ بانتصار آخر. قبل تدخلها كان الوضع مختلفًا.

بس كمان كنت حاسة اني زبالة. كان في دماغي اني هديله اللي هو عاوزه بس يخلصني من الحمل. كان عندي زي قبول شوية انه اوكيه خلاص لو هو دا الاوبشن الوحيد هعمله. مكنش عندي رفض قاطع. حسيت إني خذلت نفسي. المفروض يكون عندي موقف. بس انا مكنش بايدي حاجة.. كنت حاسة اني ضعيفة وانه استغل دا بشكل بشع. انا كنت عارفة هنزل مصر اتعذب. بس كنت فاكرة الاستغلال هيبقي مادي. مكنتش فاكرة اني هقابل واحد غيته ينام مع واحدة وهي رايحة تجهض.

صحيحٌ أنني عدتُ لحياتي، لكنها لم تكُن حياتي العادية. هناك أشياء تغيّرت، وأخرى توقفت عنها.

في مغنيين بطلت اسمعلهم. الأغاني اللي كنت بشغلها فالعربية الصبح مثلا وانا رايحة الشغل، بطلت اسمعهم كلهم. الطريق حتى نفسه بطلت اروحه. مبقدرش أشم البرتقان بحس إني عايزة أرجع. لأن فيتامين سي كان كله بطعم البرتقان. فجأة بحس ان موجة غم جت مرة واحدة. والجنس طبعا اتغير. حتى علاقتي مع جسمي وشكلي ادام المراية دلوقتي.

من ضمن تلك الأشياء هو عملي. بعد رجوعي، تبدلت تعاملاتي مع زملائي.

دلوقتي محدش بيقدر يتكلم معايا. قبل الإجهاض كنت عادي بقبل وبسكت. دلوقتي والله العظيم ماحد بيفتح بؤه معايا. ببقى هاين عليا أقول لأي حد بيضايقني: "انت مش عارف انا عملت ايه علشان أكون دلوقتي لسه موجودة."

 

الأجزاء بالخط المائل أو بالعمية المصرية هي اقتباسات مباشرة من النساء اللواتي قابلتهن المؤلفة.

غدير أحمد كاتبة وناشطة نسوية وباحثة مصرية متخصصة في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي. حصلت على الليسانس في الأدب الإنجليزي من كلية الآداب جامعة طنطا العام 2012. أكملت دراساتها العليا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وحصلت على دبلوم في إدارة المنظمات غير الحكومية العام 2014. حاصلة على دبلوم في الدراسات من الجامعة الأمريكية بالقاهرة العام 2016 تخصص دراسات النوع الاجتماعي. بدأت مشروعها الأول "حكايات الإجهاض" العام 2017، الذي نشرته دار المرايا للثقافة والفنون في العام 2023 في القاهرة، وفازت بمنحة الكتابات الإبداعية والنقدية من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).

هالة كمال أستاذة دراسات النوع الاجتماعي في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، جامعة القاهرة - مصر. تتركز اهتماماتها البحثية ومنشوراتها باللغتين العربية والإنجليزية في مجالات دراسات المرأة والنوع الاجتماعي، ودراسات الترجمة، ودراسات السيرة الذاتية، وتاريخ الحركة النسوية المصرية. ترجمت العديد من الكتب حول النوع الاجتماعي والنسوية إلى اللغة العربية. تشمل أحدث منشوراتها فرجينيا وولف باللغة العربية: قراءة نسوية لاستراتيجيات الترجمة (2021). النشاط المدرسي: الترجمة النسوية كإنتاج معرفي من أجل التغيير الاجتماعي (2021)، كما شاركت في تحرير كتاب دليل روتليدج للترجمة والنسوية والنوع الاجتماعي (2020) مع لويز فون فلوتو.

الإجهاضالأدب العربي في الترجمةمصرروائيقصة قصيرةحقوق المرأة

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *