مقتطف من كتاب حسام السيد: نوبة حراسة الأحلام

أسماء جنيدي، بدون عنوان، زيت على قماش، 180×200 سم، 2024 (بإذن من معرض أوبونتو).

حسام السيد   By • 22 SEPTEMBER 2025

جزء من كتاب بديع لحسام السيد، حيث يسرد تأملاته عن الأحلام والسينما والكتب، ينتمي الكتاب إلى تصنيف نادر في المكتبة العربية، ربما أفضل وصف له أن غير مصنف.

أمي و«إمبراطورية ميم»

 

“نوبة حراسة الأحلام” من إصدارات ديوان.

حلم:
«يجلس «جمال عبد الناصر» مطرقًا بصمت. ينفث دخان لفافة تبغ بينما ينظر إلى صندوق خشبي صغير على مكتبه. يشير لحارسه، فيهوي الأخير بعنف على الصندوق بمطرقة لتنفلت مئات القصاصات الوردية من الحطام، تتطاير لتملأ فضاء الغرفة في ثورة أنثوية يصعب أن يكبحها ضابط بمطرقة أو بندقية، تحمل القصاصات جميعها حرفًا واحدًا: «م».
تدخل أمي دون استئذان لحجرة زعيم من القرن الماضي، وتلمع عيناها بنظرة انزعاج أعرفها جيدًا، نظرة إلى غرفة شهدت تهورًا طفوليًّا وتحتاج إلى تنظيف طويل.»
لم تحب أمي يومًا فيلم «إمبراطورية ميم»، لكنها ابتسمت مرة عندما أخبرتها أن القصة كانت تدور حول رجل بالأساس، ولكن، عندما تسلمها «نجيب محفوظ» من «إحسان عبد القدوس»، جعلها تدور حول أبناء يثورون على «الماتريركية»؛ الأم.
يرى نقاد كثر أن الفيلم بأكمله إسقاط على جيل 1972 الثائر على السلطة الأبوية، التي أوصلت الوطن إلى النكسة، ويريد محاسبتها، يريد أن تكرس السلطة شرعيتها بالانتخاب، بالحرية؛ فـ«إمبراطورية ميم» لا تعدو أن تكون مجازًا عن مصر التي تبدأ بالحرف ذاته. قالت لي أمي ساخرة إن الأمومة إذن، التي اختبأت خلفها كل المجازات السابقة، باتت كبش فداء لقادة الوطن ذاته.
أخبرها أنه لو قامت في بيتنا انتخابات كل عام فستفوز باكتساح. تخبرني أن الأمومة أكثر تعقيدًا من برنامج انتخابي وأصوات. تقول برقة إنها تتذكر أيامًا ولحظات بعينها لم تكن لتفوز فيها بصوت واحد، لكن لو قامت انتخابات يومًا فسيقوم برنامجها الانتخابي على ما تفعله دومًا: مزاحمة تلك اللحظات العصيبة بطوفان من لحظات أكثر جمالًا؛ عسى أن تمتلك ذاكرتنا عدالة انتخابية ترجح كم اللحظات السعيدة على كيف لحظة واحدة قاسية.
خلال عملي لسنوات في مدينة أطفال، رأيت كثيرًا الأمهات المثقلات بلعنة المعرفة، معرفة رعب أن تكون أمًّا مسؤولة عن جلب طفل إلى العالم وتقديم الحب له لأول مرة، الحب الذي سوف يأسر طفلها أبدًا للطريقة التي قُدِّم بها له، سيظل يستقبله ويقدمه للآخرين بالطريقة نفسها؛ أمهات يحملن ندوبهن من طفولتهن القديمة، ويرتعدن من تكرارها -بعدما صرن أمهات- في أطفالهن الجدد؛ يدركن أن لحظة خاطئة، تعنيفًا مبالغًا، تركًا طويلًا قد يحطم ثقة أطفالهن الجدد فيهن وفي العالم، يرتعدن من اللحظة التي ستحفر حضورها في وجدان الطفل مثل ندبة، اللحظة التي سيتذكرها بعد سنوات على أريكة معالج نفسي وثيرة ويقول: «من هنا بدأ الأمر. لقد فعلت أمي بي ذلك.»
يخبرني صديقي أن أمه ربته في شرنقة حامية؛ لهذا هو مبتلى بهشاشة فريدة من نوعها، حساسية لا يتحمل معها وصال العالم، بينما تخبرني صديقة عن الصلابة التي أعدتها بها أمها لمواجهة عالم لا يرحم، صلابة جعلتها حارسة جيدة لأنوثتها في مجتمع قاسٍ، لكنها صلابة جعلتها حتى الآن لا تجيد التعبير عن الحب؛ تخاف الحميمية، ولا تعترف بضعفها، ولا تعتذر.
لم يجد صديقي الحب لأن هشاشته لا تحتمل أن يضع قلبه بين يدي امرأة فتحطمه، ولم تجد صديقتي الحب لأن الحميمية تعرٍّ هش، يشبه وصال الحب لديها أن يحمل غول كأسًا رقيقة، يتفحصها، يراقب سريان الضوء عبر زجاجها الساحر، يحرسها، لكن يكمن التحدي في وصال رقة الكأس دون أن يحطمها بأصابعه القوية.
مهما فعلت الأمهات فإنهن ملومات دومًا. يصعب وصال العالم دون لوم الفرع الذي تدلينا منه؛ فرع كان قريبًا جدًّا من الأرض، وثانٍ كان بعيدًا في الظل، وثالث ارتوى حتى الامتلاء، وآخر لم يرتوِ بما يكفي.
السقوط نحو العالم واستهلال قصتنا يبدأ دومًا بنظرة إلى الأعلى، نظرة لوامة إلى الفرع الذي حملنا طويلًا، مهما أمدَّنا الفرع بكل شيء فستظل ثمة تفصيلة منسية، سلاح لم تُعِدَّنا به الأم لمواجهة العالم، تفصيلة سنتذكرها في لحظة بعينها وسنلوم لأجلها الفرع الذي أحضرنا إلى هذا العالم.
أتذكر لأمي أخطاءً لا تُحصى، لحظات حفرت حضورها بداخلي، تركًا طويلًا هز ثقتي كثيرًا في العالم قبل أن تطل بوجهها في نهاية يوم دراسي حار لتعيد إلى قلبي سلامه.
لكنها مررت إليَّ معنى الأمومة في ليلة بعينها عندما التقطت قطة رضيعة تاهت عن أمها في ليلة باردة وتُرِكت لاحتضار بطيء. ظلت أمي تسقيها اللبن قطرات عبر محقن طبي، يومًا تلو الآخر، دون كلل. كل مرة أخبرها أن الجرعة ليست مثالية مثل ثدي القطة، أنها تصب اللبن تارة أقوى مما يجب وتارة أخف مما يجب، أنها لا تمارس أمومة حقيقية لأنها ببساطة ليست قطة.
لم ترد أمي، ظلت تحضر صبيحة كل يوم إلى قفص القطة، لا تفوت يومًا، تجرب ألف مرة، حتى كبرت القطة في شهور وغادرتنا يومًا بنظرة ممتنة إلى أمي، قبل أن تعود بعد شهور بأطفالها وقد صارت أمًّا لتُري أمي نجاحها، فتنظر أمي بحنان إلى القطط الصغيرة مثل جدة فخورة.
علمتني أمي يومها أنه ليس للأمومة وصفة سحرية أبدًا؛ يومًا ستكون عنيفة أكثر مما يجب، يومًا ستكون حنونًا أكثر مما يجب، وكل مرة، ستترك ندوبها، ستصير مهما فعلت المشجب الذي يعلق عليه الأبناء آلامهم، لكن جوهر الأمومة ليس في تجنب ذلك، إنما أن تحضر في اليوم التالي وتحاول من جديد.
لم تكف أمي عن المحاولة لأجلي يومًا، لم تكف عن الظهور في اليوم التالي بلا كلل. عندما تشتري فاكهة، تظل كل مرة تتفحص عنقود العنب حتى تُمرِّر إلينا أطيب ثماره. تلك استراتيجيتها الأساسية: تتفحص ممكنات العالم كل مرة بحثًا عن أطيب طريق، وإذا أخفقت، تدير عنقود العنب في يديها مرة أخرى بحثًا عن ثمرة أكثر نضجًا وأقل لذوعة. تصنع أمي الندبة، وبتفانٍ ساحر، تزيلها بفعل حب في اليوم التالي.
خلال عملي، كنت أطمئن كل أم تخاف أن تترك طفلها لمخاطرة، كل أم تبالغ في دفع طفلها إلى مخاطرة، بأن تظل فقط موجودة لأجله، لو أنقذته هشاشته أو أهلكته فعليها أن تبقى لأجله وتحاول في اليوم التالي تصحيح ما بدا خاطئًا.
أخبر صديقي أن لوم الفرع قد يكون حقيقيًّا، ولا نجاة إلا في الاعتراف به، لكنه ليس استراتيجية نجاة مطلقًا؛ في لحظة بعينها، علينا وصال العالم بعيدًا عن الفرع الذي نضجنا عليه وتدلينا منه، وأن نعود يومًا بمغامرتنا إلى هذا الفرع، لنخبر أمهات بقيت أو غادرتنا أننا نجونا، ببعض من طريقتها وبعض من طريقتنا، نمنح الندوب غفراننا، وامتناننا لكل ما تعلمناه، ونتخيل نظرة فخورة تخبرنا أننا رغم كل شيء آل مصيرنا إلى قصة أجمل من مخاوف أمهاتنا التي صاغتنا، ومخاوفنا أيضًا.
كل مرة يُذاع «إمبراطورية ميم»، تتنحى أمي جانبًا، وتنشغل بإعداد وجبة طعام في غير وقتها، أو رتق ثوب لا يحتاج إلى حياكة، لكنها تختلس النظر كل مرة إلى الشاشة عندما يختار الأبناء أمهم بحريتهم، ويخبرونها بحبهم عبر الأصوات الانتخابية الحرة خارج إكراهات السلطة وإملاءات الهيبة. تبتسم، وأتخيلها على نحو ما مزهوة بحنان مثل قائد يخطئ ويصيب، لكنه لم يترك أبناءه لنكسة، ولم يتهرب من أخطائه بسلطة، ولم يقايض الأحلام الصغيرة بحلمه الدائم بالبقاء. ربما كانت تلك حيلة ذكية لـ«نجيب محفوظ»: الطريقة الوحيدة للفوز بالانتخابات هي أن تكون أمومية؛ لأن -في الواقع- لا يُوجَد قائد سيرتكب خطيئة الحنان.

حسام السيد

حسام السيد حسام السيد، كاتب، وناقد سينمائي، وكاتب محتوى ومُحرر ببرنامج «الدحيح»، من مواليد القاهرة 1992. صدر له «جواد يبلغ مُنتهى وجهته» عام 2021 ورواية «إنجيل بيسوا» عام 2023، آخر إصداراته كتاب «نوبة حراسة الأحلام» عن دار ديوان.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

مواضيع مشابهة

Arabic

مقتطف من رواية طلال فيصل: جنون مصري قديم

22 SEPTEMBER 2025 • By طلال فيصل
مقتطف من رواية طلال فيصل: جنون مصري قديم
Arabic

مقتطف من كتاب حسام السيد: نوبة حراسة الأحلام

22 SEPTEMBER 2025 • By حسام السيد
مقتطف من كتاب حسام السيد: نوبة حراسة الأحلام
Arabic

مقتطف من رواية أحمد القرملاوي: الأحد عشر

24 FEBRUARY 2025 • By أحمد القرملاوي
مقتطف من رواية أحمد القرملاوي: الأحد عشر
Arabic

مقتطف من رواية محمد الفولي: الليلة الكبيرة

24 FEBRUARY 2025 • By محمد الفولي
مقتطف من رواية محمد الفولي: الليلة الكبيرة
Arabic

مقتطف من رواية حسن كمال: الرواية المسروقة

3 FEBRUARY 2025 • By حسن كمال
مقتطف من رواية حسن كمال: الرواية المسروقة

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

18 − 11 =

Scroll to Top