
بعد شهور من الغياب عن بيتها، تعود الكاتبة والشاعرة ضحى كحلوت إليه، لتفاجأ بأنه لا يزال قائمًا بعد شهور من الدمار. في هذا المقال تعبر الكاتبة عن مشاعرها نحو البيت والجيران، وتسرد مشاعر النازح المتنقل من مكان إلى آخر، وتوقه إلى العودة لبيته.
ضحى كحلوت
في أكتوبر 2023 كُتب على الغزيِّ وداع بيته قسرًا؛ تحت وطأة النيران والتهديدات، حمل من المتاع القليل ومن الذكرى ما لا يستطيع احتماله، تنقَّل بين الشوارع باحثًا عن ملجأٍ آمن بلا جدوى، على ضفاف الشاطئ صنع خيامًا من الأغطية والأقمشة البالية، والبعض نام عند منحنيات الطرقات في مشهد يجب أن لا تنساه ذاكرة العالم الهشة، بلا ساتر يحجب عنهم سماء تعجُّ بالطائرات وبلا حائط يسندون إليه قلوبهم التي أكلها القهر.
بعد لحظات خوف غير مفهومة، وركض مجهول الاتجاه، ورفض مستمر للخروج حتى اللحظة الأخيرة تُركت أبواب البيوت مفتوحة على غاربها، وقد ظهر أثر توغل الطائرات والصواريخ على كل زاوية فيها، وطالت يدها قلوب الأمهات المرتجفة على أطفالها، فخرجن يحملن بيتهن غير المرتب في حقائب صغيرة، وتركن خلفهن الأبواب تحكي خطر البقاء وقلق النزوح، وفي الطريق كانت المركبات تبتلع سؤالًا ينغِّص دقائق الانتظار الطويلة، ويسبح في مُقل النازحين؛ «لماذا تركت البيت وحيدًا؟»، رحيل شاهده الفلسطيني مشهدًا مشهدًا في «التغريبة» ولم يخطر بباله يومًا أنه سيكون بطل إحدى تلك المشاهد.
البيت فكرة ضائعة
في العراء اتخذ الغزي بيتًا مفتوحًا، سقفه السماء، والرمال -بقوارضها وحشراتها- بلاط البيت، وفي الوجوه التي تعلوها المفاجأة وتسحق ملامحها حرارة الشمس، تعرف نظرات الإنكار والرفض، وتعرف اليد التي لا تمتلك حيلة، وتحفظ عن ظهر قهر الأحاديث التي تملأ الجلسات. البيت، حين يصبح للذاكرة صوت ويد، يرتسم البيت في الفراغ، وتلونه تفاصيل تُدهش أهداف العدوّ غير المحققة، فالغزيُّ لم تشغله استحالة الحياة عن بيته البعيد، ولم يشغله الحرمان عن سرد الحكاية الأزلية، بل يطرأ البيت على البال مثل ملاذٍ آمن حين يضيق الناس ذرعًا بأوجال النزوح وأوجاعه.
حافظ النازح المكلوم على حقه في الذاكرة، ولم يدع للحرب سبيلًا تسحق فيه تفاصيل عيشه الكريم، في الخيام حفظ الجيران بيوت بعضهم، عرفوا كم غرفة للبيت وما لون الجدران والأثاث، نقَّلوا الصور في العيون، وتساءلوا عن أخبار البعيد يومًا بيوم، سردوا أحداث كل زاوية، وجعلوا البيت جليسًا في صبحهم وسمرهم، والذي نزح في أحضان بيت آخر، لم يفارقه شعور غربته وحاجته لرؤية بيته ولو من مسافة، هو الشوق ربما، وربما هي الحاجة لمعرفة الغزي بذاته التي تركها لحظة النزوح، فأُعيد تعريف تاريخه ولغته ونداءاته ليعيش في بحث مستمر عن عمرٍ أُضيع ولقاء أشبه بالمستحيل.
لقاء مجهَّز وعناق
بعد انكشاف الحياة على بعضها، ومشاركة السرِّ بين عشرات الأشخاص، وحذف الخصوصية من قاموس النزوح، وفقدك مساحة التفكير والعمل في ظل متطلبات يومية لا تنتهي، في يناير 2025 أُعلن وقف إطلاق النار المؤقت، تهللت أسارير النازحين بعد طرح عودتهم للبيوت كشرط لإتمام الاتفاق، وبدأوا يجهزون حقائبهم التي كانت شاهدة على الخروج المقهور، حتى أولئك الذين عرفوا يقينًا أنهم قد خسروا بيتهم، كانوا جاهزين أيضًا للعودة، أسبوع بأيامه ولياليه ينسج الخيالُ لقاءً لشمال الوادي أولًا كبيتٍ كبير، ولقاء ثانيًا خاصًا لبيته بعتباته وأبوابه، جهَّزوا التماسًا لمغفرة الغياب، وأنشدوا من قصائد العودة ما يحفظون «راجعين يا وطن لعطرك الفوَّاح»، «راجعين يا هوى راجعين»، وتلمَّسوا قلائد صدورهم التي أصبحت ذات شكل واحد؛ مفتاح البيت.
أيام من الكلمات الأخيرة، والخطوات الأخيرة، والجلسات الأخيرة، ووعود لا تنتهي بلقاءات مؤجلة في شمال القطاع، ونبش في الذاكرة عن مواقف النزوح التي شعر فيها الغزي بعيشه المفضوح على نظر ومسمع سكان المدينة أجمع ولو لبس قناع الرضا والتأقلم، وفي عقله تتأرجح صور البيت الأخيرة التي وردته وأفكارُ إعادة تأهيله للعيش والسكنى، وحياتُه المرتبة بالدقائق والثواني، لم تتوقف الألسنة والعيون عن التخطيط، كل شيء متوقف على لحظة فتح ممر نيتساريم، والركض المأمول تجاه يدين مفتوحتين منذ عام وأربعة أشهر.
غضب البيوت للمرة الأولى
أقدام غُرزت بالتراب وصدَّعتها الطرق الوعرة، وعيون على شوقها تبللت بالدمع كلما جال في الخاطر اقتراب اللقاء، وفي القلب خفقة لا تهدأ وانتظار يودُّ لو يطوي المسافة، حمل الغزيون ما استطاعوا وأمام طريق تقدَّر بأكثر من عشرة كيلومترات سيرًا على الأقدام ألقوا أوراق توقعاتهم المكتومة، وخوفهم من لقاء يحمل عصا التأنيب، وتارة أخرى تحدثوا عن عفو المحبين، وأنَّ لا بد من صفح جميل عن هذا الترك الطويل، فجأة يسرق أحاديثهم وخيالاتهم ما تراه العيون على مد البصر، البيوت مكوَّمة على بعضها والمحال التي اصطفت على شاطئ البحر قديمًا أضحت أثرًا لا يمكن الاهتداء إليه، وفي مساحات أخرى نسفٌ وتجريف، اختفت ملامح أي حياة أو ملك موجود على خريطة المكان، (نصيرات، الزهرة، مدينة الأسرى، جامعة الإسراء، قصر العدل، جامعة فلسطين) وغيرها من المعالم التي حفرت مكانًا في ذاكرة الغزي، تفنن العدو في تغييبها عن المشهد. كان الألم أكبر من الوصف، رغم إدراك الجميع أن الطريق مقصوفة برًا وجوًا وبحرًا لكن رؤية القلب كانت أثقل من إدراك العقل.
في لحظات الصمت التي تلت إدراك الفاجعة، ذهب خيال الغزي المفرط في أمله للقاء شمال القطاع الذي لم تتوقف أخبار العاجل عن نقل أحداث دماره، واستوعب شيئًا فشيئًا أنه أمام سيناريو آخر لم يعد له ولم يفكر به بنحوٍ جديٍّ البتة، فالطريق إلى المدينة وعرٌ ولا ينسجمُ مع ماضي المكان والذهاب نحو إحياء الذكرى، وإن كانت هذه البيوت تصبُّ غضبها على المارين سريعًا بجانبها نحو وجهة أخرى، ماذا ستفعل بيوتنا بالصورة التي أعددنا وخططنا، وببحثنا المستمرعن ذواتنا فيها لا بحثنا عنها؟ كيف تعرفنا وتغفر غيابنا وقد غيَّرتنا التجربة وكأنها ولدتنا من دخان؟
جدتي التي وافتها المنية وهي تحتفظ بمفتاح بيتها، والكثيرون مثلها، ماذا كانوا سيفعلون أمام تغيُّر مدنهم وبيوتهم، بل زوالها أبدًا، لا تغيُّرها؟ لفح السؤال ذهني المعلق على بقايا الطرق أحاول معرفتها، هذه القيامة الصغيرة التي تفتح في رأسك ألف سؤال، تضعك في مأزق هل تحسد الراحلين على غيابهم من مشهد التعريف القهري، أم تغبط نفسك لأنك امتلكت حظ العودة للديار محتملًا جميع السيناريوهات؟
ماذا يحاول أن يقول الصمت؟
بعد ساعات من السير مع الفكرة والمناجاة، وصلت الشارع المؤدي للبيت، علامات حفرتها الطفولة كانت هدايتي، تضع عينك على مكان ولا تجده، ربما بقاياه، أثره، أما المكان عينه كما كان منتصبًا في خيالك لن تجده، على الرغم من عشرات الصور التي حفظتها في هاتفي للمدينة بعد دمارها، إلا أن كل خطوة كانت تثير فيك شهقة وتساؤلًا. سرتُ نحو البيت بخفقات متسابقة، أعرفه مثل شابٍّ في بداية عمره بهيًا ومختالًا، وعندما صرتُ أمامه رفعت نظري لأجد عجوزًا أكل الزمن ملامحه وقوته، وِقفة حزينة بين بيوت مال بها الحزن وسقطت أوصالها، حُفِرت معظمُ حجارته وابتلعَ فمُ الصاروخ شقةَ أخي، وانكشف البيتُ -مثلما انكشفت حياتنا في جنوب الوادي- من دون أبواب ولا نوافذ. قاومت هبوط قلبي، تحسسته وربَّتُّ على خوفي علَّني أهدأ، بجواري ابنة عمي شهقت طويلًا وقالت: «كأنه مش هو»، تركتني وبحثت عن بيتها، هول ما أرى دفعني نحو الاكتشاف، صعدت السلم كان عبارة عن حاوية رماد وحجارة، لا تصعده بل تتسلَّقه، وصلتُ شقتنا وأنا أنتظر لحظة سكوني الأولى فيه، ولم يحدث سوى أنني جُلت فيه مرة واثنتين أحاول مزاوجة الذاكرة بالمشهد، حتى الأشياء التي ظلت مكانها رأيتها مكسوَّة بغضبٍ رمادي.
البيت الواسع الدافئ، انقلب لصندوق معتم يخزَّن فيه الأثاث من دون روح، أي حزن يحمل هذا البيت؟ مضيت نحو الشرفة وقد كان والدي يزرعها ورودًا ونباتًا أخضر، لم يبقَ منه سوى حوض فارغ، أعدموا الشرفة وما أطلت عليه، لا شارع ولا بيت ولا محل تجاري سالم، تنظر لنصف البيت الذي ظلَّ قائمًا بين هذا الخراب، وتمطرك الاستفهامات. ثلاث أيام قضيتها أنظر للبيت وأحاول معرفته، أستذكر الأخبار التي عاهدته كثيرًا أن أحكيها له في أول لقاء فيسعدُ بخلاصي من جحيم النزوح ويحنو عليَّ، لكنَّ صمتًا تمدد بيننا وحال دون طمأنينة اللحظة. تغيَّرت أصوات الأدوات ولمعتها، تغيّرت نداءات الغرف لحاجتك، صمت مطبق وتحوّل واضح من لحظة حانية مع الماضي للحظة صناعة جديدة للحاضر.
بعد أيام فهمت صمته، وأجبته بصمت أكبر، مثل خصمان متقابلان لا يجرؤ أحدنا على فتح جرح الآخر، في صمتي قهر النزوح وبكاء الشوق والركض المستمر خلف إنذارات الإخلاء، وصراع الغذاء والماء والدواء، والحنين للحظة أنوثة متكاملة أو لحظة اعتناء بالعقل والجسد، في صمتي الأنا القديمة العاجزة عن العودة، والأنا الجديدة؛ من طين الحرب والهلع وروح القوة والعناد، وفي صمت البيت انتظاره الطويل الذي لا يدرك نهايته، وعجز عتباته عن دفع خطوات لا تعرفها، وليالي مواجهة الخطر بدعاء حفظته الجدار. في صمته عتاب محشور رغم فهم السبب ومعرفة المسبب، أطيل النظر فيه علَّه يبدأ فتنكسر ثلوج الجمود بيننا، ويطيل نظره علَّني ألقي اعتذارًا واحدًا، لكنَّ نخزًا في القلب أقوى وأقدر على خلق حالة من التحديق المستمر من دون لفظة تفضُّ المجلس.
في الجلسات مع العائلة والأصدقاء والغرباء، يثبُ السؤال دون خجل «هل شعرتم بغصَّة أثناء العودة؟» وكانت الإجابات متقاربة، جمعها الشعور بغرابة من سكن المنزل أثناء فترة نزوح أهله منه، والبعض شعوره بألم إدراك تواجد الاحتلال في بيته أثناء النزوح وترك بصماته على الجدران والأبواب وأغراضهم الشخصية، والبعض جمعه شعور بالجهل الحتمي للبيت بعد دخوله محروقًا بالكامل، والقليل يفيد بأنه وجد بيته مثلما تركه بأصغر التفاصيل ومع ذلك يزلزل القلب شعور بالغرابة. أفكر وأضع الاحتمالات، ربما البيت هو من يشعر بغرابتنا فيسقط على قلوبنا هذا الشعور، فلم يعد البيت يعرف صاحبه لكثرة الوجوه التي دخلته (أي بيت غزي لم يسلم من نازح مؤقت أو سارق)، وربما هو غضب تركه وحيدًا، أو أننا في غربتنا عن بعضنا فقدنا سلامًا خلقته السنون وسرقته لحظات الخوف ولم نحمله معنا في عودتنا.
عودة آيلة للسقوط
لعل من المدهش أن تنزلق أنت بين شعور الألفة والغرابة، في منزل يُعتبر بحال جيِّد وعندما تتنقل في المدينة تجد أشكالًا ومعانٍ أخرى للعودة للمنزل، في أحد الشوارع عائلة مُسح بيتها بالكامل نصبت خيمتها على ظهر حائط مائل، وقسَّمت الخيمة غرفًا وصالة كأنها البيت تمامًا، ولو سألتها عن السبب تجيبك بأنه بحث ولو مستحيل عن رائحة البيت وهوائه، وفي مشهد آخر تظن أنه خارج من سينما يحاول الأب أن يصنع بردم بيته الذي أغلق الطريق غرفة صغيرة تأوي العائلة، محاولةُ استعادة للبيت تنجح أو تفشل لا يهمه الأمر، المهم أنه لم يتخلَّ عن حصته في وطنه، وفي منازل أخرى كثيرة عمل أصحابها على إعادة تهيئتها والعيش فيها رغم إنذار الدفاع المدني لها بحتمية سقوطها في أي لحظة، جميع هذه المصاعب لم تمنع غزيًّا من العودة إلى منزله، دفاع حتى الرمق الأخير عن أحقيته بالأرض وإن أجبرته على معايشة الصعب، لكن في كل مرة يخرج فيها الغزي من قصره الصغير نحو المجهول يفقد شعورًا ويسحق التخلي المضطر عهدًا وثيقًا.
والآن، بعد شهرين من عودة النازحين إلى بيوتهم ومحاولات خلق الحياة، عادت إنذارات الإخلاء تجول فضاءنا من جديد؛ بالأمس منطقة الكرامة والعودة والسلاطين، واليوم تُجبر مدينة رفح على النزوح للمواصي، وفي شرق خانيونس والشجاعية وبيت حانون خرج الناس دونما حقائب طوارئ، خرجوا بأسمائهم فقط وقلوبهم الباهتة ينتظرون معجزة تغيّر نهاية المأساة. لم يشف جرح الغزي ولم يأنس ببيته ويعتد عليه ويرمم حزن تركه بعد، حتى وجد نفسه أمام ترك قسري آخر ونزوح لا أفق له، وبشروط أشد تعقيدًا. في اللحظة التي أكتب فيها الآن يدي على قلبي أن ينذروا المنطقة التي أعيش فيها من جديد، وأحمل كما يحمل كل غزي قهر العالم في كفٍّ وأوراقي في الكف الأخرى لأضع في وجه العالم حقيقة أنني فلسطينية غزية، أخذت نصيبي الكامل من الحصار والحرمان والنزوح، وأنني أعرف معنى البيت وأقدسه لكنني لا آمن غدر الاحتلال وقهره، ورغبتي أن يكون موتي عاديًا أكبر من حاجتي للبقاء في المنزل، وأنني في حياة أخرى سأختار أن أجلس في بيت بعيد لا يعرف غير خطاي ولا يفتح يديه إلا لحاجتي ولا أخرج منه إلا لسلام الآخرة.
