مقتطف من رواية آية عبد الرحمن: النفق في نهاية الضوء

31 March, 2025
كريم عبد الملك (مواليد مصر 1980)، «راحة البال»، مواد مختلطة على خشب، 80×80 سم، 2021 (بإذن من جاليري سفرخان للفنون بالقاهرة).
في الرواية الرابعة لآية عبد الرحمن نرى كيف يؤثر خبر الموت المفاجئ على مجموعة من الصديقات، ينفتح عالم الرواية لنتعرف على حيوات سمية وعزة وإيريني وجاكلين بالإضافة إلى حياة الراوية نفسها.

 

آية عبد الرحمن

 

كان لخبر موت سُميَّة وقع الصاعقة عليَّ وأفقدني إحساسي بنفسي. ساعةٌ مرت بي في صالة التحرير وأنا مُتصخِّرة أمام جهازي، وعبارة «وفاة عسكري بطلق ناري من سلاحه» تحفر نفسها في خلفية وعيي لطول ما حدَّقتُ بها. هزَّ أحدهم كتفي ينبهني لتأخر تدسيك الأخبار فأفقت، اختطفت حقيبتي وهُرعت أزاحم الهمج في ساعة الذروة، حتى إذا بلغتُ شقتها دخلتُ دائخةً، باردة الأطراف.

استقبلني زوجها والبكاء يخضخضه، فلم تَلُحْ في وجهه أمارات الكراهية والنفور المعهودة من أمثاله.. أخذني إلى غرفة النوم، وانتبهت لأصوات البكاء بالخارج عندما كتمها إغلاق الباب. آخرون يبكون بالخارج! مَنْ؟ أبوها؟ أمها؟ أختها؟ إخوتها؟ داهمتني رغبة في القيء من الفكرة. اقتربتُ من الكتلة الساكنة فوق الفراش، ورفعتُ الملاءة الباهتة عنها. في ضوء العصر، انكسرت خيوط أشعة الشمس انكساراتٍ بديعةً فوق حدود جسد سُميَّة النائم، ذكَّرتني برحلتنا الأولى إلى الإسكندرية. كنت أحب مشاهدتها وهي نائمة، يسحرني انكسار الضوء فوق نصف وجهها المُعَرَّض للشمس، والظلال المرتمية برفق على النصف الآخر، كأنها أميرة تخوض غمار الأحلام بانتظار خلاصها. ملامحها المُنَمْنمَة، وبشرتها التي أخفى النقاب صفاءها عن الشمس سنوات، طالما منحاها سَمْتًا طفوليًّا مغناطيسيًّا. كانت سُمية تُحَبُّ كطفلةٍ هشَّة الحلاوة، وما من طريقة أخرى مقبولة لحبها.

استوقفتني رقَّة الظلال على نصف وجهها المواجه لي، بدت نائمة، وجهها هو الوجه نفسه الذي أعرفه، لم أرَ شحوب الموتى الذي يتحدثون عنه، كانت نائمة فقط، وطيفٌ غامضٌ يظلل جانب فمها الأيمن.

ناديتُها مستغربةً:

– سُميَّة؟

شعرت أنها ستفتح عينيها وتضحك مني ساخرة، لكنها استمسكت بصمتها. الشعور بسكونها كان غريبًا، والأغرب شعور كاسح معلق فوق رأسي بأني لا أعرفها، لم أعرفها يومًا، لم تكن تلك صديقتي المقربة العزيزة. شتَّتني زوجها بقرآنه شائه النبرات، وتلاحُق تَشهُّداته الملهوفة الملتاعة أمام غول الحزن. نظرت إليه فرأيت الدموع المتقاطرة من عينيه، وقد تجمعت في كتلة كثيفة في ثنايا لحيته، تتساقط كالنَّزْف. بحثتُ عن ردِّ فعلٍ عاقل، شعور مما اتفق البشر على إبدائه في مثل تلك المواقف، فلم يوفقني عقلي، واكتشفت بشكلٍ صاعقٍ أنني أرغب في الضحك؛ منظره كان كوميديًّا، والموقف كان كوميديًّا، وفكرة أن أهلها يبكون بالخارج تفوَّقت على أعظم أعمال الفنانين الساخرين.

حوَّلتُ وجهي عن زوجها لِئلَّا يرى ميلاد ضحكتي، وأحنيتُ رأسي ودفسته بين كتفَيْ كسُلَحْفاة، واهتززتُ حتى قدمي. فكرت أنه سيظنني أهتز بكاءً مثله، لكنني في الحقيقة أضحك.. كاد ضحكي يخرج عن السيطرة، فكتمتُ فمي وصدر مني صوتٌ كالنشيج.

بين السرير والكومودينو، ارتمت قنِّينة دواء برتقالية أسطوانية الشكل، أعرفها جيدًا، جُمدت ضحكاتي وتبخرت، التقطتُها خلسةً ودسستُها في جيبي، زعزعني ملمسها وكأنني أمسك البرق. لم ألتفت للرجل وسألته:

– إيه اللي حصل؟

– سابت ورقة….

أغلقت أذنيَّ عمَّا يقول، وتعلقت عيناي بورقة فلوسكاب على الكومودينو، التقطت منها خط سمية الدقيق كملامحها، وقرأتُ. كتبتْ لهم أنها انتحرت في كامل قواها العقلية لأنها تريد هذا، وأنها تشمئزُّ منهم، ومما في نفسها منهم، وتطلب أن آتي وأُلقي عليها نظرةَ الوداع. اجتاحني غضبُ عارمٌ لعبارتها الأخيرة، وهشَّمت الورقة بين كفَّيَّ.

سمعته يبكي:

– عمري ما كنت أتخيل سمية تعمل كده! لا حولَ ولا قوةَ إلا باللـه، لا إله إلا اللـه، اللهم إنـ….

صَمَمْتُ أذنيَّ مجددًا ونظرت إليها، وددتُ لو أُكسِّر وجهها تكسيرًا لفرط غضبي، وبالتدريج امتلأ مجال رؤيتي بالطيف الغامض الميت على شفتيها.. ترجمته إلى ضحكتها الساخرة الخافتة التي عهدتُها لسنوات، هل قضت لحظتها الأخيرة تتخيَّل ما أشعر به الآن، وتتهكَّم عليَّ؟!

أتاني من الخارج صوت أمها في صرخة لهفة لا قِبَل لقلبٍ بها، زعزعتْ بعض غضبي وردتني إلى الحزن المفترض.. سيطر عليَّ وجوم وخُواء، وأجَلْتُ بصري في الغرفة للمرة الأولى، والأخيرة، سجَّلت تفاصيل القسم الأخير من حياتها. نهضتُ، وماتت عبارة «البقية في حياتك» على لساني وأنا أنظر إلى زوجها؛ قدَّرت أنه سيرفض مواساتي وسيصحح لي أن «البقاء للـه»، فتجاهلت فكرة تعزيته، ثم شعرتُ بمقتٍ عظيمٍ يُسوِّدُ صدري نحو سُميَّة.. إنها لا تستحق العزاء فيها، ولا مواساةً عن فَقْدها.

خرجت ثقيلة الخُطى، راكدة الغضب، عظيمة الوجوم، ترنَّحت بين الهمج والغوغاء حتى بلغت محطة الأتوبيس، وجلست مستسلمةً، أنتظر أن يهدأ زحام ساعة الموظفين. تاه عقلي في  اللا شيء ثم انتبهت باهتزاز الموبايل. ومضَ اسم عزة مختار على الشاشة فزفرت تذمُّرًا؛ ليس هذا وقتك يا عزة! لا قِبَل لي بمواجهة شخصيتك الكاسحة، وصوتك المرتفع، وطلباتك التي لا تُردّ، فلا أدري أهي طلبات فعلًا أم أوامر. سحبت الدائرة الخضراء من يسار الشاشة إلى يمينها، وسَبَبْتُ في سرِّي، لكنها لحُسْن الحظ لم تتصل لأجل العمل.

صاحت فيَّ:

– صحيح الكلام ده؟

لم أستغرب معرفتها..

– آه.

– سمية انتحرت؟

– آه.

– مصدرك إيه؟

– شفتها بنفسي.

ساد صمتٌ باردٌ، فارغٌ، ثم قالت:

– آه يا وسخة!

رواية «النفق في نهاية الضوء» من إصدارات دار العين للنشر.

أراحني غضب صوتها؛ لم أعُد وحدي مغدورة. أطالت عزة الصمت ثم أخبرتني – أو أمرتني – أن آتي إليها، وأملتني العنوان ثم أغلقت الخط. عُدْتُ لخَدَرِي دقائق، ثم سيطر عليَّ صوتها فقمت إلى أول أتوبيس متوجه إلى وسط البلد، ونزلت في ميدان التحرير، وسرت إلى شارع محمد محمود. حتى عامين مضيا كنت أدعوه «شارع عيون الحرية».

أخذني العنوان إلى عمارة قديمة من خمسة طوابق، ذات سقف مرتفع للغاية.. دخلتُها ببطء فعاجلني صوت البواب من غرفته نصف المظلمة، أن شقة «الست عَزَّة هانم في الخامس». استفزَّ تركيب العبارة أذني! «الست عزة» كافٍ جدًّا، و«عزة هانم» أكثر من كافٍ، فلِمَ المبالغة في… فِيمَ أفكر؟ هذه عزة! اتجهت إلى المصعد وضغطت أزراره.. الطابق الأخير كعادتك يا عزة، والأخير في لغة العُلُوِّ هو الأول. أخذني المصعد الخشبي لأعلى بتمهُّل يليق بشيخوخته، وفتحت لي الباب جاكلين رزق.

كانت جاكلين واجمة، ولمَّا رأتني التَوَتْ زاوية فمها اليمنى بمشروع ابتسامة أفشله فراغ عينيها. عانقتها لما يقتضيه فراقنا الطويل، ولكن دون شعور لما يقتضيه الموقف الثقيل، ثم أخذتني للداخل. امتد أمامي رُوَاق طويل انتهى بصالة واسعة مفروشة بأثاث نظيف، وفي صدرها شرفة مفتوحة ترفرف أمامها ستارة تكسر ضوء العصاري، وداخلها كانت عزة مختار، وإيريني سمير.

قبل أعوام انفضَّ السكن المشترك الذي جمعنا في سِنِي الجامعة، أنا وسمية وعزة وإيريني وجاكلين، وفيبي التي انتهت علاقتها بنا بمأساة لم تجعلني أستغرب غيابها اليوم. وقفتُ في مدخل الشرفة مستشعرةً غرابة أن نجتمع دونهما، ثم انتبهتُ لطول الفترة التي مضت «دوننا».. بدا عمري كله خاويًا إلا من الوقت الذي قضيناه كلنا معًا في «شقة السِّتّ سِتَّات».

لم تختلف هذه الشرفة عن مثيلتها القديمة، واسعة ونظيفة، أرضيتها تفوح برائحة خليط الفنيك والكلور والبرسيل، وفي ركنها زرعة ريحان مترعة، وأخرى تهمس بنَعْنَاعها. مسَّني شعور منتعش مقرون في ذاكرتي بأيامِ الجُمَعِ في طفولتي لا ينقصه إلا صوت أم كلثوم من بُعْد، ثم ومض برأسي وجه سمية في غيابة الموت، وأقبل عليَّ فَقَدِي الأعظم.. جلست دائخة، وتلقتني إيريني في حضنها كأن غيابًا لم يكن.

ابتعدت عن إيريني واستندت إلى جدار الشرفة ونظرت لأعلى، لم تتحدث أيٌّ منهن حتى نظرتُ إليهن فبادرتني إيريني، ملهوفة وجَزِعة، تسألني عمَّا حدث. أخبرتها بأمر رسالة سمية الأخيرة، فطفحت عيناها بالدموع، وبدأت تبكي. قصصتُ تفاصيل اليوم بغير شعور، كالرُّوبُوت، لكن كلماتي الفارغة جسدت الموت فوق رؤوسنا، وجعلته حقيقة جاثمة.

مدت عزة مختار يدها وأمسكت معصمي بإحكام وعصبية، وأشعلت سيجارة فسيجارة حتى امتلأنا بدخانها، وبعد صمتٍ طويلٍ قالت:

– يعني تقرف أمنا بالحلال والحرام وفي الآخر تنتحر! أمَّا عَيِّلة وسخة بصحيح!

وهبَّت لتغادر الشرفة وهي تسبُّ وتلعن، وسمعت أشياء تلقيها أو تحطمها بالداخل. قالت لي جاكلين: «البقية في حياتك»، فلم أرُدّ؛ شعرت بالنفور وكأننا نناقش إباحيَّة ما، شيئًا قبيحًا لا يجب أن يُقال. التقطتُ علبة سجائر عزة وأشعلت واحدة نفَّختها وأنا أنظر لزرعة النعناع، وسَرَتْ بي رعشة إذ استرجعت ملمَس أسطوانة الدواء البرتقالية، قبضت يدي على نسخة وهمية منها، وقبضت صدري على سِرِّها؛ سيكون هذا غضبي السِّرِّي، الخذلان الأخير من سمية، ولن يشاركني فيه أحد.

ظلت إيريني تبكي وحدها، وجاكلين شاردة بوجه يختلج بألف انفعال.. نقلت عينيَّ بينهما مفكرةً أن تأثر إيريني ربما لا يكون حزنًا حقًّا، ليس حزنًا على سمية على الأقل، ربما حزن على أيامنا القديمة، والحياة التي تتغير أسرع من قدرتنا على الاستيعاب.. بموت سمية ورحيل فيبي لن تعود حياتنا كما كانت.. كل التفاصيل ستتبدَّد إلى ظلام، وسنفقد ما عهدنا عليه أنفسنا، وكل ما يُذكِّرنا بنا.

سمعت خطوات عزة تقترب، ونظرتُ صوبَ الباب أترقبها. سألتنا جاكلين:

– طب إيه؟ هنروح العَزَا؟

هلَّت عزة ورأيت اللمعة المتوقعة في عينيها، والحُمْرة في طرف أنفها، أجابت بعنف:

– ملعون أبوها ع اللي جابوها، أنا مش هاروح في حتَّة. باقولُّكم إيه، قفِّلوا السيرة دي. أنا هاطلب كفتة وحواوشي، تاكلوا معايا؟

ودخلَتْ دون أن تنتظر ردًّا، قالت إيريني:

– أنا كمان مش هاروح، إحنا اللي نستاهل العزا يا جاكي مش أهلها.

لم أتمالك نفسي وابتسمت، وداهم الدخان أنفي فسعلت لأطرده بعينين دامعتين وشفتين ترجفان. عادت عزة، كان أنفها أشد احمرارًا لكنها تتصرف بطبيعية، وبالتدريج تجاوبت معها جاكلين وإيريني، بينما رسمتُ أنا ابتسامة، ونقَّلت عينيَّ بين شفاههن مع تنقُّل الحوار، وسجَّلت أذناي بعضًا منه تحسُّبًا لأي سؤال، لكن ذهني بقي بعيدًا، ينطلق مسعورًا إلى وجهة مجهولة.

جاءت الكفتة والحواوشي الموعودان، ومعهما كباب وطَرْب ودجاج، وأصناف من الأرز والمكرونة، وخضراوات مطبوخة وبطاطس محمرة، وأطباق سَلَطة وطحينة وبابا غنُّوج ومخللات، وخبز بلدي وشامي، وخبز محمَّص! كمية تفوق ما قد يؤكل في أسبوع! نظرت لعزة، وللحظةٍ انفصلتُ عن مشاعري، وأشفقتُ عليها، ثم استرددتُ نفسي فانعدم تعاطفي مع العالم. امتد الطعام دون أن تعلق إحدانا على كميته، وبدأنا نأكل. في ليالي شقة الست ستات كانت تهرسنا لحظات إحباط وخذلان، فنجتمع حول الطعام.. نُخرج الجبن الإسطنبولي ونقطع عليه الطماطم ونرشُّ الكمُّون والزيت، نسخن الخبز، ونقلي البيض، ونغرق الفول بالزيت، ونغسل الفُلفُل الأخضر الحار ونقطع البصل ونرشُّه بالليمون والخَلّ والشطة.. كان الأكل معًا يواسينا، يداوي قلوبنا ويملأ فراغات الإخفاق والعجز عن التأقلم.

أكلنا، ومثَّلتُ أن معدتي لم تنقبض وتفور بما دفعته إليها دفعًا. صمتت عزة وإيريني، بينما تحدثت جاكلين عمَّا تعانيه في عملها كمُدرِّسة للعلوم.. قالت إنها اعترضت على ما جاء بالمنهج مخالفًا لآخر اكتشافات العلم في السنوات الماضية فكان نصيبها خصمًا من راتبها! اضطرها هذا لإخبار تلاميذها بأن كواكب مجموعتنا الشمسية ثمانية بعد إسقاط بلوتو منها، لكن عليهم أن يكتبوا أن عددها تسعة لينجحوا في الامتحان. بعد شجارها مع مدير المدرسة جاء أولياء الأمور تباعًا، يُعنِّفونها لأنها تبلبل أذهان الأطفال بمعلوماتٍ لا تفيدهم، وتعارض المثبت في كتاب المنهج. قالت لهم جاكلين إن العلم متغير ويرفض الثوابت، وعلى الأطفال استيعاب هذا لينمو تفكيرهم، فذهب أحد الآباء ليشكوها في الإدارة التعليمية، واتهمها بأنها تحارب «ثوابت المجتمع» فأُحِيلت للتحقيق!

قالت عزة:

– أحَّا! ده احنا نعمل عنك فيتشر تنزل آخر صفحة!

كل شيء بالنسبة إلى عزة هو قصة صحفية محتملة، تنقصها زاوية عرض مبتكرة تجذب انتباه القارئ. كيف تكون قصتي من وجهة نظرها يا تُرى؟ هل أخبرها بشبح ابتسامة سمية الساخرة الأخيرة لتصنع زاوية درامية تجلب مشاهداتٍ أكثر؟ نظرت إليها أتأمل كيف ألقت هكذا تعليق، لكنها استأنفت أكلها، وصمتت جاكلين دون بادرة اهتمام بما حكت فضلًا عن نيَّة إكماله! كان ذهني مشدودًا لحكايتها كأنها طوق نجاة، لكني لم أجد طاقة لأطلب منها مواصلة الحديث، وأشكُّ أن تستجيب لو طلبتُ. أشكُّ أن تسمعني أصلًا.

حشرت الطعام بجوفي حتى أنَّ وجعًا واختناقًا، ثم تمددت على الأرض في مكاني. ساعة مرت مع لتر بيبسي ثم عدت أتنفس. عندها نهضتُ وبحثتُ عن حذائي. كانت جاكلين نائمة على الأريكة وإيريني نصف ناعسة بجواري وإن احتضنت وسادة تخفف قسوة البلاط، وحدها عزة كانت على كرسيِّها الهزَّاز الأنيق تدخن وتنظر إلينا، وقالت لما رأتني أتحرك:

– خلِّيكي الليلة.

– لازم أروَّح عشان أمي.

لم تُلحّ، وصحبتني حتى باب الشقة، وفي عتمة الرُّوَاق المؤدي إليها أمسكتْ معصمي مجددًا، في يدها ثبات الحزن ورسوخه، وقبل أن تفتح الباب عانقتني، غرق وجهي في شعرها الطويل الغزير فشعرت بدفء موجع، اهتزَّ صدري بألمٍ خشيتُ انفلاته فتململتُ. أفلتتني عزَّة ولم تتكلم، ولعلَّها عَزتْ تململي إلى تحسُّسي من أن يلمسني أحدهم، فتحت الباب وأطلقتني دون أن أنظر في وجهها.

سرتُ صوب شارع نوبار والبنايات الأنيقة تحيطني، ثم قطعتُه باتجاه الجنوب لتختفي العظمة والأناقة رويدًا رويدًا مع ظهور السوق الشعبية المجاورة لمحطة مترو سعد زغلول. بعد ربع ساعة غادرت المترو في محطة دار السلام، فكأنني انتقلتُ لكونٍ آخر.

خرجتُ إلى الشوارع المتكسرة للحي العشوائي الذي امتدَّ واتسع، حتى صار جمهورية ابتلعت ما حولها حتى حدود المعادي الراقية. عبرتُ الطريق وسط الجراد المعدني المُسمَّى «توكتوك»، وسائقيه السَّفلَة، ومررت بعربات كارُّو تخوض حميرها في رَوَث وبول مُعَتَّقين تحت سنابكها، وتتكأكأ النسوة عليها تساوم الباعة على أسعارهم. وَرَشٌ يركض فيها صنايعية لم يبلغوا الحُلُم حاملين الأدوات للأسطى، ثم مسجد افترش المصلون نصف ساحته الأمامية والإمام يجعر عبر الميكروفون بأنكر صوت يمكن تصوُّره. توقفت بعيني عند المصطبة المجاورة للمسجد وشعرت بوخزٍ لمَّا تبينت غياب أم نجاة للأسبوع الثاني، لكنني استرددتُ مشاعري الخاوية سريعًا، وواصلت مشيي عبر الحارات المتشعبة.

بعد مضايقتين لم تكن بي طاقة لشتم صاحبيهما بلغت البيت، فتحت الباب الحديدي المصمت للعقار الصغير المُكوَّن من ثلاثة طوابق، أسكن أولها في شقةٍ صغيرة، ويتوزع أصحاب البيت على الطابقَيْن الآخرَيْن. دخلت شقتي بهدوء، ومهتدية بنور الشارع المتسلل من خَصَاص نافذة الصالة اتجهت إلى غرفتي. أضأت النور فصفعني مشهد السرير الأيمن، وكأنني نسيت وجوده.

جلست على سريري يسار الغرفة وحدَّقت إلى السرير الآخر، وجثم على صدري ثقلٌ إضافيٌّ لا يُطاق.. كتلة سوداء هائلة تتدحرج يَمْنةً ويَسْرةً بين ضلوعي. طوال عمري اعتدت المكابرة حين الألم، أنظر دومًا بعيدًا وأركِّز على شيءٍ لا يريق دموعي؛ لِئلَّا تستبيحني الحياة – ومَنْ فيها – أكثر؛ لهذا لا أبكي أبدًا. الآن أتمنى لو استطعت.

من الألم إلى البلادة تقافزت مشاعري جيئةً ورواحًا، حتى هدَّني إنهاكٌ تام. سحبت الغطاء وأدرته حولي بإحكام الشرنقة، وأغمضت عينيَّ وارتددت جنينًا، وإن كنت وحدي ومتروكةً تمامًا، مقطوعةً عن كل ما يربطني بالعالم. في آخر لحظات يقظتي ومض بعيني شحوب سمية، أبصرت فيه ضياعًا سيُفقدني ملامحي، وتيهًا لن أُستردَّ منه. لن يعود شيءٌ كما كان بعد اليوم.

آية عبد الرحمن، كاتبة وصحفية ومترجمة مصرية، ومقدمة برنامج «على خطى الكتابة» لفن الرواية والكتابة الإبداعية. باحثة في علم اللغويات، وحاصلة على عدد من الجوائز الأدبية، في الرواية والقصة والشعر والنقد والمقال الصحفي.

آية الرحمنالنفق في نهاية الضوء

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member