مقتطف من كتاب حسن عبد الموجود: أم كلثوم من الميلاد إلى الأسطورة

28 April, 2025
محمد خضر (مواليد القاهرة 1970)، «أم كلثوم»، زيت على قماش، 2012 (بإذن من بانا هلال).
عن أم كلثوم يكتب حسن عبد الموجود خمسين حكاية أدبية قصيرة، يحكي كتاب «أم كلثوم من الميلاد إلى الأسطورة» علامات مميزة في تاريخ الست، أشهر مطربة مصرية في القرن العشرين، ويرسم للقارئ صورة حية لها، ولعلاقتها بمصر وتاريخها في تلك الحقبة.

 

حسن عبد الموجود

 

غبار الملائكة

كتاب «أم كلثوم من الميلاد إلى الأسطورة» من إصدارات ديوان.

عاشت فاطمة المليجي شهور الحمل الأخيرة في دوَّامة مشاعر متناقضة. أكثر ما تخشاه هو ردُّ فعل زوجها الشيخ إبراهيم إن وضعتْ بنتًا، فقد أمضى حياته يحلم بولد يرافقه في موالد «طماي الزهايرة» وسائر قرى الدلتا. ينشد معه الابتهالات في حب النبي وآل بيته. طاب له التأخر في المسجد، خلال العشر الأواخر من رمضان، يصلِّي ويدعو ويبتهل بمجيء الابن الصالح، ثم يعود مع نسمات الصبح الأولى إلى البيت بنفس الفكرة، أن الله لن يخذله أبدًا.
لكنَّ صوتًا همس لفاطمة أنها تحمل في بطنها بنتًا جميلة، ستملأ عليها البيت بالفرح والسعادة. رأتها في أحلام يقظتها وهي في الثالثة من عمرها، تشدُّ العجائز من ملابسهن السوداء الطويلة، أو تطرق بخشبةٍ على البلاليص. تجري داخل حوش البيت الواسع المفتوح على السماء خلف طيور الدوريِّ وأبو الهزَّار والقمري والهداهد، تجلجل ضحكتها وهي تلقي الحصى الصغير على السحالي فتهرب من شقاوتها إلى شقوق الحوائط اللبنية، تحاول الإمساك بالدبابير الحمراء والذهبية، وتقطع الطريق على الجعارين السوداء، وتضع الحَبَّ للإوز وتملأ صحونها بالماء. رأتها فتاة بضَّة، ذات خدَّين متوردين على الدوام، ابتسامتها ملائكية، وصوتها بريء أخضر، قدماها ويداها محنَّاة على الدوام، وفساتينها تسرح فيها الورود الملوَّنة، وضحكها يصل إلى الناس في أسِرَّتهم الجريد، فيطرد كوابيسهم ويملأ أحلامهم بالبهجة.
يؤذِّن الشيخ إبراهيم للفجر. يأتيها صوته من مسجد القرية الغربي كأنه قادم من أغوار الجنَّة، ثم يبتهل بأجمل الأناشيد. تغلغل صوته الجميل في صدرها، حتى سكن قلبها وروحها كعادته، وفكَّرت أنه يسكن، كلَّ يوم، قلوب الناس والطيور والحيوانات، وحتى النبات والجماد، ويخترق السحب، وينفذ من أقطار السماوات حتى يمتزج بغبار الملائكة الأبيض.
شعرت بالطفلة تتحرَّك داخلها كأنها تتجاوب مع صوت أبيها. كشفت بطنها فرأت انبعاجًا سرعان ما يختفي من مكان حتى يظهر في آخر. خمَّنت أن الطفلة تشعر بالملل من طول الرقاد، وتريد أن تخرج للعالم، فابتسمت، لكن سرعان ما غلبها الكدر، حين تذكَّرت أمنية زوجها، وهمست قائلة كأنها تواسي نفسها: «لا يمكن الشيخ إبراهيم يكون ضد إرادة ربنا!» في تلك اللحظة سمعت نحنحته؛ أقبل عليها مبتسمًا، فاستبشرت. لم يترك لها المجال لتسأله. حكى لها أجمل حكاية سمعتها منذ وعتْ على الدنيا.
في هذا اليوم شعر بأنه شديد الطهارة، لم يأكل كثيرًا وتسحَّر ببضع قراقيش غمَّسها في اللبن. وصل إلى المسجد خفيفًا كسحابة، صلَّى التراويح، ورتَّل جزءًا من القرآن، ثم ركن جسده على عامود حتى أخذته سِنَةٌ من النوم. رأى امرأة جميلة كالبدر، ترفل في فستان من نور، تدنو منه، وتمدُّ له يدها بلفافة خضراء قائلة إنها أم كلثوم، بنت النبي محمد. خفق قلبه، وشعر بأنه على أعتاب باب الرضوان. فتح اللفافة، وجد ماسة مضيئة غشَّى بريقها عينيه للحظة فأغلقهما ثم فتحهما، وترك نفسه يسبح في بحر السكينة. رآها تبتعد وهي تقول: «هذه جوهرة وبشرى السعد.. حافظ عليها ولا تفرِّط فيها أبدًا». استيقظ من غفوته، وخُيِّل إليه أن إضاءة الكلوب في المسجد أصبحت قوية كأن فتيله تحوَّل إلى شمس صغيرة. دق قلبه، وسيطرت عليه فكرة وحيدة، كأنما أُوحِي له بها، أن المولود بنت لا ذكَر. شعر بالفرح، فما عاد يفرق معه حلمه بالولد الذي يرافقه في حلِّه وترحاله. جلس إبراهيم بجوار فاطمة فاحتضنته وسمع صوت نشيجها. قالت له من بين نهنهاتها: «الحمد لله ربنا استجاب لي!».
في اليوم التالي أحاطت بها الجارات، كل واحدة تنتظر البشارة لتجري إلى الشيخ إبراهيم تخبره بقدوم وليِّ العهد، لكنهن أصبن بالغم حين عرفن نوع المولودة، صاحت إحداهن بكدر: «بنت.. يا ساتر»! فقالت فاطمة بصوت هزيل: «هاتوها!» وضعوها إلى جوارها فمالت على جانبها لكي تراها. شمَّت رائحة جلدها، وراقبت عينيها المغلقتين، وانسالت دموع الفرح على خدها. أفاقت الجارات من صدمة الأنثى، ودخلن في مناقرة حول اسمها، سمعت إحداهن تقول: «لقية»، وثانية تهتف: «بدوية»، وثالثة: «خديجة»، ورابعة: «نصرة»، وخامسة: «سيدة»، وسادسة: «مديحة»، لكن الشيخ إبراهيم ظهر فجأة على باب الغرفة وقطع ثرثرتهن وصياحهن قائلًا: «أم كلثوم.. اسمها أم كلثوم!» نظرن إليه، ورأينه يطالع فاطمة وطفلتهما بتأثر. أطلقت إحداهن زغرودة جذبت عشرات الأطفال، جاؤوا بحثًا عن الملبِّس والطوفي!
كبُرت الفتاة، واندهشت فاطمة حين رأتها على نفس هيئتها في أحلام اليقظة، بوجه ممتلئ كالبدر، ووجنتين متشرَّبتين بالحمرة، وضفيرتين جميلتين، تمتلئ بطاقة العالم وشقاوة الدنيا، ثم سمعتها تدندن بالأغاني، ومسَّ صوتُها قلبَها، رأتها تجلس فوق حزمة برسيم في صحن الدار ذات يوم تغني: «عصافير يحسبن القلوب من الحَبِّ، فما لي بها عصفورة لقطت قلبي»، ورأت الإوزات تقف مشرئبة الأعناق في صف تستمع إلى ابنتها، كأنها الجمهور، لا تنبس، ولا تتحرك، وحين أنهت أم كلثوم غناءها تصايحت وتقافزت ورفرفرت بأجنحتها مطيِّرة الغبار وأعواد التبن كأنها تصفِّق تصفيقًا جنونيًّا.
رأتها تجلس مصغية لدندنة أبيها أحيانًا، أو حين يحاول تحفيظ شقيقها خالد نشيدًا جديدًا. لم تشعر بالملل أو الزهق قط. حفظت عشرات الأناشيد. صارت ترددها مع نفسها حين يكون أبوها مشغولًا في الخارج. لكنه حضر ذات يوم دون أن تشعر به، فوقف خلفها يستمع إليها بدهشة بالغة. صحيح أنه استمع إليها من قبل تشدو ببعض الوصلات القصيرة الخاطفة، لكنه لم يتصور أبدًا أن يكون في قدرتها ترديد هذه الأناشيد الطويلة بمفرداتها الصعبة، ثم أدرك أنها تقلِّد طريقته في الإلقاء، وتُحرِّك يديها تارة وتضعهما على أذنيها تارة أخرى كما يفعل حين يتسلطن، ولم يشأ أن يحرجها، فانسحب إلى الخلف، متستِّرًا بالمدخل المظلم متنحنحًا كعادته، وإن بقوة أكثر، حتى توقفت عن الغناء، وهرولت ناحيته واحتضنته!
في الليالي الحارة طاب لها أن تصعد معه إلى السطح بصحبة شقيقها وأمها، يجلسون على أجولة الدقيق والكُزب والذرة والبلح المجفف. الأب يغني، والفتاة تتشجَّع فتغني معه، ثم يتركها تكمل بمفردها ويطبِّل لها على كفة ميزان نحاس صدئة، أو صفيحة جبن فارغة، أو خشبة، بينما تصفق الأم بحماس. وصل صوتها إلى الجيران فخلبهم. كثَّفوا ظهورهم على الأسطح لحضور الحفلات المجانية، يستمتعون فيها بهبوب النسمات اللطيفة في ذلك الصيف القائظ، وبصوت أكثر سحرًا من صوت الشيخ إبراهيم نفسه.
وبمرور الوقت فكَّر الأب في جرِّها إلى الموالد بصحبة شقيقها خالد، لكنها رفضت بعناد طفولي. رغبت في ألا تترك عالمها الصغير، الطيور التي تطاردها، والعجائز اللواتي تشدُّ أثوابهن، والأطفال الذين تهرول حافية معهم في الشارع، لكنه وعدها أنها لو سمعت كلامه سيغرقها في بحر من الحلوى، ونجحت حيلته. خرجت معه إلى حفلة شيخ البلد، وغنَّت. انبهر الناس بصوتها، وصفقوا لها. رأت الفرحة تكاد تنط من وجهَي أبيها وشقيقها. لقد أنجزتْ مهمَّتها وعليه أن ينفذ وعده. وضع يده على رأسها طوال الطريق، خشية أن تدهسها الحيوانات العائدة من الحقول، حتى توقفوا أمام دكان بقالة، وقال لها بحنان: «شبِّيك لبيك.. خدَّامِك بين إيديكِ»! صفقت بفرح طفولي، وهي تطالع علب الحلوى على الأرفف خلف البائع، مشيرة إلى ما لذَّ وطاب لها. نظر الأب إلى خالد في تلك اللحظة قائلًا: «الله بعتلنا هدية.. ولازم نحافظ عليها»، فقال خالد: «أيوه.. هدية غالية!»، فقال الشيخ خالد وقد أدرك أن ابنه لا يشعر بالغيرة: «لو مت هتكون أمانة في رقبتك!» تمتم خالد وهو ينظر إلى أم كلثوم الغارقة في عالمها المدهش: «بعد عُمرٍ طويل يا مولانا!».

 

جميل الشيخ أبو العلا

لم تتحمَّل أم كلثوم رؤية الشيخ أبوالعلا مقعدًا. لا شيء يتحرك فيه، لا يداه ولا قدماه ولا لسانه ولا رأسه، لكنها حين رأت سوادَي عينيه يتحركان ويستقران عليها أدركت أن الحياة لم تستسلم داخله. لمحت دمعة تتحرك على خده الأيمن وتهوي بسرعة. انحنتْ على رأسه ولثمتها، ثم جلست بجواره على السرير. احتضنته، فأحسَّت كأنها احتضنت حطبة. أصبح في وزن ريشة، لو تركوا شبَّاك الغرفة مفتوحًا لربما طيَّره الهواء. جاء ابنه جلال الدين يحمل صينية عليها طنجرة يتصاعد منها الدخان. وضعها بجوارها وقال: «جرِّبي انتي، أحسن معذِّبنا!» انسحب وجلس على كرسي يرمقها وهي تمد يدها بالملعقة وأبوه يرفض فتح فمه. لا يملك إرادة سوى في فكيه، وها هو يستخدمها أسوأ استخدام. أعادت أم كلثوم الملعقة إلى الطنجرة، وهمست في أذن الشيخ أبو العلا: «لو بتحبني أرجوك متكسفنيش!» سقطت من عينه دمعة أخرى، مدَّت يدها ومسحتها بباطن كفها، ثم مسَّدت شعره. بعد قليل كرَّرت المحاولة بالملعقة، وفي تلك المرة استجاب لها. غنَّت له «وحقك أنت المنى والطلب»، فدبَّت الحرارة في جسده ولفحتها. انفتحت شهيته، حتى كاد ينهي الطنجرة عن آخرها. شكرها جلال الدين بمودة. لمحت في عينيه نفس نظرة العتاب القديمة، حينما قالت له أمام الشيخ أبو العلا: «انت أخويا ولا يمكن لأخت تتجوز أخوها!» انفطر قلب الشيخ أبوالعلا على ابنه، لكن حبَّه لها لم ينقص درجة. لم يعاتبها، لم يضغط عليها لتعيد التفكير، ولم يتأخر عنها في أي طلب كعادته، منذ أن عرض على أبيها الشيخ إبراهيم أن يتزوجها صوريًّا حتى يقنعه بسفرها للقاهرة.
تذكَّرتْ وهي في طريقها إلى الخارج وقوفها ذات صباحٍ مشمسٍ ملتصقة بعامود محطة قطار السنبلاوين، مراقبة أباها وأعضاء الفرقة، في انتظار قطارٍ يحملهم إلى إحدى قرى الدلتا. سمعتْ الشيخ إبراهيم يهتف: «الشيخ أبو العلا.. مش مصدَّق عيني!». كاد قلبها يرقص حين سمعت الاسم. هرولت بسرعة ناحيته. جذبته من طرف جلبابه، كأنها تتأكد أن المطرب العظيم، الذي استمعت إلى أغنيته «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا» عشرات المرات على فونوغراف العمدة، بشرٌ مثلنا من لحم ودم. سلَّم عليها بحفاوة ووضع يده على رأسها بأبوية. لم تكن وحدها المهتمة، الناس أيضًا على الرصيف أحاطوا به وتكاثروا حوله، كلُّ واحد يحاول أن يفوز منه بكلمة أو إيماءة أو سلام. وبحسِّها الطفولي أرادت أن تستأثر به لنفسها. لم تجد أمامها سوى جذْبه من طرف الجلباب كالمرة الأولى. فطن الشيخ أبو العلا إلى غيرتها، فركَّز معها، وأحاط رقبتها بذراعه. ترجَّته أن يذهب معهم إلى الفرح، فقال ببساطة: «آجي عشان خاطر عيونك!» وهناك انذهل بصوتها، وقال للشيخ إبراهيم أمام أعضاء التخت وهو يشير إليها: «دي حورية من حوريات الجنة!» فرحتْ بالإطراء، ثم قالت له بحماس: «الحورية بتقولك تعالى معانا على البيت!» ولدهشتها ودهشة الشيخ إبراهيم قبِل ببساطة. بمجرد أن فتحت الأم الباب صاحت أم كلثوم: «ادبحي كل الحمام يا ماما عشان جالنا أحسن مطرب في الدنيا!».
اعتبرته يومًا لا يُنسى. وأراد الشيخ أبو العلا أن يُسعِدها فاستجاب لكل أوامرها، إذا طلبت طقطوقة غنَّى، وإن طلبت موالًا غنَّى، وإن طلبت أغنية غنَّى، لكنه فجأة قال لها: «الله! أومال أنا هفضل أغني لوحدي يا عفريتة؟! أنا عايز اسمعك كمان!».
وبذكاء فطري غنَّت «أفديه إن حفظ الفؤاد أو ضيَّعا». اهتز قلب الشيخ أبو العلا، ولمعت عيناه، وصفَّق حين انتهت. أثنى عليها ثناء طويلًا، حتى إنها أطرقت خجلًا، ثم دبَّت الحماسة في عروقها حين التفتَ إلى أبيها وقال له: «لازم أم كلثوم تسافر القاهرة وتغني قدَّام جمهور أكبر وذوقه مختلف. بنتك يا شيخ إبراهيم نجمة حرام تدفنها هنا!»..
نظرت أم كلثوم إلى وجه أبيها فرأت التعبير الرافض المعتاد فكاد أن يستولي عليها اليأس، تمنَّت من أعماقها أن يستمر الشيخ أبو العلا في الإلحاح، أرادت أن تجذبه من جلبابه كما فعلت على المحطة، لكنها تراجعت فقد أدركت أنها ستكون حركة مكشوفة لأبيها. ثم تحدَّث الأب وباح للشيخ أبو العلا بمخاوفه، وأغلبها يتعلق بتربيتهم المحافظة، التي تستوجب أن يكون تحركهم بحساب، وكلامهم بحساب، وتعاملهم مع الغرباء بحساب. لعب الوسواس في رأس الشيخ إبراهيم، صوَّر له ابنته وقد أضاعتها النجومية وأنسَتْها أخلاق الريف. فكَّر في متاهة القاهرة وظنَّ أنها قادرة على أن تبتلعه هو وفاطمة وأم كلثوم وخالد وكل العائلة. فهِم الشيخ أبو العلا كلماته، وفطن إلى ظنونه، فقال بأبوية: «لا تقلق يا شيخ إبراهيم، بنتك هتفضل في الحفظ والصون بأخلاقها وتربيتها، وانت هتفضل قريِّب منها دايمًا، حرام تدفن موهبتها، دي جوهرة، كنز يا مولانا»..
استمر الجدال ساعة، جملة من الشيخ أبو العلا، وجملة من الشيخ إبراهيم، حتى ألقى الشيخ أبو العلا ثعبانه الأكبر قائلًا: «عندي الحل!» ونظر الاثنان إليه بدهشة، الأب وأم كلثوم، واستمعا إليه وهو يقترح عريسًا من أقربائه يتزوجها ويضعها في عينيه، وبهذا لا محلَّ للمخاوف التي تسيطر على هذا البيت الجميل. ثم قال: «أو حتى لو عايزني أكتب أنا عليها!» لان الأب، وبدأ التعبير الرافض على وجهه في الذوبان، وعاد قلب أم كلثوم يرقص فرحًا، حين قال أخيرًا: «خلاص اللي تشوفه يا مولانا!» وبدلًا من أن تجري أم كلثوم ناحية الأب هرولتْ باتجاه الشيخ أبو العلا واحتضنته ببراءة وهي تقول: «شكرًا يا أحسن مطرب في الدنيا!».
ظلت أم كلثوم تعيش حلم يقظة ممتدًّا، فكلما اختلَتْ إلى نفسها سرحت متخيَّلة، من خلال ما يحكيه العجائز أمامها، شكل مسارح القاهرة وهوانمها وباشواتها وشوارعها الفسيحة وعماراتها الشاهقة الفخمة وسياراتها الفارهة، وكلما نادتها أمها تشعر بالضيق للحظة حين تعود وتجد الواقع لم يتغيَّر، والسفر للقاهرة لا يزال مجرد حلم بعيد، حتى تدخَّل القدر ليحوِّل حلمها إلى واقع.
كان عز الدين بك، وهو من الأعيان، يُحيي ليلة المعراج كل عام في ضيعته بطماي الزهايرة قريبًا منهم، لكنه قرر فجأة أن يُحييها هذا العام في سراياه بحلوان، واقترح عليه الشيخ أبوالعلا ابنة القرية المجاورة أم كلثوم، ولحسن الحظ وافق الشيخ إبراهيم فورًا. في اليوم الموعود وصلوا للعاصمة، وسألت أول ما سألت عن الكرَمِلَّة، فاشتروها لها. ظلت تأكلها باستمتاع بالغ طوال الطريق إلى حلوان. لكن حينما دخلوا السرايا وشاهدها عز الدين بك بانت على ملامحه أمارات الصدمة. صاح بحنق: «إيه شغل العيال ده، الشيخ أبو العلا جايبلي طفلة تغنِّي!» تدخَّل المرافقون له لما رأوا الإحراج في وجه الشيخ إبراهيم واصطحبوه إلى بدروم السراي مع أم كلثوم التي شغلها تأمُّل الأنتيكات واللوحات والأثاث الفخم عن الشعور بالضيق. عرفوا بعد قليل أن الباشا أرسل لإحضار الشيخ إسماعيل سكر لإحياء الحفلة، وعند منتصف الليل مال الباشا على أذن أحد أصدقائه يسأله عن رأيه في استدعاء الفتاة الصغيرة لعلَّ وعسى، ثم أمر أحد الخدم بأن يحضرها في الحال. دبَّ الحماس في جسد أم كلثوم بعد أن تسرَّب إليها الملل وأصابها بالخمول، وهرولت إلى أعلى غير آبهة بنداء أبيها بأن تتمهَّل.
وبسبب قِصَرِها وقفت على كنبة عالية، وبمجرد أن نطقت سكتت الهمهمات واتسعت العيون وطربت الأفئدة ونسي الباشوات وقارهم فقد غرقوا في سحر الصوت، ثم انفجروا في التصفيق مع أول سكتة، وهتف أحدهم: «كمان مرة والنبي، يا حلاوتك.. يا جمالك!» استمرت أم كلثوم في الغناء واستمر الباشوات في طلب الإعادة والشيخ إسماعيل سكر في الهرولة إليها لينقل رغبة هذا الباشا أو تلك الهانم. وبينما تهتز الحياة أمامها طربًا شعرت أم كلثوم بأنها تُوِّجت ملكة على إحدى سرايات القاهرة، وقريبًا ستُتوَّج ملكة على العاصمة كلها، وتذكرت في هذه اللحظة أستاذها، فهتفت بفرح طفولي: «الأغنية دي بهديها لأستاذي الشيخ أبو العلا أحسن مطرب في الدنيا!».
لم تعرف أم كلثوم أنها على بُعد يومٍ واحد من فراقه إلى الأبد. نقلوا لها الخبر الحزين في الصباح. بكت ليس حزنًا عليه فقط، وإنما لأن الشيخ إبراهيم رفض أن تشارك في الجنازة، ثم أجبرته دموعها على أن يتراجع ويتركها تسير وسط الرجال، بل وتحمل النعش على كتفها. ها هي ترد الجميل إلى الشيخ أبو العلا. إنه ملاكها الذي لم يتركها قط، لا في طماي الزهايرة ولا في القاهرة. منحها ألحانه وأبوَّته، رعاها وحماها، وقف بالسوط لكلاب السكك ومنَعهم من نهش لحمها الأخضر. لم ينتظر منها أي مقابل سوى حنان الابنة، ولم يتردد أبدًا في لثمها على خدها أو رأسها أمام الشيخ إبراهيم والحاجة فاطمة، وأن يحضنها كلما غاب عنها أو غابت عنه. أمطرته بالهدايا، لكن أكثر هدية أحبَّها منها هي علبة الحلاوة الطحينية. جلس أمامها مرارًا بفرحة طفل، منهالًا عليها بالملعقة، لكن الشيخ إبراهيم طلب منها الكفَّ عن مهاداته بها، فللأسف أصيب بالسكري، وفي غضون شهور قليلة هزل وصار جلدًا على عظم. رأت الموت في عظام وجهه البارزة، وفي سكونه. كلما رأى العود المركون على حائط غرفته بكى، كلما هاجت ذكريات الشباب عليه بكى، وكلما عبر شذا الأحبَّة الذين سبقوه إلى الدار الآخرة بأنفه بكى، وها هي تبكي بدورها في حرقة وتغنِّي في صمت «سكت والدمع تكلم».

 

كاتب مصري وُلد في محافظة قنا العام 1976، يشغل الآن منصب مدير تحرير جريدة «أخبار الأدب» المصرية التي تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم، له خمس مجموعات قصصية هي «ساق وحيدة» 2002، «السهو والخطأ» 2016، «حروب فاتنة» 2018، و«البشر والسحالي» 2021، و”تاجر الحكايات” 2023. كما صدرت له روايتان: «عين القط» 2005، و«ناصية باتا» 2009.

بالإضافة إلى ذلك، صدر له كتاب بورتريهات عن جيل التسعينيات بعنوان «ذئاب منفردة» 2019. وأيضًا «1117 كورنيش النيل.. زمن المعارك والسقطات الكبرى» عن تجربة المجلات المصرية في سبعينات القرن الماضي، و«كعب عمل.. الأدباء وأكل العيش».

حصل على عديد من الجوائز الأدبية والصحافية، منها: جائزة يوسف إدريس التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة عن مجموعته «حروب فاتنة» العام 2020. وجائزة نقابة الصحفيين عن سلسلة موضوعات «ملف وظيفي» العام 2021. وجائزة معرض الكتاب المصري لأفضل مجموعة قصصية عن مجموعته «البشر والسحالي» العام 2022.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member