ما الوطن؟ - الغزاويون يعيدون تعريف المكان أثناء النزوح

31 مايو 2024
في صور أسامة الكحلوت التي التقطها أثناء الحرب، يعيد سكان غزة النازحون باستمرار تعريف معنى الوطن.

 

نادين عرنكي

 

قبل أسبوعين أجريت مكالمة مع والدتي التي تقيم في الضفة الغربية المحتلة. قالت لي إنها كادت أن تشهد مقتل أحد جيراننا الذي يسكن في بناية خلف شقة والديّ في رام الله. فقد قُتل شاب فلسطيني برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء عودته إلى المنزل. وقالت أيضًا إن جارًا آخر تم اعتقاله مؤخرًا من المتوقع أن يهدم الجيش الإسرائيلي منزله قريبًا.

وأضافت: "في كل ليلة نذهب إلى الفراش ونحن نتوقع أن نستيقظ بعد فترة قصيرة بسبب الغارات الليلية وربما على أصوات تفجيرات الجيش للمنازل".

استُخدمت أداة العقاب الجماعي هذه لسنوات عديدة، بدأت ذلك مع فترة الانتداب البريطاني في فلسطين. قد يكون البيت أو المنزل أحد الأعمدة المركزية في حياة الفلسطينيين المرتبطة بالعائلة ومكان الولادة والأصل. منذ النكبة، وخلال 76 عامًا من الاستعمار الإسرائيلي المتواصل، برزت الخيمة ليس كشيء مجازي بل كبيت بديل فُرض على الفلسطينيين الذين هُجّروا من مدنهم وقراهم نتيجة قيام دولة إسرائيل. وعلى الرغم من مرور عدة عقود، لا تزال النكبة حدثًا مستمرًا، حيث تتزايد الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها، وخاصة في قطاع غزة.

وقعت الأحداث التي ذكرتها سابقًا في مسقط رأسي رام الله، التي تعتبر المنطقة "الأكثر هدوءًا" في الضفة الغربية، في ما أصبح المنطقة (أ) بعد اتفاقات أوسلو العام 1993. وعلى الرغم من وحشية هذه الأحداث، إلا أنها لا تقارن بحجم التدمير الإسرائيلي للمنازل والأحلام والذكريات في غزة منذ 8 أكتوبر 2023. فقد مرت أكثر من سبعة أشهر من الإبادة الجماعية حاول خلالها المدنيون بكل الطرق الممكنة حماية أنفسهم من فظائع الحرب. من خلال تصفح صفحة المصور الصحفي الغزي على إنستجرام أسامة الكحلوتيمكن رؤية ازدحام المخيمات التي أُنشئت حديثًا لإيواء النازحين الغزيين، وكذلك الهياكل المبتكرة التي صنعوها لإيواء أنفسهم أو للقيام بالأنشطة اليومية التي يعتبرها الناس في بلدان أخرى من المسلمات. لا يكتفي كحلوت بتوثيق هياكل الخيام فحسب، بل يوثق أيضًا قصص العائلات النازحة وأولئك الذين هم بحاجة ماسة إلى المساعدة الطبية أو الإخلاء لتلقي العلاج المناسب. ويدعو الأشخاص الذين يتابعون صفحاته إلى المساعدة في دعم هذه العائلات.

رجل فلسطيني يصنع خيمة من المظلات المستخدمة في إسقاط المساعدات على قطاع غزة، 2024 (الصورة أسامة الكحلوت).
رجل فلسطيني يصنع خيمة من المظلات المستخدمة في إسقاط المساعدات على قطاع غزة، 2024 (الصورة أسامة الكحلوت).

على الرغم من هذه المحاولات لمواصلة الحياة اليومية، حاول سكان جنوب ووسط قطاع غزة العودة إلى ديارهم في مدينة غزة ومناطق أخرى في الشمال، حيث كانوا يأملون في خلق خياة لهم ولعائلاتهم في منازلهم، أو في ما تبقى منها. وفي دير البلح، في وسط القطاع، نصب آلاف اللاجئين خيامًا بالقرب من البحر في دير البلح وسط القطاع. وبعد الهجوم العسكري الإسرائيلي على رفح في أيار/مايو، نزح آلاف آخرون قسرًا مرة أخرى إلى مناطق مثل دير البلح والنصيرات. وكانت إحدى الهياكل التي أقامها الناس مصنوعة من علب الطعام المحفوظ المصنوعة من الصفيح، الأمر الذي لم يعكس فقط تجربة اللاجئين في غزة فحسب، بل أيضًا سوء نوعية الطعام الذي يتلقونه بصعوبة متزايدة. وفي مقابلة أجراها الكحلوت، روت السيدة الفلسطينية داليا العفيفي قصة خيمة "علب الصفيح". وأوضحت أنها ومجموعة من اللاجئين الآخرين، بمن فيهم مهندسون معماريون، عقدوا العزم على تحدي واقعهم الحالي الناتج عن النزوح.

"قررنا كسر حالة الألم والحزن بعد خمسة أشهر من بدء الحرب. بالتفكير خارج الصندوق، استخدمنا العلب التي تعتبر المصدر الرئيسي للمساعدات التي تصل إلى قطاع غزة. ومن ثم، قررنا إعادة تدويرها".

وأضافت العفيفي أنها توصلت إلى هذه الفكرة، حيث أن أسعار الخيام في ارتفاع مستمر، حيث وصلت إلى 1800 شيكل - أي ما يعادل 482 دولار أمريكي. وقالت إن هذه الخيام ليست فقط لإيصال رسالة عن واقع غزة إلى العالم أجمع، بل إنها تستخدم أيضًا لإيواء اللاجئين القادمين حديثًا لبضعة أيام حتى يجدوا خيمة خاصة بهم. وأضافت العفيفي أنه وفقاً للمهندس المعماري عبد الله ثابت، الذي ساعدها في تصميم الخيمة، فقد تم استخدام حوالي 13,000 علبة صفيح في هذا البناء. وقد تم بناء الخيمة بمساعدة فريق من اللاجئين النازحين من مناطق مختلفة من قطاع غزة.

ويبقى السؤال المطروح اليوم، كم عدد الخيام وعلب الصفيح التي ستحتاجها دير البلح لاستيعاب الآلاف القادمين من رفح بحثًا عن الأمان؟

بإلقاء نظرة فاحصة إلى الخيام في غزة، يمكن للمرء أن يرى مبادرات مختلفة بدأها اللاجئون والتقطتها عدسة كحلوت. إحداها هي "خيمة اقرأ" التي أنشأها مركز رواد الأمل للتعليم والتدريب.. يخدم المركز المنطقة الوسطى من قطاع غزة، وقد بدأ المركز مؤخرًا مبادرته بإنشاء خيام تعليمية بدءًا من خيمة اقرأ.

خيمة الأمل (الصورة عمر الكحلوت).
أطفال خارج خيمة الأمل، "خيمة الأمل" في دير البلح (الصورة عمر كحلوت).

كما تم إنشاء خيمة أخرى مماثلة، تقع "خيمة الأمل" في مناطق الإيواء بجوار منطقة الشاطئ في دير البلح. ينظر العديد من سكان غزة إلى هذه المشاريع على أنها نقاط تعليمية مؤقتة تخدم الأطفال وتتيح مساحة لاستخلاص المعلومات والتعليم غير الرسمي. وقال مؤسس خيمة الأمل، عقيل قريقع، إن الخيمة بدأت بعد سبعة أشهر من الحرب لاستعادة الطفولة في غزة وإعادة التعليم إلى حياة الأطفال. تجول قريقع في المخيم لمعرفة ما إذا كان الناس مستعدين للمشاركة في المبادرة. ولحسن الحظ، رحب الكثيرون بها، وانضم العديد من اللاجئين لتقديم خبراتهم في التعليم والتدريس وعلم النفس. أنشأت هذه المدرسة البديلة في مخيم العودة للاجئين لتوحيد الجهود الجماعية في المخيم مع الدعم الواصل من المانحين من خارج فلسطين. قريقع، وهو محاسب سابق في المستشفى الأهلي في مدينة غزة، لم تكن لديه خبرة في مجال التعليم لكنه قام بتنظيم الجهود والخبرات في المخيم وتواصل مع الجهات الداعمة لتوفير هذه المساحة للأطفال. تخدم خيمة الأمل 200 طالب نازح من مختلف الفئات العمرية، تعمل الخيمة لفترتين، صباحية ومسائية مع تزايد الطلب عليها مع وصول أهالي غزة من رفح.

وأوضح قريقع أن طلاب خيمة الأمل قد نظموا فعالية لإحياء ذكرى يوم النكبة وأعدوا برنامجًا كاملًا من تلقاء أنفسهم لتذكر فظائع الماضي أثناء معايشتهم لأهوال الحاضر. وعلى الرغم من اعتبارها بدائل إيجابية لأطفال غزة المحرومين من التعليم لأكثر من سبعة أشهر، إلا أن الأولوية بالنسبة للكثير من الغزيين تبقى العودة الآمنة إلى منازلهم وتأمين حياة كريمة لعائلاتهم.

وثقت صور كحلوت وقصصه شكلًا آخر من أشكال الإبداع. في هذه الحالة، لا ترمز المنازل في غزة إلى العائلة والأمان فحسب، بل إلى الأماكن التي يبدع فيها الغزيون الفن. تهتم صور كحلوت بالفنانة الشابة منى حمودة التي نزحت من بيت لاهيا في شمال القطاع وانتهى بها المطاف في مدرسة في دير البلح. كانت حمودة تحلم بإنشاء مركز فني في منزلها حيث يمكنها عرض أعمالها الفنية. إلا أن الصواريخ الإسرائيلية دمرت منزلها وجميع أعمالها الفنية. وبدلاً من إنشاء معرض هناك، بدأت منى برسم جداريات على جدران المدرسة التي لجأت إليها. في مثل هذه الظروف المروعة، ربما يكون الفن آخر ما يفكر فيه المرء في خضم الإبادة الجماعية المتلفزة. ومع ذلك، فقد بدأ الفن في الخيام والملاجئ. فعلى سبيل المثال، ينتج الفنانان باسل المقصي وميسرة بارود أعمالًا فنية باستخدام مواد بسيطة. المقصي، الذي غادر رفح مؤخرًا بسبب الهجوم العسكري الإسرائيلي، وفّر مساحة وأدوات فنية خلال فترة لجوئه، واستضاف مجموعات من الأطفال للقيام بأنشطة فنية. في منشورات نشرها على وسائل التواصل الاجتماعيقال: "أرسم لأبقى إنسانًا وحساسًا ويقظًا، وحتى لا تنال الحرب من إنسانيتي وكرامتي".

من المفارقة أنه يصف أيضًا الأماكن التي يلجأ إليها بأنها أماكن إقامة فنية. ففي آخر نزوح له قال: "نحن نغادر من "إقامة رفح" إلى "إقامة دير البلح الفنية". كما كان بارود غزير الإنتاج في رسم سلسلة لوحاته: أنا ما زلت على قيد الحياةالتي ظل يرسمها وينشرها على وسائل التواصل الاجتماعي لإبلاغ أصدقائه بنجاته كل يوم. اضطر بارود إلى النزوح من رفح مع آلاف آخرين بينما انتشرت رسوماته حول العالم بداية من معرض الزاوية في رام الله في الضفة الغربية المحتلة وحتى قصر مورا في البندقية.

هذه القصص هي لمحة موجزة عن الحياة اليومية في غزة حيث يجد الفلسطينيون طريقهم إلى الإبداع في ظروف قاسية وغير مقبولة من صنع الإنسان. من إنشاء هياكل خيام جديدة إلى إنشاء مبادرات تعليمية إلى صناعة الفن، يمارس الغزيون الحياة اليومية في ظروف استثنائية. هذه الممارسات، كما عبّر العديد من الغزيين، ليست قبولاً لواقع اللجوء الجديد، بل هي تذكير بأن العودة إلى الوطن ضرورية لممارسة هذه الأنشطة وغيرها بكرامة. 

هذه الأنشطة "المنزلية" هي في بعض جوانبها تجسيد لكلمات الشاعر الغزاوي مصعب أبو توهة:

ما الوطن
ظل الأشجار في طريقي إلى المدرسة قبل اقتلاعها من جذورها.
صورة زفاف جدي وجدتي بالأبيض والأسود قبل أن تنهار الجدران.
سجادة صلاة عمي التي كان ينام عليها النمل في الليالي الشتوية قبل أن تُنهب وتوضع في متحف.
الفرن الذي كانت أمي تخبز فيه الخبز والدجاج المشوي قبل أن تحوّل القنبلة منزلنا إلى رماد.
المقهى الذي كنت أشاهد فيه مباريات كرة القدم وألعب -
يستوقفني طفلي: هل يمكن لكلمة من أربعة أحرف أن تحمل كل هذا؟

 

نادين عرنكي هي قيّمة فنية وعاملة ثقافية ومنسقة وميسّرة ومنتجة محتوى فلسطينية مقيمة في لندن. تعمل كزميلة باحثة في جامعة دي مونتفورت في ليستر وتركز على التراث الثقافي والاحتياجات المجتمعية والسياسات الثقافية. عملت أرانكي في مجالات الثقافة وحقوق الإنسان والتعليم في فلسطين والمملكة المتحدة. شاركت مع ميغ بيترسون في تنسيق معرض "حيوات غزة المتعددة"، وهو معرض متجول في عام 2024 عُرض في لندن وبرمنغهام ونورويتش، ويضم صوراً فوتوغرافية ورسومات ومقاطع فيديو وملصقات.

الهندسة المعماريةالنزوحالمنزلالتصوير الفوتوغرافياللاجئونسومودالبقاء على قيد الحياةخيامالحرب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *