يوم زفاف وجدي معوض "المثير للجدل"

7 يونيو 2024 -
يُعد دفاع المثقفين اللبنانيين عن المخرج المغترب بمثابة تحذير من تقييد الدولة لحرية التعبير 

 

إيلي شلالا

 

ربما يكون "المسرحي" هو أفضل وصف للحالة الراهنة للمشهد الفني المسرحي في لبنان، والذي يبدو أنه تورط في دراما خاصة به في الأيام الأخيرة. في مطلع هذا العام، ودّعنا الثنائي (المخرجان والممثلان) أنطوان ولطيفة ملتقى، رائدي حقبة الستينيات الطليعية في المسرح اللبناني، واستمتعنا للحظة بالحنين إلى أيام بيروت الماضية النابضة بالحياة الثقافية. لكن لسوء الحظ، لم يعد لهذه الذكريات الوردية مكان كبير في ظل الأجواء الخانقة التي تسيطر على معظم الفنون والثقافة في لبنان. آخر ما أثار ضجة في عناوين وسائل الإعلام هو قرار مسرح "لو مونو" في بيروت بإلغاء مسرحية الكاتب والممثل والمخرج اللبناني الكندي المقيم في فرنسا وجدي معوض "وليمة عرس عند سكان الكهف" التي كان من المقرر عرضها في العام 2024، بعد ضغوط وتهديدات وُجهت إلى المخرج.

كُتبت المسرحية في البداية العام 2008، ترصد وليمة عرس حدثًا عبثيًا ومأساويًا في آن واحد يصيب حياة عائلة لبنانية أثناء استعدادها للاحتفال بزفاف ابنتهم الكبرى المصابة بالنوم القهري، بينما تستعر الحرب الأهلية من حولهم. عُرضت المسرحية في لندن العام 2008 من إخراج باتريشيا بينيكي، وحظيت باستقبال فاتر. ومع ذلك، أثنت لين غاردنر في صحيفة الغارديان على استكشاف معوض لكيفية "التعرض المستمر للعنف الذي يصيب جميع جوانب الحياة" و"الغريزة الإنسانية لمحاولة الحفاظ على نوع من الحياة الطبيعية حتى وسط المذبحة".

بعد قراءة الملخص وحده، لا تثير وليمة عرسوليمة عرس أي قلق. ومع ذلك، فإن مجرد وجود معوض في لبنان أدى إلى مقاطعة كاملة له، ما أدى إلى إلغاء المسرحية وانطلاق حملة تشويه ضده. المطلعون على أعمال المخرج السابقة يعرفون أن هذه ليست أول مرة يتعرض فيها وجدي معوض للجدل، فقد تعرض لانتقادات عديدة بسبب اختياره للمغني الفرنسي برتران كانتات الذي أدين بقتل شريكته ماري ترينتينانت العام 2003، كممثل في مسرحيته نساء (Des Femmes 2011) وأيضًا كأحد المنتجين الموسيقيين في مسرحيته التي تتناول سيرته الذاتية الأم (Mère, 2021).

وجدي معوض (بإذن من مهرجان سي آر دي إل أفينيون)
وجدي معوض (بإذن من مهرجان سي آر دي إل أفينيون).

الجدل الأخير الذي دار حول مسرحيته كل الطيور (Tous des oiseaux, 2017)، وهي قصة شبيهة بقصة روميو وجولييت، والتي أزهج بها معوض الكثيرين لاستكشافه قصة حب بين إيتان؛ عالم من أصل يهودي ألماني، ووحيدة؛ طالبة دراسات عليا أمريكية من أصل مغربي، بالإضافة إلى تعقيدات الإبحار في التاريخ والواقع المتناقض بين الفلسطينيين والمحتلين الإسرائيليين. وقد أبلغ النشطاء النيابة العسكرية عن معوض، واتهموه بالتطبيع وأن له صلة بإسرائيل.

حالة معوّض ليست فردية، بل هي الأحدث في قائمة متزايدة تضم أسماء مبدعين ومثقفين لبنانيين تعرضوا لاتهامات مماثلة في السنوات الأخيرة. يمكن للمرء أن يتذكر الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف، الأمين العام للأكاديمية الفرنسية، الذي تم تشويه سمعته على وسائل التواصل الاجتماعي ومعاملته كخائن بسبب مقابلة فرنسية إسرائيلية بُثت عبر التلفزيون، أو المخرج زياد دويري الذي وُصف أيضًا بـ"الخائن" بعد نجاح فيلمه الإهانة (2017) عندما استجوبته المحكمة العسكرية بخصوص مشاهد من فيلمه السابق الصدمة (2011) الذي تم تصوير جزء منه في إسرائيل. (ومن المفارقات أن دويري كان قد طلب تصريحًا من السلطات الأمنية الرسمية للتصوير هناك في المقام الأول. وقد تمت تبرئة اسمه منذ ذلك الحين، لكن المخرج لم يعد إلى لبنان بعد التهديدات التي وجهها له عماد موسى في "نداء الوطن").

تتصاعد الآن إدانات المثقفين اللبنانيين الموجهة للرقابة دعمًا لمعوض، محذرين من سيطرة الدولة على الثقافة وتأثير ذلك على حرية التعبير. يكشف الوضع الراهن للمسرح اللبناني عن أمة تعاني من الركود الثقافي والفني، إن لم يكن من الانحدار؛ ضم لبنان في السابق عشرين مسرحًا، لكن الآن لا يوجد سوى عدد قليل من المسارح، ما أدى إلى انهيار العديد من المؤسسات التاريخية مثل المسرح الاستعماري بسبب الهدم والبناء الجديد. الرقابة، مثل السم البطيء المفعول، دمرت تدريجيًا ثراء لبنان الثقافي منذ عقود، وتستمر حتى اليوم في فعل ذلك تحت غطاء اتهامات “التطبيع”.

تجسد الرقابة الموجهة إلى معوض القمع الفكري والفني الذي يعاني منه جميع الفنانين اللبنانيين. وفقًا لعبده وازن من إندبندنت عربية، فإن حملة التشهير دبرتها ممثلة لبنانية بارزة (حُذف اسمها) بدعم من صحفيين "مقلوبين سياسيًا" مستفيدين من الجدل المثار. حدد تقريرٌ لنادية إلياس في القدس العربي الممثلة بأنها مؤسسة مسرح المدينة نضال الأشقر، مشيرًا إلى أن البعض يعتقد أنها المسؤولة عن إلغاء المسرحية وتقديم بلاغ قضائي ضدها. تداولت وسائل الإعلام تسجيلاً صوتيًا معيبًا للممثلة يتهم معوض بالخيانة و"العمالة"، مطالبة بمحاكمته.

يكذّب وازن ادعاءات أشقر، مشيرًا إلى أنه من المفارقات أن الممثلة واجهت نصيبها من العقبات الرقابية في الماضي التي تدفع المرء إلى توقع وجود شعور بالود بينها وبين معوض، وكلاهما من ضحايا القمع. أثناء عرض مسرحية مجدلونالتي أخرجها الأشقر وروجيه عساف وكتبها هنري حاماتي تم إيقاف عندما اقتحمت قوى الأمن الداخلي المسرح، ما اضطر الممثلين إلى استكمال العرض في الشارع بوجود قوى الأمن. وعلى حد تعبير منى مرعي في منصة "هاول راوند" الإلكترونية المعنية بالمسرح، فإن هذه الحادثة شكلت "سابقة تاريخية وقانونية تمتع على إثرها المسرحيون في لبنان بحرية أوسع حتى اندلاع الحرب الأهلية، عندما عادت إجراءات الرقابة لتكون سلاحًا شرسًا ضد حرية التعبير". تتعارض رغبة الأشقر في فرض الرقابة مع روح تلك الحرية. ورداً على الانتقادات، قالت في "القدس العربي": "أنا لست ضد حرية التعبير، لكنني ضد التطبيع مع إسرائيل بكل أشكاله وضد التعامل مع إسرائيل سواء بشكل مباشر أو غير مباشر".

على الجانب الآخر، أثارت مسرحية كل الطيورأثارت ضجة في العام 2022 بعد اتهامات بمعاداة السامية أدت إلى إلغاء عرضها في ألمانيا، بينما يوجه مؤلفها اليوم اتهامات بالتطبيع مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يذكر وازن أن متهمي معوّض يتجاهلون حقيقة أن معوّض كان قد رسّخ موقفه في برنامج إذاعي فرنسي حديث، قال فيه: "نتنياهو مجرم".

وقد أوضح معوض موقفه في مقابلة تلفزيونية أجراها مؤخرًا على قناة إل بي سي اللبنانية مع ألبرت كوستانيان: "إذا كان هناك مكان أريد أن أختار أكون فيه، فهو ليس بين الفلسطينيين أو الإسرائيليين، أو بين اللبنانيين الشيعة أو اللبنانيين السنة، وليس بين الهويات". ويقتبس من رواية "أنتيغون" لسوفوكليس التي يقول إنها تشكل أساس نهجه في الحياة: "لقد ولدتُ لأشارك في الحب، لا لأكره... إذا أردت أن أختار مكاني الأساسي، فهو بين هاتين الكلمتين". خيار معوض هو "الحب".

إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر، والذي يشير إليه على أنه "حرب بين الأشقاء"، قد تنقَّل بين "القتلة". ويقول إن الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحالي هي حكومة قتلة، تمامًا كما فعلت حماس في 7 أكتوبر عندما كان هجومها بمثابة عملية اغتيال. يدرك معوّض أن العديد من اللبنانيين قد يختلفون مع موقفه، لكنه يتمسك بثبات بـ"الفروق الدقيقة": "في اللحظة التي تحاول فيها أن تكون دقيقًا، سوف يهاجمونك. إن الحفاظ على هذا الفارق الدقيق أمر معقد، وحتى لو كان الأمر مؤلمًا للغاية، فيجب عليك أن تضع نفسك في هذا الفارق الدقيق. يؤمن معوض بالحل الإنساني، مشيرًا إلى أنه لا عدالة تتولد من تدمير أمة واحدة أو القضاء على شعب.

كما يوضح أنه لا يأخذ هذه الاتهامات على محمل شخصي، بل هو عالق في صراع لبناني داخلي. بدلاً من ذلك، يقول إنه "حزين من أجل الممثلين" ويعتبر إلغاء مسرحيته "لحظة مفجعة لجميع الفنيين المعنيين". ومع ذلك، فهو يرى أن الموقف مثير من الناحية الأنثروبولوجية ومن المحتمل أن يكون موضوعًا يمكن استكشافه في مسرحية ما في المستقبل.

يشرح حازم صاغية في الشرق الأوسط أن معوّض عُد "مطبعًا" من قبل مجموعات ناشطة لأنه "يرفض أن يرى العالم حربًا دائمة ومطلقة". هم يوجّهون إليه اتهامات عديدة أوردها عماد موسى: إجراء اتصالات مع العدو الإسرائيلي، وخرق قانون مقاطعة إسرائيل في لبنان، فضلاً عن اتهامه بـ"تطبيع التاريخ" و"الترويج للاحتلال الإسرائيلي".


لقد أصبحت أيام لبنان كـ"منارة للحرية" التي كان يحتفى بها منذ زمن طويل مجرد ذكريات، حيث خنقتها الرقابة الفنية التي نمت بشكل كبير خلال القرن الماضي.


وفي معرض انتقاده للاتهامات الموجهة إلى معوض، يشكك موسى في منطقية وسخافة الحجج التي ساقها في دفاعه عن معوض، مشيراً إلى أن المعارضين للمخرج لم يشاهدوا أو يقرأوا المسرحية التي يزعمون أنها ممولة من السفارة الإسرائيلية في باريس ومسرح كاميري في تل أبيب في العام 2019. ساهم اختيار معوّض لممثلين إسرائيليين وفلسطينيين من فلسطين المحتلة في إثارة غضب الجمهور. وكان مسرح لا كولين قد تواصل مع وزارة الثقافة الفرنسية لتأمين سفر الممثلين من إسرائيل عن طريق السفارة الإسرائيلية في فرنسا. كما أفادت التقارير إلى استبدال ممثل عربي إسرائيلي بممثل سوري لاجئ لأداء أحد الأدوار خلال العروض في تل أبيب بسبب تعقيدات السفر.

ووفقًا لموسى، فإن الجزء الأكبر من المعترضين على معوض هم من داعمي القضاء العسكري، الذين يشير إلى أن لديهم دافعًا فنيًا ضعيفًا لعرض المسرحية لأنهم يعتبرون المسألة قانونية. وهو يطرح أسئلة بلاغية تخفي الدوافع الخفية وراء ذلك: "أي مخالفة قانونية أبشع: إقامة دولة دينية داخل الدولة اللبنانية تستلهم من "الخمينية" نهجها وممارستها خلافاً للدستور اللبناني، وإغراق لبنان في الحروب، وتعريض شعبه للقتل والتهجير نهجًا وممارسة، أم تقديم مسرحية"؟

ومثل وازن، ينتقد موسى أيضًا عدم وجود جوهر وراء مزاعم التطبيع. ويتناول أحد الاتهامات الموجهة إلى معوض بأنه "توج كراهيته المعلنة دائمًا للفلسطينيين بموقف شيطن قوى المقاومة بعد "طوفان الأقصى"، وأن معوض "أشار إلى أن ميليشيات حماس هي رمز لـ"قوى الظلام المجنون""، ردًا على ذلك قال معوض: "متى أصبح انتقاد حماس والسنوار وأولئك الذين يخاطرون بحياة الفلسطينيين جريمة؟" ويكتب موسى أن موقف معوض المعارض فشل في إدراك أن المخرج يردد كلام السفير الفلسطيني وعضو المجلس الوطني الفلسطيني أسامة العلي الذي قال في مقابلة تلفزيونية: “جماعة حماس مجنونة”، "هنية يهذي"، و"هذا جنون، وكل ما يحدث في غزة فعله مجانين عندما بدؤوا الطوفان".

ينتقد عبده وازن بشكل خاص عبثية اتهامات التطبيع على المستوى العام، والتي تُلقى على نحو متكرر الآن. فالروائيون والشعراء العرب الذين يشاركون في مؤتمرات دولية تضم مشاركين إسرائيليين سواء كانوا كتابًا أو صحفيين أو سياسيين حاضرين يتم اضطهادهم واعتبارهم "خونة" بسبب حديثهم معهم، حتى لو كانت هذه اللقاءات سريعة أو قصيرة.

وينتقد وازن المجموعة الرائدة في توجيه هذه الاتهامات، وهي "محور المقاومة والممانعة" في لبنان، التي تقترح حلًا على الأدباء والكتاب يتمثل في الانسحاب من المهرجانات الأدبية الدولية، "وترك الساحة للأعداء". ويكتب: "على الكتاب العرب أن يختفوا ويذوبوا إذا حضر المثقفون الإسرائيليون المهرجانات، وإلا فهم "خونة""، وهذا بدوره يحرم الكتاب والمثقفين العرب من منابر لمواجهة الرواية الإسرائيلية بمواقفهم أو قصائدهم أو نصوصهم. ويردّ وازن على ذلك بأن المثقفين العرب يصبحون في ظل توجيهات محور المقاومة والممانعة بمثابة "بعبع"، يتحدثون ويتصرفون من بعيد حيث لا تصل كلماتهم. وكما كتب في إندبندنت عربية: "إن الأساليب المستخدمة ضد الفنانين والمثقفين غوغائية ولا تستند إلى حقائق. وبذلك يُترك الخونة الحقيقيون والمتعاونون الذين يستحقون الكشف عنهم، ويتم التركيز على المثقفين الحقيقيين والأصيلين الذين يحملون وجهة نظر مختلفة فقط عن هؤلاء الممانعين".

لقد أصبحت أيام لبنان كـ"منارة الحرية" التي كان يحتفل بها منذ فترة طويلة مجرد ذكريات، حيث خنقتها الرقابة الفنية التي نمت بشكل كبير خلال القرن الماضي. يمكن إرجاع قوانين الرقابة في لبنان إلى أربعينيات القرن الماضي عندما كان الحظر مرتبطاً في أغلب الأحيان بالمحتوى الجنسي أو الديني. ويشترط أحد القوانين المكتوبة العام 1947 مرور البرامج التلفزيونية والأفلام عبر مجلس الرقابة. وفي أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية العام 1948، كانت غالبية قرارات الحظر الرقابية من العام 1950 إلى 1968 تتعلق صراحةً بإسرائيل واليهودية.

وقد أدى اندلاع الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990 إلى توسيع نطاق الرقابة لتشمل جوانب أخرى من الثقافة، مثل الموسيقى، استنادًا إلى أي إشارات إلى الذاكرة السياسية للحرب والمثلية الجنسية، بالإضافة إلى القيود القائمة على الدين وإسرائيل. ويشترط مرسوم تشريعي صدر في العام 1977 تقديم جميع النصوص المسرحية إلى مكتب الرقابة لمراجعتها وإصدار تصريح رسمي قبل عرضها في الأماكن العامة.

وقد تزايد دور الرقابة في السنوات الأخيرة مع تزايد الاضطرابات السياسية في السنوات الأخيرة، بدءًا من الحرب الأهلية والحرب في سوريا والوضع غير المستقر في الرئاسة وصولاً إلى الأحداث الأخيرة منذ 7 أكتوبر من العام الماضي. ووفقاً لقناة الجزيرة، يعزو الخبراء هذا التحول إلى تركيز الدولة على تعزيز الوحدة الطائفية من خلال منع مناقشة الحرب الأهلية. فقد كانت الرقابة تعتبر مبررة في حالات الحرب الأهلية التي كان يتم خلالها السيطرة على الحياة الثقافية للحفاظ على مصالح الحرب، كما يقول حازم صاغية في الشرق الأوسط. منذ التسعينيات، شهد لبنان تراجعًا في حرية التعبير، وفي الوقت نفسه، ازدادت ممارسات الرقابة قوةً، وأصبحت ممنهجة بلا مبرر قانوني واضح، وذلك وفقًا لمنى مرعي في "هاول راوند". على حد تعبير مرعي: "العمل الفني موجود لطرح الأسئلة وتحدي المفاهيم الشائعة من خلال تقديم رؤية الفنان المتفردة. ولذلك، فإن العمل الفني ليس سلعة، ولا ينبغي أن يكون معنيًا بـ"الحفاظ على النظام العام" أو أن يكون موجودًا "لخدمة المصلحة الوطنية". وتضيف أن الممارسات الرقابية تستغل المصطلحات القانونية الفضفاضة لمحو الذاكرة الجماعية، خاصة فيما يتعلق بالحرب الأهلية. تم منع الفيلم الدرامي الكوميدي الدرامي شعب متحضر في العام 1999 لتصويره علاقة عاطفية بين رجل ميليشيا مسلم وخادمة مسيحية أثناء النزاع.

لقد وجّه هذا الأمر ضربات قاسية للثقافة والفنون في لبنان، مع ما ترتب على ذلك من آثار ترسم صورة قاتمة لمستقبل البلاد الإبداعي. وكثيرًا ما استهدف الحظر الرقابي الثقافة الشعبية المستوردة من أماكن أخرى. يحظر قانون مقاطعة إسرائيل الصادر العام 1955 أي مواد تتعلق بإسرائيل، على الرغم من أن قرارات الرقابة استهدفت أيضًا كل ما هو يهودي. تم منع فيلم بائع الحليب في العام 1960 لأن أحد ممثليه، جيري لويس، كان من أصول يهودية، بحسب الجزيرة. وفي العام 1973، مُنع جوني هوليداي من دخول لبنان بعد حفلتين في بيروت بسبب رقصته "التويست". أما روايةعن الفئران والرجال، لجون شتاينبك فقد تم حظرها لأن اسمه بدا يهوديًا، على الرغم من رفع الحظر عندما أكدوا أنه لم يكن يهوديًا، وفقًا لصحيفة ديلي ستار، كما نقلت صحيفة دنفر بوست. كان المبدعون الذين لهم صلة من أي نوع بإسرائيل يخضعون للرقابة، سواء زاروا إسرائيل في الماضي أو اعتنقوا اليهودية أو دعموا إسرائيل. وفي إحدى الحالات السخيفة التي استشهدت بها صحيفة دنفر بوست، منع أمن المطار فرانسيس فورد كوبولا من دخول المطار لأن جزءًا من محرك طائرته الخاصة صُنع في إسرائيل. واضطر إلى الهبوط في دمشق والسفر برًا لافتتاح مهرجان بيروت السينمائي.

لم تقف قوانين الرقابة عند حدود الواردات الثقافية، بل امتدت إلى الإنتاج الإبداعي للفنانين اللبنانيين. يستشهد مرعي بأنه قبل العام 1999، لم تكن المهرجانات تخضع للرقابة، ولكن منذ ذلك الحين، أصبحت جميع المهرجانات "خاضعة للرقابة"، من فنون الأداء مثل الرقص إلى المسرح. المشاهد من لا روت دو لا سوي التي تصوّر رجالاً في وضع الصلاة ونساءً يرقصن على أنغام موسيقى أم كلثوم اعتُبرت غير لائقة. في هذه الأثناء، كان المخرجون ينتظرون لسنوات ويقومون بعدة محاولات للحصول على إذن لعرض أعمالهم، كما في حالة لينا خوري التي انتظرت عامين للحصول على إذن لتقديم مسرحيتها حكي نسوان، المأخوذة عن مسرحية إيف إنسلر مونولوجات المهبل، والتي لم تُقبل إلا بعد إدخال تعديلات على النص.

في العام 2014، حاورت صحيفة "دنفر بوست" ليا بارودي، وهي عضو مؤسس في منظمة "مارش" اللبنانية غير الحكومية التي تأسست العام 2011، توثق المنظمة ممارسات الرقابة في لبنان في متحفها الافتراضي للرقابة، بالإضافة إلى أرشيف يمتد من العام 1940 إلى الوقت الحاضر. تعزو بارودي التهديد الذي تتعرض له الفنون والثقافة إلى الطبيعة المتقلبة للرقابة في لبنان. وعلى حد تعبيرها: "قوانين الرقابة غامضة لدرجة أنها تسمح للمسؤولين بالرقابة على أي شيء يريدونه... الرقابة على الفن والثقافة ضارة بشكل خاص لأن هذه الوسائل هي أدوات للسلام والحوار".

تجسّد إحدى المسرحيات التي كتبها عصام محفوظ وأخرجتها سحر أسعد العناصر غير المتوقعة التي تؤثر على قرارات الرقابة. تحمل المسرحية في الأصل عنوان "الديكتاتور"بعد ذلك تم تغييره إلى "الجنرال" ثم أختير العنوان الأصلي "الديكتاتور" خوفًا من أن تكون كلمة "الجنرال" قد ألمحت إلى الرئيس آنذاك الجنرال فؤاد شهاب؛ واليوم، تم تغيير العنوان مرة أخرى إلى "الجنرال" بسبب النفور من الإشارة إلى الديكتاتوريات.

تبقى معايير الرقابة فضفاضة وغامضة. فكما يوضح مكتب الرقابة، تخضع الأعمال للرقابة إذا وُجدت مسيئة أو قد يتحسس منها الجمهور، أو إذا كانت تمثل دعاية ضد المصالح اللبنانية، أو إذا كانت لا تحترم النظام العام والآداب والأخلاق الحميدة، أو إذا كانت تعرض الدولة للخطر. يفتقر لبنان إلى هيئة رقابة مركزية، وهو ما تفسّره البارودي بأنه يسمح للوزارات والهيئات والأمن العام بحظر المواد حسب تقدير كل منها، وغالبًا ما يكون ذلك بتأثير من السلطات الدينية والأحزاب السياسية وحتى السفارات الأجنبية. علاوة على ذلك، لا يمكن للجمهور الوصول إلى سجلات الرقابة.

أساليب الرقابة تعسفية مثلها مثل قراراتها. ووفقًا لبارودي، فإن المواد المحظورة في إحدى الوسائط قد يُسمح بها في صيغة أخرى. وفي الوقت نفسه، سيتم ببساطة حجب بعض العناصر لإخفاء الإسناد، مع إبقاء المحتوى كما هو بلا أدنى تغيير. تقول في مقالٍ نشرته إذاعة صوت أمريكا الإخبارية إن اتجاه الرقابة وجعل كل شيء محظورًا من أجل "استرضاء كل مجموعة داخل المجتمع... يزيد الأمر سوءًا ويزيد من التوترات". وتضيف أن من يعاني من العواقب هم الفنانون والمخرجون فقط، لأن الرقابة نفسها غير فعالة؛ إذ يمكن تجاوز رقابة الحجب بسهولة، بينما يمكن العثور على المحتوى المحظور في مكان آخر في شكل إعلامي مختلف، ويمكن القول إن ذلك لا يحمي أحدًا رغم ادعاءات المكتب.

وعلاوة على ذلك، بما أن قرارات الرقابة تُفرض شفهيًا وليس كتابيًا بشكل رسمي، فمن الصعب مواجهتها. وكما تقول بارودي في إذاعة صوت أميركا، فإن الغموض يعطي "هامشًا كبيرًا للأمن العام للإفراط في التفسير". كما ينقل "صوت أميركا" عن فراس تلحوق، الباحث في منظمة "سكايز ميديا" اللبنانية، الذي يؤكد أن قوانين الرقابة تتقلب بحسب السياسة اليومية، مضيفًا أن "ضغط الرقابة يتجاوز الحكومة. هناك بعض الشخصيات السياسية التي لا يمكن الحديث عنها، ولكن ليس فقط بسبب الرقابة. بل أيضاً بسبب الرقابة الاجتماعية والرقابة الذاتية." وكما تشرح منى مرعي في "هاول راوند"، فإن إجراءات الرقابة عادةً ما تمر بلا توثيق لأن الفنانين يترددون في نشر ما حدث لهم مع الرقابة "خوفًا من أن يتخذ الرقيب ضدهم إجراءات مستقبلية"، مشيرةً إلى أن لبنان يفتقر إلى التعبئة النقابية والتشبيك الحيوي بين فنانيه. لا شك أن الرقابة التقييدية تخنق بلا شك تعبير وإبداع الفنانين والكتاب الذين يمارسون الرقابة الذاتية لضمان الموافقة على أعمالهم، ما يؤثر على جودة فنهم.

لا يزال يتعيّن علينا أن نرى حجم الأضرار التي لحقت بالقطاعات الإبداعية في لبنان طوال تاريخ الرقابة وهو يجتاز أزمة تلو الأخرى. وبعيدًا عن ساحة معركة غزة، وقعت ضحيتان رئيسيتان: استخدام اللغة كسلاح من جهة والتضييق على حرية التعبير من جهة أخرى.

يستخدم كلا طرفي النزاع بين غزة وإسرائيل اللغة لتعزيز مواقفهما. فالإسرائيليون يعممون لغة متطرفة لنسب الأفعال التي ارتكبتها حماس إلى جميع الفلسطينيين. وتشمل المصطلحات المستخدمة "الهولوكوست" و"الإبادة الجماعية". إلا أن الرأي العام العالمي، كما يتضح من أعداد كبيرة من طلاب الجامعات من هارفارد إلى كولومبيا، يرفضون ما يعتبرونه مجرد دعاية إسرائيلية.

وفي الوقت نفسه، لم يكن حال حماس والصحافة العربية والنشطاء الفلسطينيين أفضل حالاً. فقد أصبحت اللغة ضحية الحرب، ما جعل المراقب الموضوعي غير قادر على التمييز بين اللغة الإسرائيلية واللغة المؤيدة لحماس. وفي الوقت نفسه، أدى شيوع استخدام الكلمات المشحونة، مثل كلمة "الإبادة الجماعية" المذكورة أعلاه، إلى استخدام بعض الكتاب لها، وإن حدث ذلك بحسن نية، في سياقات مختلفة، ما ينتقص من ثقل المعنى المقصود من هذه الكلمات.

يشكك حازم صاغية في تبرير الحرب كمسوغ للرقابة، ويقدم حجة واحدة من بين المنتقدين الذين يرون أن "هذه الحرب بحد ذاتها مشبوهة، تستهدفهم وتهدف إلى إخضاعهم بحجة الصدام مع إسرائيل". ويشير صاغية إلى أن الأحزاب الحاكمة تستخدم الصراع مع إسرائيل كواجهة مريحة لإحكام سيطرتها على المجتمع اللبناني.

كما يرى أن الانقسام داخل لبنان يختلف كثيرًا عن حالات الانقسام التاريخية الأخرى؛ فقد شهدت فرنسا تحت الاحتلال النازي مثلاً انقسامًا أيديولوجيًا، بينما يواجه لبنان انقسامًا أهليًا ليس له سوى نتيجتين محتملتين: التسوية أو الحرب، وفي هذه الحالة مع الطرف الديني أو الطائفي أو العرقي المقابل. ويذهب صاغية إلى حد القول إن الرقابة في لبنان تتماشى مع الإبادة الثقافية، حيث كتب في الشرق الأوسط "إن النزعة إلى فرض وجهة نظر معينة على بقية المجتمع تشير إلى نزعة إبادة جماعية، أو على الأقل نية إبادة جماعية لطريقة حياة، وهي نية تبقى القدرة على تنفيذها وجعلها إبادة جماعية مادية مرهونة بالظروف والإمكانات المتاحة للطرف الذي يمارس الإبادة الجماعية".

لقد استحوذت التوصيفات القاسية لحرب غزة على الإبداع الأدبي وحرية التعبير. على سبيل المثال، في العام الماضي، ألغي حفل توزيع جوائز للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي في معرض فرانكفورت للكتاب في أعقاب هجمات حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر. كان من المقرر أن يكون حفل تكريم للكاتبة التي حصلت على جائزة "ليبيراتوربريس" لعام 2023 عن روايتها تفصيل ثانوي(تمت مراجعتها في كل من مجلة الجديد ومجلة المركز).

وقد اعترف الكثيرون بقمع عدنية شبلي الواضح في دولة ديمقراطية غربية متقدمة. لكن في لبنان، الذي يعتبر أكثر البلدان العربية احترامًا لحرية التعبير، لا ينطبق الأمر نفسه على الفانيين اللبنانيين. إن الإلغاء الأخير لمسرحية وجدي معوض ليس انتهاكًا فرديًا لحرية التعبير في لبنان، بل هو لمحة من مشكلة أكبر للفنانين الذين تعرضوا لحالات مماثلة.

لا يقتصر الأمر على منع مسرحية أو كتاب، بل على لبنان بأكمله وخياراته الغنية والمتنوعة والمتاحة. يحذّر صاغية من أن الرقابة المتشددة لن تتوقف عند وجدي معوض بل ستمتد إلى غيره، فقريبًا لن يستطيع المرء مشاهدة أفلام ستيفن سبيلبرغ في لبنان أو قراءة كتب يورغن هابرماس. وسيتم حظر عدد لا يحصى من الفلاسفة والمبدعين لأن الحزب الحاكم لا يحبهم. وقد ساهمت "نوايا الإبادة الجماعية" هذه، كما يسميها، في العنصرية ضد اللاجئين السوريين وكل من يعتبرونه أضعف منهم.

يشير عبده وازن إلى أن الحملة ضد معوض قد شوهت صورة لبنان عالميًا بشكل واضح. والنتائج المتوقعة من وازن وصاغية بخصوص الإنتاج الفني والثقافي في لبنان منطقية. بحسب وازن، تشوهت صورة لبنان كمنارة للانفتاح والتنوير بسبب حملة الرقابة على الفنانين والمثقفين. كما يقول صاغية إن سياسات الرقابة ضد الفنانين والمثقفين في لبنان وأماكن أخرى تشكل "إبادة أدبية" إذا كانت مصممة لتدمير الإبداع الأدبي أو تثبيط الإبداع الأدبي. وقد سردت تقارير نشرتها صحيفة "دنفر بوست" في العام 2014 العديد من عيوب ممارسات الرقابة في لبنان: "الرقابة تهين فكرهم". وبعد مرور عقد من الزمن، وفي خضم الدعوات الأخيرة لفرض الرقابة تحت ذرائع التطبيع مع إسرائيل، قد يكون من الحكمة التذكير بكلمات الفيلسوف الفرنسي كلود أدريان هيلفيتوس: "إن تقييد الصحافة هو إهانة للأمة، ومنع قراءة كتب معينة هو إعلان أن السكان إما حمقى أو عبيد".

من المقرر أن يُنشر هذا المقال في مجلة الجديد، المجلد 28، العدد 85، 2024، حقوق النشر محفوظة لمجلة الجديد 2024، وينشر في مجلة الجديد ضمن اتفاق خاص.

 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اصبح عضوا