أعطني النَّاي وغنِّ
وانْسَ داءً ودواء
إنَّما النَّاس سطور
كُتبت لكن بماء
—جبران خليل جبران، المواكب
ريم هلسا
هناك نغمة تدعو القلب، تتحدث عن شوق وحزن الروح. إنها تأتي من الناي. في اللغة العربية، غالبًا ما تستخدم كلمة "أنين" لوصف اللحن الساحر الذي تم إبداعه بالناي، والذي يوحد الروح البشرية مع كل من الطبيعة والإلهي.
يعد الناي من بين أقدم آلات موسيقى النفخ المعروفة للحضارة، مدمج بعمق في الثقافة الشعبية والتراث الموسيقي في الشرق الأوسط. ولكن مع التأثيرات الاستعمارية السابقة والهيمنة الثقافية الغربية المعاصرة، تفقد مجتمعاتنا صلتها بهذا التراث الغني، وتفقد التقاليد مثل الموسيقى الشعبية سيطرتها وتختفي من وعينا.
يضطلع ربيع زريقات بمهمة إعادة الروابط المنقطعة بالماضي العربي وإحياء تراثنا الموسيقي للأجيال القادمة. مدفوعًا بافتتانه بموسيقى الناي، أراد أن يتعلم العزف على هذه الآلة، لكن رحلته أثبتت أنها أكثر صعوبة مما كان متوقعًا.
في العام 2016، شرع زريقات في السعي للحصول على ناي. بحث في كل مكان في وطنه الأردن لكنه خرج خالي الوفاض. في ذلك الوقت، لم يكن لدى الأردن سوى عدد قليل من عازفي الناي. في النهاية، طلب واحدًا من سوريا. كان زريقات في حيرة من أمره لكن سعيه لم ينته عند هذا الحد. "لم أستطِع أن أصدق أن آلاة موسيقية متأصلة في تراثنا ومصنوعة من موارد طبيعية من أرضنا لم أعثر عليها في أي مكان".
أججت محنته دوافعه لتعلم صناعة الناي يدويًا، وليس فقط تعلم كيفية عزفه. "اعتاد أسلافنا على صنع أدواتهم الخاصة، لذلك بالتأكيد لدينا المواد في بيئتنا الطبيعية"، يقول زريقات عن ما فكر فيه في ذلك الوقت.
كان يعلم أن القصبة المجوفة، التي تستخدم في صياغة الناي، كان موطنها التاريخي وادي الأردن. لذلك، ذهب في رحلة للعثور على القصب المجوف المناسب. لعدة أشهر، جرب مجموعة متنوعة من القصبات في ورشة صغيرة في عمان. من خلال التجربة والخطأ، أتقن في النهاية فن صنع ناي مضبوط بدقة. نقل زريقات شغفه المكتشف حديثًا إلى جميع أنحاء الأردن، حيث شارك مهاراته مع الشباب من مختلف المجتمعات في ورش عمل عملية حول كيفية صنع الناي من الموارد المحلية، وتعليمهم أساسيات العزف على آلتهم الجديدة.
من خلال عمله مع المجتمعات المهمشة، لاحظ أن الأطفال غالبًا ما يفوتون التجارب الثقافية والموسيقية التي اعتاد عليها نظراؤهم من ذوي المكانة الاقتصادية الأعلى. قدمت ورش العمل الخاصة به لأعضاء هذه المجتمعات طريقة لإثراء حياتهم اليومية بالموسيقى.
يقول زريقات: "أردت أن أعلم الأطفال كيفية صنع نايهم الخاص بموارد من بيئتهم بأقل التكاليف". يمكن أن تكون هذه المواد الخام من القصب المجوف، أو أنابيب بلاستيكية يسهل الوصول إليها ذات قطر المناسب. قبل اختتام ورشة العمل، كان يترك للمجموعة المشاركة أدوات بسيطة لممارسة الحرفة.
الآن أصبح طلابه معلمين؛ يواصلون مهمته ويعلمون الآخرين في مجتمعاتهم كيفية صنع الآلة والعزف عليها. يقول زريقات: "تتعلم الأجيال الجديدة تراثنا الموسيقي والأغاني القديمة التي اعتاد أسلافهم غناءها في مناسبات مختلفة".
في العام 2017 شارك في تأسيس "بيت الناي" مع زملائه المتحمسين للناي ليث سليمان وسيرين حليلة ورائد عصفور في جبل اللويبدة، أحد أقدم أحياء عمان ومركز معروف للفنون والثقافة. سرعان ما أصبح بيت الناي عنصرًا ثقافيًا.
يكرس زريقات وزملاؤه جهودهم لتقريب الجمهور من تجربة موسيقى الناي من خلال تعليم الناس كيفية العزف على الآلة نفسها، وحتى كيفية صناعتها بأنفسهم. أصبح بيت الناي نقطة التقاء الأشخاص المتحمسين للموسيقى التقليدية وآلة الناي، وهو مكان يمكنهم فيه الاستمتاع بالأمسيات الموسيقية والتعاون مع الموسيقيين المحليين والإقليميين.
من خلال ورشة عمل متواضعة وحفنة من الأدوات، ينتج بيت الناي النايات المصنوعة يدويًا بدقة، تجلب هذه الآلات الفرح للناس في جميع أنحاء العالم.
يطلق على الناي اسم "أم جميع آلات النفخ"، حيث ظهر قبل ما لا يقل عن 4500 عام. في أهرامات الجيزة الكبرى، هناك صور لموسيقيين يعزفون على الناي، حيث كان أداة مهمة تستخدم في الاحتفالات الدينية والاجتماعية. كشفت الحفريات في مدينة أور السومرية القديمة (جنوب العراق) عن مزامير غريبة المظهر مصنوعة من عظام الطيور الكبيرة.
في التقاليد الصوفية، الناي أداة مهمة. يُقال إنه يحكي عن حب البشرية لله وتوقها إلى أن تكون معه، وغالبًا ما يصاحب لحنها الحنون رثاء الانفصال عن الإلهي. الناي مذكور في الأدب والشعر الصوفي. وخير مثال على ذلك هو "مثنوي" للسيد الصوفي جلال الدين الرومي. تبدأ كلمة "Masnavi" بعبارة "Bişnev ez ney"، وهي كلمة فارسية تعني "استمع إلى الناي". الموضوع الرئيسي للقصيدة هو الانفصال عن المكان أو عن الإلهي. "استمع إلى الناي، وكيف يشكو ويروي حكايات آلام الانفصال".
في الأدب الشامي الحديث، يرد ذكر الناي في الشعر الشعبي، كما هو الحال في كتاب جبران خليل جبران "المواكب"، مع تكرار مقطع يبدأ بـ"أعطني الناي وغنِّ". أصبحت القصيدة شائعة عندما غنتها المطربة اللبنانية فيروز في سبعينيات القرن العشرين، وبهذا رسخت نفسها في أذهان الأجيال.
تتأثر الموسيقى بالبيئة الطبيعية والهوية الثقافية للناس، لعب الناي التقليدي دورًا رئيسيًا في الموسيقى العربية الشعبية. استخدمه الموسيقيون العظماء في بعض الأحيان لعزف لحن تمهيدي لأغانيهم، لحن يخلق عادة تجربة روحانية.
من بين أساتذة الموسيقى الحديثة خارج الأردن نجم الموسيقى العالمية التركي عمر فاروق تكبيليك، والمايسترو اللبناني علي جهاد راسي، والإيراني المعروف محمد موسوي.
كان الناي المتواضع دائمًا أداة الرجل العادي، أداة لرواية القصص وحكايات الصراع والوحدة والحب والخيانة والندم والانفصال. وقد استخدمه المزارعون في الحقول والرعاة في المراعي والموسيقيون الشعبيون الذين يؤدون عروضهم في الاحتفالات الجماعية.
يعتقد زريقات أن الموسيقى تهدف إلى أن تكون احتفالية، وهو تعبير غريزي يتجاوز القواعد وأوراق الموسيقى. "جمال الموسيقى الشعبية هو أنها شاملة. إنها تجمع أفراد المجتمع معًا ويمكن لأي شخص المشاركة والتعبير عن نفسه من دون إطلاق أحكام".
يسعى بيت الناي إلى إحياء الفن المفقود في صناعة الآلات الموسيقية يدويًا، نشأ من مبادرة أطلقتها زريقات في العام 2007 تسمى ذكرى للتعليم الشعبي، والتي تهدف إلى سد الفجوة بين المجتمعات الحضرية والريفية، وتسهيل تبادل المعرفة والمهارات مثل بناء المنازل الأساسية باستخدام الممارسات التقليدية، والحفاظ على الطعام، وصياغة الأدوات ولعب الأطفال والأواني وحتى الآلات الموسيقية باستخدام الموارد المتاحة والمواد المعاد تدويرها.
تتخذ مبادرة ذكرى جملة "نستبدل من أجل التغيير" شعارًا لها، وتقوم على تعزيز المساواة بين المجتمعات الريفية والحضرية من خلال التبادل الثقافي، وتهدف إلى تحدي التصور التقليدي للعمل الخيري، حيث يصبح طرف واحد بطلًا لإنقاذ ضحايا الفقر، والذي غالبًا ما يكون مهينًا للمجتمعات الفقيرة. كما شهد زريقات في عمله الخيري. وهو يعتقد أن هذه المجتمعات على الرغم من فقرها لديها ما تقدمه وتشاركه من حياتها الخاصة، ومن هنا بدأت الفلسفة الكامنة وراء المبادرة.
لمعرفة المزيد عن أعمال بيت الناي، يرجى زيارة @Bait_Al_Nay and@Zikra_for_popular_learning على إنستغرام.
