جزيرة بلا بحر: أوديسة البحرين

4 يونيو، 2023

 

كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً          خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ

 

علي الجمري

 

إن مقدمة معلقة طرفة بن العبد، وهي واحدة من أعظم المعلقات في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، بحرينية تقليدية لدرجة أنني لا أستطيع مقاومة الابتسام كلما قرأتها. في السطر الثالث من القصيدة، يشبه الشاعر قوافل الصحراء بالسفن ويشبه الوادي بالبحر. يشير السطر الرابع إلى "عَدَولى"، التي كانت آنذاك بلدة مخصصة لبناء السفن في منطقة البحرين الكبرى. يستحضر السطر الخامس صورة لهذه القافلة التي لا يمكن إلا للبحار أن يرسمها:
يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيزومُها بِها      كَما قَسَمَ التُربَ المُفايِلُ بِاليَدِ.
في السطر السادس، يصف حبيبته خولة التي تزين رقبتها النحيلة بعقد من الزبجرد واللؤلؤ.

هناك استعارات عن الإبحار. هناك أسماء أماكن بعينها. حتى إن هناك قلادة من اللؤلؤ. شاعرنا في القرن السادس لا يسهب في الحديث عن هذه الصور لفترة طويلة جدًا، في الواقع، معظم القصيدة هي وصف مفصل عاطفي لجَمَله -ولكن في المقدمة الموجزة، سيعلم القارئ أن الشاعر يريده أن يعرف أنه بحرينيًا قد كتب هذه القصيدة.

بين جزيرتين تحرير علي الجمري.

هذه الزخارف تقليدية للغاية. بين جزيرتين، مختارات من الشعر البحريني البريطاني الذي قمت بتحريره، تبدأ بهذه السطور لطاهر عادل: غواص لؤلؤ معاد تجسيده/ يغوص أولًا في بحار الأجداد / يجد لآلئ تشبه الوجوه. بالمثل، مسوداتي المكتوبة مليئة باستعارات اللؤلؤ والغواصين والعيون والمراكب الشراعية. أدرك هذه العلامة الفخورة في عمل طرفة بن العبد لأنني أضفت مثلها إلى عملي. علامة تجارية بحرينية، نريد أن نقول إن هناك لآلئ في بحرينا.

نعم، البحر حاضر دائمًا في اللغة الاصطلاحية الخاصة بالبحرين. اكتشفت العمل المفضل لديَّ في قاموس السيرة الذاتية في القرن الثامن عشر لؤلؤة البحرين، من  تأليف يوسف البحراني، الذي منحه أحد العلماء الأوائلفي العصر الحديث عنوان غواص بحر المعرفة. دعونا نغوص في تلك البحار الآن.

الرابط بين البحرين والبحر يعود إلى ما هو أقدم بكثير من طرفة. في ملحمة جلجامش،  بحث البطل عن الخلود يأخذه في رحلة بحرية إلى أرض بعيدة حيث ينتظر سلفه الخالد العتيق. عندما يحطم هذا الجد (له أسماء متعددة: أوتانابشتيم وأتراهاسيس وزوسودرا) حلمه بالحياة الأبدية، فإنه يقدم لجلجامش عوضًا عن ذلك ما يرضيه: في "أبزو"، البحر تحت البحر، نبات يمكن أن يعيد شباب المرء.

ما إن سمع جلجامش هذا القول...
حتى أمسك رمحًا، وألقى أدواته،
وربط بقدميه أحجارًا ثقيلة،
ولما شدته إلى الآبزو،
أخذ النبتة التي وخزت يده،
وفك قدميه من الأحجار الثقيلة،
فألقاه اليم على الشاطئ

سرعان ما سرق ثعبان هذا النبات، ما أثار استياء جلجامش، لكن ليس من قبيل المصادفة أن يستخدم الملك الأسطوري تقنيات تستحضر تقنيات غواصي اللؤلؤ في الخليج للوصول إلى أعماق البحر. يمثل الأبزو في الأساطير السومرية طبقات المياه الجوفية العذبة التي يعتقد أن البحرين سميت باسمها. البحران في اسم البحرين هما عينا مياه عذبة غنيان، ينفثان الماء تحت البحر المالح. هذه العيون تنفجر في عدد لا يُحصى من المواقع في البحرين، سواء على الأرض أو على امتداد قاع البحر. إنها سبب خصوبة تربة الجزيرة كما تمثل عامل تمكين للبحارة في الخليج، الذين اعتمدوا ذات مرة على معرفتهم بوجود عيون الماء العذب تلك في البحر للحصول على مياء الشرب الخاص بهم.

كان إنكي إلهًا سومريًا مرتبطًا بالأبزو، وكان يُعبد في دلمون، أي البحرين القديمة. نظر السومريون إلى دلمون على أنها أرض الحياة الأبدية والوفرة. لم يمرض أي شخص أو يتقدم في السن أو يجوع في دلمون. كما تخبرنا إحدى القصائد السومرية:


دلمون أرض نقية طهور...
لا ينعق فيها غراب
ولا يزأر أسد
ولا تشيخ فيها امرأة أو رجل
ولتصبح دلمون ميناء للعالم كله

يطل معبد باربار على البحر من فوق أحد التلال ويقع على قمة عين غنية، بُني على الساحل الشمالي للبحرين وكُرِّس لعبادة إنكي. عمره خمسة آلاف عام، موقعه هو مكان التقاء البحر والربيع والحضارة. هنا، طهر المصلون أنفسهم تطهيرًا طقسيًا في الربيع. هنا، قُدمت الأضحيات لإنكي. هنا، ضُغط التمر وصُنع منه نبيذ عُد خمرًا مقدسة.

ربما ليس من الصواب اتهام الطبيعة بالتخلي عن المكان. ربما نحن الذين طردنا الطبيعة.

تم هجر وإهمال معبد باربار ثلاث مرات. المرة الأولى عندما هجره سكان دلمون الذين تركوه ليندثر، ربما بسبب التغيرات التي حدثت لمعتقداتهم الدينية أو السياسية، بعد ألف عام على الأقل من الاستخدام المتواصل (أقدم مبنى يعود تاريخه إلى 3000 قبل الميلاد، ويعود الأحدث إلى 2000 قبل الميلاد). ظل الموقع في سباته العميق لآلاف السنين، وأعيد اكتشافه من قبل علماء الآثار في خمسينيات القرن العشرين.

الآن تم هجره مرة أخرى.

رجل يخوض في نبع معبد باربار بعد حفريته. لقد جف الربيع اليوم (تصوير علي الجمري)
رجل يخوض في عين معبد باربار أثناء أعمال الحفر والاستكشاف. لقد جفت العين الآن. (حقوق الصورة لعلي الجمري)

عندما زرت الموقع مؤخرًا، كان هناك حارس يشعر بالملل يراقب المدخل الوحيد. حدد سياج منخفض المكان. تم تجهيز مركز الزوار الصغير، الأكبر قليلًا من مقصورة محمولة لامعة، على أمل جذب الاهتمام الوطني واليونسكو. هناك صورة لعلماء الآثار الدنماركيين الذين قادوا الحفريات وهم يدخنون الغلايين ويرتدون الغتر، صورة أخرى لحشود القرويين المحليين الذين تم توظيفهم للقيام بالعمل الحقيقي: الحفر. تظهر صورة أخرى رأس الثور العظيم، الأيقونة الدينية المعروضة بفخر في المتحف الوطني والرمز الأكثر شهرة لحضارة دلمون. تظهر إحدى الصور الملونة رجلًا يخوض في العين حتى كاحله، كانت العين لا تزال متدفقة بالحياة في خمسينيات القرن العشرين، بعد خمسة آلاف عام من قيام أسلافنا بتبطينها لأول مرة بجدران من الحجر الجيري وبناء مجمع لمعبدهم. ولكن بعد نوبة النشاط التي اشتهر بسببها مركز الزوار الصغير هذا، حولت انتباه وزارة الثقافة انتباهها إلى مشاريع أكثر بريقًا من معبد قديم في قرية قديمة.

الهجر الثالث قامت به الطبيعة. اختفى التل، سويت الأرض بمرور آلاف السنين. لا يمكن رؤية البحر أو سماعه أو شمه، تقوم مشاريع الاستصلاح بإعادة تشكيل الساحل بحيث يصبح في أقصى الشمال. أصبحت العين، التي تدفق ماؤها بقوة لآلاف السنين، جافة لعدة عقود. ربما ليس من الصواب اتهام الطبيعة بالتخلي عن المكان. ربما نحن الذين طردنا الطبيعة.

الغياب يُثقل هواء باربار الساكن.

 


 

لا يزال ساحل المالكية جميلًا. يحتضن البحر الرمال بشكل عابث. يمتد من قرية المالكية التي، على عكس باربار الواقعة في قلب المناطق الريفية، تجاور قصرًا ملكيًا بالإضافة إلى الجيران الذين تجذبهم القصور. إنه أحد الشواطئ العامة القليلة المتبقية في البحرين، معظمها يملكه الفنادق والشركات والأفراد. تقع المالكية على الساحل الغربي للجزيرة، وفي يوم صاف يمكن للمرء أن يرى أرض الجزيرة العربية البعيدة.

يدعي أهل المالكية أن طرفة ينتمي إليهم. كان من قبيلة مالك، وكانت "المالشية" – النطق العامي للمالكية – أحد منازل القبيلة. منذ حوالي 1500 عام، ربما جلس شاب مثل طرفة على هذا الشاطئ نفسه، يكتب شعرًا عن القوافل التي تشبه السفن والوديان التي تشبه البحار.

بالطبع، لم يكن حقًا الشاطئ نفسه، أو البحر نفسه. كانت الطبيعة التي عرفها طرفة مختلفة عن طبيعة اليوم في تفصيلين رئيسيين: ملامح الأرض وصحة البحر.

تتطلب النيوليبرالية نموًا غير محدود. في البحرين، أصبح هذا رغبة في "زرع الأرض" خارج حدودها الطبيعية. جزر البحرين هي بالفعل واحدة من أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان في العالم. في العام 1941، وهو أول عام جرى فيه تعداد للسكان، كان عدد سكان الجزيرة 90000 فحسب. اليوم، العدد أكثر من 1.5 مليون. تبلغ مساحة هذه الجزر 786.5 كيلومترًا مربعًا. نسبة كبيرة من تلك الكتلة الأرضية هي صحراء غير مأهولة، تتركز عيون المياه العذبة الواهبة للحياة على طول الربع الشمالي من البحرين، وقد تجمع سكانها حولها منذ فترة طويلة. البلد بأكمله أصغر من العديد من المدن الكبرى؛ مساحة مدينة الرياض 2000 كيلومترًا مربعًا، القاهرة 1,200 كيلومترًا مربعًا، لندن 1600 كيلومترًا مربعًا، نيويورك 1200 كيلومترًا مربعًا، والبحرين، على عكس تلك المدن، ليس لديها تقريبًا أي منطقة نائية يمكن الاعتماد عليها للحصول على الغذاء والماء والمواد.

على مدى السنوات الخمسين الماضية، دفع الإدمان النيوليبرالي على أرقام الناتج المحلي الإجمالي السنوية المتزايدة باستمرار الاحتياطياتَ الطبيعية في البحرين إلى حافة الهاوية. كانت الأرض أول ما ضاع. تم توسيع القرى والبلدات بشكل كبير. أصبحت الأراضي الزراعية التي عمل فيها جدي ولعب فيها عندما كان طفلًا في ثلاثينيات القرن العشرين الحيَ الذي نشأت فيه عائلته في سبعينيات القرن العشرين. تدريجيًا، أصبحت "أرض المليون نخلة" "أرض المليون فيلا". لكن لا شيء أفسد خزانات المياه الجوفية - أبزو - أكثر من التنقيب عن النفط. في زمن ما، انتشرت مئات قنوات الري من صنع الإنسان في الأرض وسقيت عددًا لا يُحصى من مزارع التمر والبساتين. يمكن لأمي أن تتذكر اللعب فيها في أواخر الستينيات، لُقب أكبرها بالأنهار. ومع ذلك فإنني أجد صعوبة في تخيل وجودها. عندما جفت عين عذاري - أحد أكبر العيون في البلاد - تم بناء حمام سباحة هناك عوضًا عنه.

يظهر تراكب خريطة البحرين الساحل الشمالي في عام 1937 مقابل الساحل الحديث والجزر الجديدة. تم تطوير الساحل الأصلي بشكل لا يمكن التعرف عليه (بإذن من علي الجمري).
يظهر تراكب خريطة البحرين الساحل الشمالي في العام 1937 مقابل الساحل الحديث والجزر الجديدة. تم تطوير الساحل الأصلي بشكل لا يمكن التعرف عليه. (الخريطة من MapBH.org).

مع استخدام معظم الأراضي بحلول نهاية القرن العشرين، تحولت البحرين نحو البحر. استصلحت البحرين قطعًا صغيرة من الأراضي لعقود، لكن مطلع القرن شهد تحولًا نحو المشاريع الضخمة. جاء أولًا الميناء المالي، مع العظمة القبيحة لناطحات السحاب التي بُنيت قبل تدفق الأموال. ثم ظهرت الأباطيل المبهرة مثل جزر أمواج، مع وعودها الحريرية بأسلوب حياة ساحر. في الآونة الأخيرة، شملت المشاريع المدينة الشمالية، التي تضم جيلًا جديدًا من البحرينيين يعيش حيث كان البحر ذات يوم. "استصلاح الأراضي" تسمية خاطئة: كيف "نستصلح" من البحر ما لم يكن ملكًا لأي منا؟ الساحل الشمالي الذي أطل عليه معبد باربار ذات يوم تحول بالكامل. لا توجد الآن أي سواحل طبيعية تقريبًا تحد المحرق أو سترة، ثاني وثالث أكبر جزر البحرين.

ألاحظ تغيرًا كلما زرت البحرين قادمًا من بريطانيا. أتذكر المرة الأولى التي واجهت فيها سوء حظي عندما زرت جزر أمواج في العام 2014. تحتوي هذه الجزر على حدائق ترويها المواسير، وممرات للمشي، ومطاعم لتناول الطعام. بعد أن تناولنا الغداء في أحد تلك المطاعم، مشينا على طول الواجهة البحرية. انحنيت على السور. تحت هذه الجزيرة الجميلة السرطانية كانت جثث عشرات الأسماك تطفو بلا كلل.

البحرين اليوم تبدو وكأنها مدينة خيال علمي - Photo ديار المحرق
تبدو البحرين اليوم وكأنها مدينة خيال علمي. (بإذن من ديار المحرق).

في قلب سترة يقع قبر الشيخ أحمد بن سعدة، في مقبرة جافة، على الرغم من أن الأشجار الصغيرة التي زرعها المحبون القائمون على المقبرة لا تزال توفر بعض الظل. للوصول إليه، كان علينا أن نركن السيارة بعيدًا ونسير بجوار النصب التذكارية لأبناء سترة الذين قتلوا على يد الشرطة. هذه هي سترة القديمة، التي تتذكر الجيوش التي ذبحت هؤلاء والقادة الذين خذلوهم. حتى ما حدث قبل 200 عام يُعد ذكرى حديثة بالنسبة إلى هذه الأرض.

مثل جلجامش أزور سلفًا من عصر مضى. عاش الشيخ أحمد في القرن الثالث عشر، كان أحد كبار علماء البحرين في العصور الوسطى. راسل الرومي وكان معاصرًا لذلك العالم العقلاني العظيم الآخر الشيخ ميثم البحراني، الذي يقف ضريحه الخاص كبيرًا في قريته الماحوز. لكن هذا القبر مبنى صغير بائس. عندما دخلناه، لاحظنا وجود مكيف هواء واحد يعمل بصمت من مكانه فوق الجص المتهالك الذي كشف عن علامات الرصاص على الجدار.

معنى كلمة "سترة" معروف بالعربية. عندما دفن الشيخ أحمد هنا، في الجزيرة التي وُلد فيها، كانت "تسترها" غاباتها الكثيفة من أشجار النخيل. نلقي نظرة على جزيرة الشيخ أحمد في هذه القصيدة التي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر لعبد الجليل الطباطبائي، الذي تشير كلماته إلى "دلمون، أرض الأطهار":

سِرنا على اسم الله في مجراهما
كذاك باسمه لدى مرساهما
حتى قدمنا باعتجال ستره
والله مسيل علينا ستره
ترى بها النخيل باسقات
من كل نوع لذ للجنات
فيها ينابيع المياه قد جرت
في برها وبحرها تفجرت

اليوم، قد يغفر للزائر أن يفوت حقيقة أن سترة هي جزيرته الخاصة. كان استصلاح الأراضي بين سترة والبحرين واسع النطاق لدرجة أن قناة صغيرة فقط تفصل بين الجزر الآن. تدفع المشاريع الواسعة مساحة اليابسة في سترة شرقًا إلى البحر، ما يضاعف حجم الجزيرة. قد يغفر لهم أيضًا إن فشلوا في رؤية جمال الجزيرة. جزء كبير من الجزيرة الآن صناعي. الهواء ملوث. لا توجد أشجار تقريبًا. سترة عارية ومليئة بثقوب الرصاص.

 


 

لقد أصبحت غريبًا عن أرضي. أجبر القمع السياسي في ثمانينيات القرن العشرين والدي على بناء حياتهما في الغرب حيث وُلدت. لم نعد إلى البحرين إلا بعد بعض الإصلاحات في العام 2001 (فيما يتعلق بصمود تلك الإصلاحات، يمكن للمرء أن يشير إلى علامات الرصاص في قبر الشيخ أحمد كمؤشر رمزي). نشأت في لندن، وكنت مغرمًا بصورة البحرين كواحة في البحر. تستكشف قصيدة نثرية لي في زينداباد زين  خيبات الأمل التي واجهناها عند عودتنا إلى هذه الأرض الموعودة:

"كل هذا كان أشجار نخيل في يومي"، اعتاد بابا أن يقول، وهو يطل على بني جمرة من التل حيث كان منزل الملا يوسف قائمًا ذات يوم. يمتد بصرنا من المقبرة المثقوبة إلى المزارع المرصوفة، حيث يشطف الغبار الجدران المبيضة بالشمس لفيلا حديثة ومرآب يتسع لثلاث سيارات.

لم أرَ قط البحرين الخضراء. بصدق، لم أكن لأراها لو وُلدت هناك، حيث بدأت العمليات الاقتصادية التصحيرية قبل أن أولد. لأنه كان عليَّ أن أتخيل البحرين قبل أن أراها، توجد أرضان في رأسي: الأرض الحقيقية التي أعرفها وألمسها وأختبرها، والأرض الروحية التي لا يمكنني الوصول إليها إلا من خلال الأدب والتاريخ الشفهي.

 


 

الأرض مربحة، فماذا تفعل عندما تنفد الأرض؟ في البحرين، يمكنك إنشاء المزيد؛ www.mapbh.org هو مشروع مستوحى من تصور فلسطين. تم حظر تقنية Google Earth - التي تمكن من إنشاء المشروع في الأصل - في البحرين، لأنها كشفت عن مساحة الأراضي التي تمتلكها أقلية خاصة. من خلال نقل الخرائط القديمة المرسومة باليد إلى صور الأقمار الصناعية الحديثة، يمكننا أن نرى على الفور الدمار الذي لحق بالساحل. بنقرة واحدة على عدد قليل من الأزرار، يمكننا بسهولة مقارنة التحول في البحرين. تحدد خريطة العام 1937 المياه الضحلة، التي تبدو وكأنها هالة تحيط بالجزيرة. مع تراكب شبه شفاف، يمكننا أن نرى أن استصلاح الأراضي اليوم عبر الساحل الشمالي والمحرق وسترة يملأ الفراغ بين الساحل الأصلي وتلك الهالة.

في العام 2021 تم الإعلان عن مخططات لمدينة جديدة تضم عدة جزر جديدة متصلة بالجسور. إذا تم المضي قدمًا في المخططات، فسوف تتوسع مساحة اليابسة في البحرين بنحو 100 كيلومتر مربع، ما يؤدي إلى زيادة مساحة البلد بنسبة 12٪. سيتم بناء هذه الجزر الجديدة بالقرب من سترة، وتنتشر شرقًا وشرقًا مرة أخرى. في العام 2023 بدأت المخططات في خلق مخاوف شديدة وأثارت احتجاج البحرينيين، حيث بدأ تمرير السياسات عبر البرلمان البحريني للموافقة عليها، لتمهيد الطريق للبناء.

الأمر المهم هو أن البحر حقًا مشاع البحرين، وكان كذلك منذ آلاف السنين. إنه ملك للجميع ولا أحد. استصلاح الأراضي يساوي خصخصة البحر. والقضية الأخرى هي أن البحر مأهول بالفعل: "منطقة المياه الضحلة الكبرى"، كما تسميها المخططات، سيتم بناؤها هناك على وجه التحديد؛ فوق أكبر منطقة من المياه الضحلة في المياه الإقليمية. المياه الضحلة العظيمة هي جزء ضخم من البحر وواحدة من أهم مناطق التكاثر البحري. إذا تم تدمير منطقة المياه الضحلة الكبرى، ستختفي أسماك البحرين.

لقد عشت على البحر والعيون، بالنسبة إلينا نحن ثدييات البرية في البحرين. لكن الأسماك هي جزء من هذه الأرض مثلنا، وقد احترمها الشعراء الشعبيون في البحرين منذ فترة طويلة واعتبروها إخوة لهم. إنها مصدر إلهام للبحرينيين مثل المياه التي يعيشون وسطها. على سبيل المثال، قصيدة من أوائل العصر الحديث، "حكاية السمكة"، لحسن المليلي، أبهجتنا بذكر حرب اشتعلت بين الأسماك الحلال والحرام. عندما يقتل سمك السلور أحد الهوامير (الهامور أحد أكبر الأسماك وأكثرها احترامًا في الخليج)، تعلن الأسماك الحلال أن الشناد (الماكريل) أميرها. تجتمع كل الأسماك الحلال، حتى صافي الصغيرة (أسماك قوس قزح)، وتقاتل. لكن قصيدتي المفضلة المتعلقة بالأسماك هي نسخة ساخرة من القصيدة الثورية "إرادة الحياة" لأبي قاسم الشابي:

اذا (الشعم) يوما أراد الحياة        فلا بد ان يستجيب البحر
ولا بد للعوم ، ان يختبي             ولا بد للدغس ، ان ينثبر
ومن لم يعانقه شوق الفشوت          تحير في بلطه واندثر
كذلك قالت لي الصافيات،             وحدثني بلحها والزفر
وقال لي السبيطي، والقرقفان،        وسلس المساكر لما نبر




عين أم شعم هي عين مياه عذبة مشهورة بين الأجيال الأكبر سنًا، تُنسى بشكل متزايد من قبل الأجيال الأصغر سنًا. وكلمة "شعم" (سمك الدنيس) تتشابه مع كلمة "شعب" فيما عدا حرفًا واحدًا. ربما أدى خطأ أخرق في تلاوة السطر الافتتاحي إلى اختراع هذه القصيدة الساخرة. بالنسبة إلى الصيادين الذين نسجوا هذه القصيدة، كان بلا شك تلاعبًا ممتعًا بالألفاظ لتمضية الأيام التي قضوها في البحر. لكنني أجد صعوبة في عدم رؤية مشاكل اليوم مدونة فيها. إذا رفضت العين البحر، فسيترك البحر قاحلًا: الأمر موجود هناك لنراه، مكتوب مثل النبوءة.

اليوم، يمتلئ الكثيرون في البحرين بالقلق. ونشعر بالخزي المتزايد من الشواطئ المخصخصة والبحر المدمر. وبطبيعة الحال، فإن الأشخاص الأكثر قلقا هم أيضا الأكثر تضررا والأقل مشاركة في عملية صنع القرار المدمرة هذه.

كيف سيتم إطعام سكان منطقة المياه الضحلة الكبرى؟ إن البناء على المياه الضحلة الكبرى من شأنه أن يدمر مخزون البحرين السمكي بشكل لا رجعة فيه. طبقات المياه الجوفية مستنفدة بالفعل، فمن أين ستأتي المياه العذبة؟ أين سيتم ضخ النفايات؟

لا شك أن مخططات هذه المدينة ستجعل عددًا قليلًا من المسؤولين الحكوميين وشركات التنمية أثرياء بشكل رائع. سيتم شراء قطع الأرض والبناء عليها وبيعها والبناء عليها وبيعها وما إلى ذلك. في النهاية، قد تشتري الأسرة منزلًا هناك بسعر مرتفع وتأمل ألا تنخفض القيمة. ولكن مهما أنفقوا، فإن التكلفة الحقيقية لا يمكن تقديرها.

 


 

يستخدم طرفة مقدمة معلقته لتحويل الوديان والكثبان الرملية إلى بحر. يصنع السفن من القوافل ويحمل حبيبته باللؤلؤ. بينما أتعرف على البحريني فيه على الرغم من مرور القرون، أتساءل عما إذا كان سيتعرف هو على بحريني اليوم. كأمة، البحرين تفعل عكس ما فعل طرفة: نحن نحول البحر إلى صحراء. عندما تختفي السمات المادية التي ميزتنا منذ زمن دلمون، ماذا سيبقى منا؟ كيف نقرأ حب أسلافنا للبحر من دون أن نشعر بالخزي؟

إنها رؤيا تتركني أرقًا. ما الذي سيحمله المستقبل لنا؟ لذلك، أفعل الشيء الوحيد الذي يمكنني القيام به؛ التقاط قلمي، وكتابة قصيدة، وتخيل المستقبل.

 



إفطار في مدينة غريت شولز سيتي، 2123


تَطْحَنُ أمي الغبارَ وتخبزُ خبزَ إفطارِنا
نركضُ إلى شرقِ الجزيرةِ لننظرَ إليها:
مدينةُ فشْتِ العَظمِ

فبدونَ الوسائلِ الإلكترونيةِ
التي تقصُّ لنا عنها جدتي
وبدونَ المسلسلاتِ الرمضانيةِ
التي ترويها كحلقاتٍ من كليلةَ ودمنةَ
نشاهِدُ كيفَ تَفَتَّتِ المدينة بعدَ إخلائِها
يا ترى ! ماذا سينهارُ هذهِ الليلةَ :
هذهِ العمارةُ ، أم ذاكَ المجمعُ؟
نلعبُ لعبتنا كلَّ مغربٍ
لننسى العطَشَ والجوعَ.

خالي الغريبُ يجلسُ جنبي
يفتحُ يديهِ ويكررُ أسماءَ السمكِ :
الصافيَّ والچنعدِ والهامورِ
وأمِّ الربيانِ وأبو صلبوخِ
والبالقِ والبالولِ
والجمجامِ والخاخونِ
وحمارةِ النوخذةِ ومشيطِ العروسِ
والصافيِّ والچنعدِ والهامورِ

يكررُ الأسماءَ المجهولةَ كأنهُ تحتَ عصاةِ المدرسِ

إلى أنْ تصرَخَ أمي لَيُسَكِّتَ صوتهُ الرهيبَ

قطعةٌ بعدَ قطعةٍ
زجاجٌ بعدَ زجاجٍ
حديدٌ بعدَ حديدٍ
المدينة الفارغة تنهار في البحر الفارغ ،
وفي هذهِ الليلةِ ، تنهارُ العمارةُ

آكلُ جائزتي : تَمَرةٌ كحجمِ العِنَبِ
تروي جدتي لي عن تمرِ طفولتِها يسمى بالخلاصِ
خالي يُكملُ دعاءَه بصوتٍ خفيفٍ ويسجدُ
صمتُ المدينةِ يقرأُ الفاتحةَ على العمارةِ
وراءَنا ، تطفئُ الشمسُ ضوءَها
جوعُنا يعلّي صوتهُ

البحرُ الأصمُّ يلحسُ المدينةَ القاحلةَ

 

 

هوامش

ملحمة جلجامش، ترجمة عبد الغفار مكاوي

علي الجمري، أحد شعراء مدينة مانشستر متعددي اللغات، كاتب مقالات ومحرر ومترجم ومعلم. مقيم الآن في المملكة المتحدة، ينحدر من البحرين. نُشرت أعماله في مجلات عديدة بما في ذلك الشعر الحديث في الترجمة ، و ArabLit Quarterly ، و Zindabad Zine ، و Harana وغيرها. كما نشرت أعماله في مختارات صدرت من Young Identity. في العام 2021 ، قام بتحرير ArabLit Quarterly: FOLK and Between Two Islands.

الشعر العربيالبحرينالبيئة الصحراويةالشعر الخليجيالبحر

تعليقان

  1. بارك الله فيك يا شاعر البحرين علي الجمري.. شرح رائع عن البحرين.. أخذتنا في رحلة جميلة بين الماضي والحاضر.. وأنا بحرانية ولا زلت أتذكر البحرين الخضراء في سبعينيات القرن العشرين وامتداد البحر قبل أن تداهمه الرمال التي دفنته وقلصته حتى لا نكاد نراه.. ولا يوجد شواطئ الآن إلا القليل جدا ولا تكاد تصلح للسباحة.. وإذا أردت أن تستمتع بالمشي على ساحل وجب عليك استئجار ڤيللا فندقية تطل على البحر وليس الجميع يستطيع ذلك.. للأسف.. أحسنت الطرح وقد أعجبني مداخلاتك الشعرية لوصف حالات التغيير التي صارت على بلدي الحبيب البحربن..

    بارك الله فيك أيها الشاعر البحريني علي الجمري. شرح رائع عن البحرين. أخذنا في رحلة جميلة بين الماضي والحاضر. أنا بحريني وما زلت أتذكر البحرين الخضراء في سبعينيات القرن 20 وامتداد البحر قبل الرمال التي دفنتها وتقلصتها حتى لا يمكننا رؤيتها. هناك عدد قليل جدا من الشواطئ الآن، وهي بالكاد تصلح للسباحة، وإذا كنت ترغب في الاستمتاع بالمشي على الساحل، فيجب عليك استئجار فيلا فندقية تطل على البحر، ولا يمكن للجميع القيام بذلك، للأسف. قدمتم عرضا جيدا، وأعجبتني مداخلاتكم الشعرية لوصف حالات التغيير التي طرأت على البحرين الحبيبة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *