في هذا المقتطف من كتاب «النص الأصلي»، يحدثنا محمد الفولي عن مصادفات دراسته اللغة الإسبانية، وعن العلاقة الخفية بين ثربانتس وألعاب الفيديو، وكيف شكل كل ذلك وعيه وأثر على حياته وعمله.

هذه قائمة ألعاب الفيديو السردية التي لم يُفارقني فيها قاموس «إلياس» للجيب خلال سنوات الثانوية العامة: Resident Evil و Resident Evil 2 و Metal Gear: Solid Snake . هذه الأخيرة.. يا لها من لعبة! يا له من سيناريو! شكلت هذه الألعاب الثلاث – بالطبع إلى جانب تجربتي مع Silent Hill – احتكاكي الحقيقي الأول باللغة والترجمة، بل قد أتجرأ وأقول الأدب، ومرد الأمر إلى بنائها القصصي المحكم وحواراتها الذكية وتطور شخصياتها. قد يُعارضني كثيرون بحكم أنها «ألعاب»، أو بالأصح بحكم أنها ألعاب لم يلعبوها ويختبروا تطور بنائها القصصي، أو لأنهم يظنون أنها حتى إن احتوت على ملمح أدبي، فإن كونها ألعابَ إثارة سيعني بالتبعية تصنيفها تحت إطار «الأدب الرديء»، ذلك الملصق الذي يحمله شرطيو النقد دائمًا معهم لوضعه على أي نمط أدبي يخالف تفضيلاتهم، سواء أكان مترجمًا أم مكتوبًا، مع أن كل شيء نسبي، ومع أن كثيرًا مما يصنفونه أدبًا جادًّا قد يطفح في أحيان كثيرة بهذه الصفة.
على أي حال، أفكر الآن وأنا أكتب هذه الكلمات في أن الصحفي والروائي الإسباني فرانثيسكو أومبرال أصاب حين قال: «الكتابة هي أعمق طرق قراءة الحياة»، سواء ارتبطت المسألة برجل صار قريبًا من الأربعينيات أكثر من كونه في الثلاثينيات، ويكتب الآن، في هذه اللحظة تحديدًا عن الترجمة والأدب وماضيه، وتتجلى له عبر كتابته هذه انكشافات وحقائق قد التبست عليه من قبل أو ارتبطت بكاتب ومصمم ألعاب فيديو ياباني، اسمه هيديو كوجيما، قدم قراءة شاملة لمفاهيم الأخوة والحرب والسلم، في ملحمة Metal Gear: Solid Snake ، التي حين لعبها هذا الرجل شبه الأربعيني وهو لا يزال مراهقًا، لم يدرك أنه قد يكتب بعد أكثر من عشرين عامًا أنها قد زرعت داخله من دون أن يدري شيئًا ما عن الترجمة والأدب، أو حتى إن ارتبطت بثربانتِس الذي كتب الرواية الأعظم في تاريخ الأدب، وقدَّم داخلها أعمق قراءة ممكنة للحياة، ثم نشرها في 1605، من دون أن يدرك أصلًا أن مراهقًا يعشق ألعاب الفيديو السردية، سيأتي بعد عدة قرون، ويدخل مكتبة للمرة الأولى في حياته، ويجد في أحد أرففها السفلية البعيدة، مُجلدين ضخمين هما ترجمة هذه الرواية بعنوان: «الشريف العبقري دون كيخوتي دي لا مانشا»، وأن هذه القراءة ستقوده إلى مسار جديد.
لكن كيف وصل هذا المراهق إلى هذه المكتبة في الأساس؟
لم يصل صديقنا المراهق إلى هذه المكتبة برضاه، لأن الإنسان في أغلب الأحوال لا يفعل شيئًا برضاه، حتى إن ظن هذا، لكن هذا لا يعني أنه محروم من حرية الاختيار، فالرضا وحرية الاختيار مفهومان مختلفان، لأنك قد تختار أن تفعل شيئًا من دون أن ترضى عنه، ومع ذلك قد تجده بعد مرور الزمن يصوغ مصيرك؛ وهذا ما حدث مع هذا المراهق الذي أرسله مكتب التنسيق إلى كلية الآداب في جامعة القاهرة، وأراد أن يتخصص في اللغة الإنجليزية وآدابها لأن هوسه بها كلغة أجنبية كان قد بدأ يتشكل بسبب ألعاب الفيديو، فوضع قِسمها رغبة أولى في التنسيق الداخلي، لكنهم بسبب نصف درجة، ألحقوه بقسم الوثائق والمكتبات. هكذا، أصابه الإحباط وقرر سحب ملفه، والسفر إلى جامعة حلوان، لأنه عرف أن مجموع درجاته في اللغات في الثانوية العامة يُؤهله لدخول قسم الإنجليزية هناك، لكنه فُوجئ مرة ثانية، حين ظهرت نتيجة التنسيق الداخلي، بأنهم ألحقوه بقسم التاريخ، ولما استفسر عن السبب، قالوا له إنهم اتبعوا معه نظامًا مُختلفًا في التنسيق لأنه «مُحوَّل»، وليس من «أبناء الكلية»، فسبهم في باله وقال «أبناء كلية يا أولاد الكلب!»، ثم قرر لأن لديه حرية الاختيار أن يسحب ملفه مرة ثانية من جامعة حلوان – التي صار يراها بعيدة ومُقرفة لأن فيها قومًا لا يعدونه ابنهم – وأن يعود إلى جامعة القاهرة، وفيما يقف في ذلك النهار الحار، وهو يتصبب عرقًا أمام الشباك الحديدي لشؤون الطلبة، سأل الموظفة التي تمضغ قُرصًا من الطعمية عن أقسام اللغات التي تتبقى فيها أماكن شاغرة، لأنه اختار أن يدرس أي لغة غير الإنجليزية – حتى إن لم يكن راضيًا – فخيَّرته الموظفة بعد رشفة شاي وهي تنظر إليه من تحت نظارتها ذات العدسات البيضاوية الصغيرة والإطار الذهبي الرفيع، فيما تنزلق قطرات العرق على جبهتها من تحت حجابها البنُي، بين أقسام: «اليوناني واللاتيني، واللغات الشرقية، والإسباني»، فاختار اللغة الإسبانية، لا برضاه ولا غصبًا عنه، وإنما لأنه اختارها فحسب، وهكذا، كُتب اسمه بالقلم الرصاص أسفل قائمة المقبولين في هذا القسم.
حين بدأ دراسته هناك، راقته هذه اللغة وقِسمها، فعدد الطلاب قليل، ولديه مدرسون أجانب، منهم واحدة صهباء، وهو حافز إضافي في عقله المُراهق. تبدو اللغة مرحة، وتُنطق كما تُكتب، من دون مقاطع صامتة كثيرة مثل الفرنسية التي درسها في الثانوية وكرهها. توالت المحاضرات، وبدأت الفروض، ومنها ما استدعى ذهابه إلى مكتبة تقع في مكان اسمه المركز الثقافي الإسباني أو «ثربانتس». لم يعرف أصلًا من هو ثربانتس هذا لأنه كان لا يزال يتحسس خطواته الأولى في الإسبانية وعالم الأدب. في الحقيقة، أخطأ في سماع اسمه للمرة الأولى وظن أنه «ثيبيرناتس» إلى أن تحقق لاحقًا من منطوقه الصحيح. قرر أن يذهب إلى هذه المكتبة لأنه أحب هذه اللغة. لم يكن قد دخل مكتبة قَطُّ، بل لم يحظَ في بيته بمكتبة أصلًا، ففي شقة عائلته القديمة، لم تتسع المساحة لأمور مثل هذه، وكان الشيء الوحيد الذي يُقارب المكتبة هو حيزًا يقع بين عمود بارز وجدار جانبي قررت عائلته استغلاله ليصُبح دولابًا، فجلبوا نجارًا فصَّل دُرفًا متنوعة الأحجام، سفلية وعلوية وركَّب إطارًا خشبيًّا لهذه المساحة، وفوقه هذه الدُّرف التي شكلت دولابًا كبيرًا جوفه داخل الحائط، وفيه درفة منفردة على اليمين كرسها هذا المراهق وأخوه الأكبر لوضع كتبهما فيها، التي لم تكن من ضمنها أي أعمال مترجمة، بل روايات «ملف المستقبل» و«رجل المستحيل»، وبالطبع أعداد كثيرة من مجلة ميكي التي رفض ذلك المراهق – الذي لم يقرأ كل أعمال الواقعية السحرية وهو في الصف الرابع – أن يتخلى عنها حتى ذلك الحين.
يتساءل الآن الرجل الذي صاره ذلك المراهق وأصبحت سنه أقرب إلى الأربعين منها إلى الثلاثين؛ أين ذهبت كل هذه الأعداد، قبل أن يُداهمه انكشاف مفاجئ ومفاده أنه حتى الآن لا يعرف ما إذا كانت قصص مجلات ميكي هذه مترجمة أم مؤلفة! هل تلتزم الهيئة التي تمتلك حقوق نشرها بترجمة قصص معينة من أعداد أجنبية، أم أن لديها حرية اختيار في استغلال الشخصيات في إنتاج قصص أصلية؟ يخلص إلى أنه عليه أن يستقصي حقيقة المسألة، وأن يعرف بالمرة من هو «إلياس» صاحب قاموس الجيب الذي لا يتسع أي جيب له بعد أن يفرغ من هذا الكتاب الذي يؤلفه، لكنه يتذكر أنه لا وجود لكتاب كامل، وأنه لن يفرغ أبدًا من أي كتاب، سواء كان مؤلِّفه أم مترجِمه أم قارئه، لأنه مهما كتب من أمور، فلن يقول كل ما يريده، ومهما دقق وراجع وحرر ترجماته، فستعاني من دون مناص أحدَ أشكال العوار التي لا تراها الأعين، ولأن قراءة «الشريف العبقري دون كيخوتي دي لا مانشا» لا تزال تُطارده، على الرغم من مرور نحو عشرين عامًا على تلك اللحظة التي سحب فيها ذلك المجلد الثقيل كتهمة من الرف السفلي في مكتبة «ثربانتس» – أو «ثيبيرناتس» – ورفعه أمام عينيه، وقرر استعارته مع تلك الأشياء، التي يعدها الآن بلهاء، ونسخها حينذاك ضوئيًّا، كي يُنشئ حصيلته اللغوية المبدئية من الإسبانية من أسماء طيور وحيوانات ووسائل مواصلات وأدوات مكتبية؛ تلك التي لم يتخيل يومًا أنها قد تتسع وتشمل ما تعنيه مفردات مثل «الطبعانية» أو «العدمية»، لكنه على الرغم من ذلك، حلم في تلك اللحظة التي سحب فيها هذا المجلد الضخم، من دون أن يعرف السبب، بأن يأتي اليوم الذي يجد فيه لنفسه كتابًا من ترجمته على أحد أرففها.
حين أنظر الآن عبر عدسة الزمن الكاشفة التي، مع ذلك، قد تخدع المرء، وأرى ذلك المراهق وهو يعود إلى بيته، ويجلس على فراشه ويسند ظهره إلى الجدار، ويبدأ قراءة هذا المجلد الثقيل كتهمة، الذي أظن أنه كان سبب بداية آلام رقبته المتكررة حين تقدم عمره، فإن أول فكرة تخطر على بالي هي أن ما دفعه مبدئيًّا إلى الاستمرار في قراءة هذا المجلد ليس إدراكه أنه العمل الروائي الأهم في التاريخ، ولا معرفته أن هذا العمل جاء وقضى على روايات الفروسية عبر سخريته ونقده اللاذع تجاهها، فكل هذه الأشياء سيعرفها هي وغيرها لاحقًا، لكن ما شجعه على إكماله هو تلك المغامرات المختلفة التي خاضها دون كيخوتي وتدرجت في صعوبتها، وبنائها، كأنها مراحل لعبة فيديو لم تغِب عنها فكرة الـ Big Boss، الذي قابله هذا المراهق في نهاية كل مرحلة في أي لعبة لعبها كي ينتقل إلى المستوى التالي. ربما ما شجعه أيضًا أنه وجد في لغة ثربانتس الساخرة – أو في الصبغة الساخرة التي أضفاها المترجم الراحل سليمان العطار على ترجمته – شيئًا يتماس مع شخصيته المُحبة للمزاح.
مع تقدمه في دراسة اللغة الإسبانية وآدابها، ستتوالى زياراته إلى مكتبة ثربانتس، وحين يُترجم أول نصوصه الصحفية والأدبية في الجامعة، سيرى اللغة من منظور آخر، وحين يدرس النقد، سيتذوق الأدب بلسان مختلف. سينعوج لسانه وهو يتحدث أمام المرآة كمجنون، كي يُدرب نفسه فحسب على التحدث بالإسبانية، أو على ترجمة أفكاره بالإسبانية، أو على قراءة نصوص بالإسبانية ومحاولة ترجمتها إلى العربية، وهي النصوص التي نسخها ضوئيًّا من تلك المكتبة من مجموعات قصصية وروايات ومسرحيات مختلفة. لن يتوقف أيضًا عن استعارة الترجمات العربية التي سيجدها في تلك المكتبة. سيقرأ «ابنة الحظ» لإيسابيل أييندي، وسيتبعها بـ«صورة عتيقة»، ضمن ترجمات أخرى، وحين يصل إلى سنته الرابعة في الكلية، ويلمح وهو في معرض الكتاب ترجمة عربية لرواية La ciudad de las bestias، سيتعجب من اختيار المترجم «مدينة البهائم» عنواناً لها، لأنه سيرى «مدينة الوحوش» عنوانًا أفضل، لأنه قرأ هذه الرواية بالإسبانية، ويعرف أنها رواية يافعين، ويشعر أن «الوحوش» أنسب مع طبيعة الأحداث، وفئة الجمهور المستهدفة، وحين أقول هذا الآن لا أدرك هل هذا ما حدث فعلًا حينذاك، أم أنه ما أفكر فيه الآن، وربما مردُّ التباسي إلى أن عدسة الزمن – كما قلت سلفًا – كاشفة ومخادعة في الوقت ذاته، ولهذا قد يختلط على المرء ماضيه وحاضره، فحتى إن كان ما بينهما محفورًا بإزميل الخبرة والتجربة في ذاكرته، فستظل مهمة إمساك الذكريات والقبض عليها بطابعها المتملص، أصعب بكثير من خلق عالم خيالي من الصفر.
المهم أن السنين ستمر، وسيجد هذا المراهق ذات يوم نفسه مدعوًّا من قبل سفارة دولة المكسيك لإدارة حلقة حوارية مع أحد أهم كتابها المعاصرين في ذلك المركز الثقافي الذي لم يعرف في سنته الأولى في الكلية من أين جاء اسمه، ولا كيف يُنطق، ولا يجد غضاضة الآن في الاعتراف بهذا. بعد انتهاء الجلسة والرد على أسئلة الحضور والتقاط الصور وكل هذه المجاملات الروتينية والدبلوماسية، سيدخل المكتبة، ويتوجه إلى قسم الترجمات. حين يتفقد الأرفف، سترتسم على شفتيه ابتسامة لأنه سيرى بعضًا من إنتاجه هناك. صحيح أنه ليس أفضل ما قدمه، لكن بعضًا منه موجود هناك، على تلك الأرفف. ستتسع ابتسامته وهو ينظر عبر عدسة الزمن ليرى أين بدأ وأين هو، وسيجد أنه في المكان نفسه، لكنه سيشعر في هذه المرة أنها ليست حلقة مفرغة، وأن عادة تكرار الزمن لنفسه ليست سخيفة إلى هذا الحد، ما دامت بهذا المذاق. لقد قاده «ثيبيرناتِس» فعلًا إلى مسار جديد، لكن ما الذي حدث بين هاتين اللحظتين اللتين تقعان في الحيز المكاني نفسه وتفصل بينهما أعوام طويلة؟