مقتطف من كتاب أحمد العلي: الزيت

مريم حسيني، «مراقب الأشباح 2».

أحمد العلي   By • 24 NOVEMBER 2025

في أحدث كتبه الشعرية، الزيت، يستعيد أحمد العلي كتاب «صانعوا بلاد العرب الحديثة» لأمين الريحاني ويضيف إليه سطورًا شعرية، متنقلًا بين العقير والرياض والقاهرة وبيروت، تدور الرحلة حول الأحساء، وتحولها من أكبر واحة في شرق المملكة، إلى موضع أكبر حقل نفطي في العالم.

كتاب «الزيت» من إصدارات كلمات.

وقعتُ على طبْعةٍ أُوْلى نادرةٍ لكتابٍ يعود للأديب والرحّالة أمين الريحاني، بعنوان Maker of Modern Arabia صدرت عن Houghton Mifflin Company عام 1928 في بوسطن ونيويورك*، وذلك أثناء بحثي عن تفاصيل مؤتمر العقير التاريخيّ Uqair Protocol of 1922 . وفي كتابه يسردُ أمين رحلتَه إلى الرياض للقاء ابن سعود. وهي رحلةٌ بدأت من لحج في اليمن وتوقّفت في محطّاتٍ منها بغداد والبحرين والأحساء، وحضر خلالها ذاك المؤتمر. وللإحاطة بتاريخ العمل، عُدتُ إلى المجلّدات المعنونة «أمين الريحاني – المؤلّفات العربيّة الكاملة» الصادرة بتقديمٍ وتحقيقٍ للأستاذ أمين ألبرت الريحاني عن مكتبة لبنان ناشرون وصائغ العام 2016، وقرأتُ في صفحة التعريف بالكتاب (ص 5374) أنّ المؤلّف كتبَه بالعربيّة ثمّ بالإنجليزية، واستغرقَه ذلك الأعوام بين 1923 و 1927، لكنّها لم تُشِر إلى تلك الطبعة العربيّة ولا إلى مكان نشرها، فظننْتُ أنّها في حفظ أرشيفٍ ما في مكانٍ ما. وبعد التقصّي وجدتُ أنّ رحلة أمين النجديّة تقاسمَها كتابان في إصداراته العربيّة: جزء منها ضمّنه كتاب ملوك العرب (صدر سنة 1924) في فصل بعنوان: «السلطان عبد العزيز آل فيلص آل سعود»، وفقًا للطبعة المتاحة مجانًا على موقع مؤسّسة هنداوي، و«الملك عبد العزيز آل سعود» في طبعة الدار الأهليّة؛ والجزء الآخر جاء في كتابه تاريخ نجد الحديث وملحقاته (صدر سنة 1928)، وكان في الفصل المعنيّ من كتابه الأوّل يُحيل القارئ إلى كتابه الثاني للاستزادة.
عرضْتُ تلك النسخَ بعضها على بعض، ووَازَيْت العربيّ بالعربيّ**، وقارنتُ الإنجليزيّ بالعربّي، وخلصت إلى أنّ الريحاني في الإنجليزيّة كان أكثر تمكّنًا في السرد وأدواته منه في العربيّة. لقد عانَيْت في قراءة الكتابَين العربيّين، لم «أقبض» عليه فيهما، إذ لم أجد لأسلوبه معنًى، بل بدا لي في شيءٍ من التعسّف والركود، رغم جمال متنه السردي في مواطن أخرى دون شكّ. ومصداقه، ربّما، ما ورد في كتاب أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب (مؤسّسة هنداوي، 2014)، عن زيارة «الشاعر الناثر والمفكّر الفيلسوف» مصرَ العام 1922، وفي «الحفلة الأولى» لاستقباله التي أقامها في منزله الدكتور يعقوب صروف، ودعا إليها «جمهورًا من فضلاء مِصر ورافعي لواء الأدب العربي فيها إلى حفلة شاي»، خطبَ فيهم الأستاذ لطفي جمعة المحامي مرحبًا بالضيف، وقال في ما قال: «عرفتُ أمينًا وهو لا يحسن اللغة العربيّة تكلّمًا، فضلًا عن كتابتها؛ لطول الشُُّقّةِ بينه وبين وطنه الأصليّ، وقدّمتُ له نسخةً من أوّل كتابٍ ألّفتُه، فنظر فيه ثمّ قال لي: سأضع أنا أيضًا كتبًا باللغة العربيّة. ولم يكن أمين ممّن يَعِدون ويخلفون، أو يعزِمون فيتردّدون؛ فإنّه بعد بضع سنين قضاها زاهدًا مُنقطعًا عن النّاس في صومعته بوادي الفريكة أخرج للعالم العربي كتابًا من أجلّ الكُتب، ألا وهو الريحانيّات» وهو الكتاب الذي يقول عنه أمين ألبرت الريحاني في لقاءٍ تلفازيّ: إنّ الرّيحاني أسّسَ ببعض نصوصه «قصيدة النثر» العربيّة، لكنّي أتناولُ سردَه الرّحليّ العربي هنا دون سواه.
واستطرادًا، وجدتُ في الريحانيّات قطعةً أظنّه يُعارض بها الشاعر النيويوركيّ والت ويتمان مؤسّس الحداثة الشعيّرّة في أمريكا (وهو ما تأكّد لي لاحقًا أنّه أمر معروف)، ولعلّ الشاعر السوريّ علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس كان مُطّلعًا على ذاك النصّ حين كتب قصيدته الشهيرة «قبر من أجل نيويورك»، لكنّني أُثبتُ هنا مطلعَ ما كتبه أمين: «نيويورك – ابنة التمرّد في العالم القديم، وعروس التفرّد في العالم الجديد، وأمّ الفوضى في العالمين. ويلٌ لأبنائك وعشّاقك..» ثمّ تنمو القصيدةُ بهذا النّفَس الضدّيّ للمدينة التي عاشها وخبرَها حقًا ليختم «وغدًا تصير أبراجُك في أنفاقك، ويدفن مجدك الكاذب تحت أنهارك، فتبكيك عندئذٍ نينوى وتترحّم عليك بابل». أقول: كانت اللغة العربيّة وقتئذٍ لغةً ثانيةً في وجدان الريحاني.
إنّ السرد العربي للرّحلة موضع شأننا (بين صدور الكتاب العربي والإنجليزيّ أربع سنوات) جاء على غير ما أمِلَهُ الريحاني وربّما قارئه العربي، على عكس سرده الإنجليزي الذي نراه فيه متمكّنًا ومنطلقًا وأكثر حرية في التفصيل والإيضاح وإبداء الرأي والتعليق حتّى لو كان ذلك جارحًا. لقد «عالج» الريحاني نسخته العربيّة؛ حذَف وأبدَل، وأضاعَ ما أضاع بين «ضرورات» السرد العربي وحرية السرد الإنجليزي. ولا أقصد هنا أمورًا مثل: إنّ عدالة ابن جلوي عدالة «رومانيّة» في النسخة الإنجليزيّة، لكنّنا نجدها عدالة «عمر بن الخطاب» في النسخة العربيّة، أسباب ذلك وأمثاله مفهومةٌ في ترجمة النصوص ودور القارئ المستهدف في النصّ المنقول إليه، بل قصدتُ أمورًا أخرى، ومصداقه -ربّما- ما خطّ في كتابه: «لقد داريتُ في بعض الأمور، وأكثرها سطحيّة، لأفوز بكلّ ما أروم من العلوم والأخبار». وقد جاء في رسالةٍ منه إلى الملك عبد العزيز في نوفمبر العام 1923: «(…) قد سبق منّي في تاريخ 6 صفر الماضي كتاب عن طريق بغداد يتضمّن مسودة ما أُلِّف لتطّلعوا عليها وتعيدوها مع ملاحظاتكم وأوامركم (…)» وكان يعني مسودة كتاب ملوك العرب، وفق التعليق المرفق بملفّ الرسالة في أرشيف مركز موييز خير الله لدراسات الانتشار اللبنانيّ. لكنّه فوجئ في يناير العام 1928 (بعد صدور كتابه الإنجليزيّ) برسالة: «رسالة من يوسف (الاسم غير واضح) (…) يوسف يلفت نظر الريحاني وينبّهه إلى مقالٍ نشرته جريدة «اللطائف المصورة» نقلًا عن إحدى المجلّات الأميركيّة بعنوان «في حريم الملك ابن سعود» منسوبًا إلى الريحاني، ويخبره بحساسيّة هذه المواضيع». فجاء ردّ الريحاني في رسالتَين: الأولى إلى يوسف: «(…) ولا تظنّ رعاك الله أني أكتب في الإنكليزيّة شيئًا لم أكتبه بالعربيّة. كنت أنتظر منكم كتابًا فيه تقدير لخدماتي في هذه البلاد الأمريكيّة (…)»، والثانية إلى الملك عبد العزيز: «فيها يخبر الريحاني الملك عبد العزيز أن قد وصله أنّ الملك أبدى امتعاضًا من مقالٍ للريحاني في إحدى الجرائد المصرية ويؤكّد للملك عبد العزيز أنّه لم يكتب إلّا ما «يدعو إلى الإعجاب والمفاخرة (…)***».
إلى ذلك، كنتُ أقرأ كتابه الإنجليزيّ ويتناهى إليَّ صوتٌ «أكسفوردي» رفيع، متهكّمٌ وضاحك، لا يعدم وسيلةً للإشارة إلى التفاوت الحضري بين هنا وهناك، والذهنيّ أيضًا، وأحببتُ هذا الوضوح، هذه النبرة الأصدق للاستعلاء «الطبيعيّ» التي اعتدناها في كتب الرحالة إلى الجزيرة والخليج –أم أقول الضبّاط؟– فهم يتوجّهون بكتبهم أساسًا إلى مَن يشاركهم النبرةَ نفسها: قادتهم وجمعيّاتهم وبرلماناتهم ومراكز الدراسات والبحوث، المهتمّين بشعوب الشرق الغامض وأرزاقه. لكنّي أحسَب أنّ أمين لم يتوجّه في سرده العربي إلى شعوب الأمّة العربيّة، حتّى إن قال عكس ذلك، ففي ذاك الزمان والمكان لم يكن أمين في حاجةٍ إلى علاقاتٍ كثيرةٍ لنيل الحظوة، أو إلى توحيد الآراء لتحقيق مصلحةٍ ما، بل يكفيك رأس القوم عن كلّ ما عداه. إذَن، لا بدّ من البحث في حياة الكاتب لمعرفة حياة كتابه ولمن هو مرصود. وجاء أنّه، قبل الشروع في رحلته النجديّة ورحلاته العربيّة عمومًا، كان مراسلَ صحيفة نيويورك تايمز في أوروبا أثناء الحرب العالميّة الأولى، والتقَى الرئيس الأمريكيّ هوفر، وحاكِم أسبانيا فرانكو، وبابا الكنيسة الكاثوليكيّة بندكت الخامس عشر، وروزفلت أيضًا، وحاصل على الجواز الأمريكيّ –إذ هاجر مع أخيه إلى نيويورك العام 1888 – وأنّه حمل رسائل من مكتب الخارجيّة الأمريكيّة تُعرف به بوصفه مواطنًا أمريكيًّا لتسهيل حركته بين بلدان الجزيرة والخليج وداخلها أثناء رحلته العربيّة إزاء الانتشار البريطانيّ في المنطقة، وأيضًا لكي يأمَن له السلاطين والشيوخ (سجن ابن سعود الرحالة والضابط ويلفدر ثيسجر في السّليل لمحاولته قطع الربع الخالي قادمًا من اليمن دون إذنه). وقد كتب أمين أثناء محاولته الوصول إلى نجد: «جلستُ أسأل نفسي وأناقشُها: هل يمنعونَك وأنت تحمل الجنسيّة الأميركية؟ قد منعوا غيرَك من هذه التبعة، وهم يكرهونها في العراق. ألا يستطيع قنصل أميركا السعيَ من أجلك كما فعلَ زميله في عدن؟». ولإضاءة المسألة، أنقل هنا جزءًا من الحوار الأوّل الذي دارَ بين أمين والملك عبد العزيز الذي كان قادمًا من الرياض إلى العقير -حيث ينتظره أمين- للقاء السِّر بيرسي كوكس، المندوب السامي البريطانيّ في بغداد:
قالوا لنا إنّك أميركيّ وجئت بالدين المسيحيّ في البلاد العربيّة، وقالوا إنّك تمثّل بعض الشركات وجئتَ تبغي الامتيازات، وقالوا إنّك قادمٌ من الحجاز وإنّك شريفيّ تسعى لتحقيق دعوة الشريف، وقالوا غير ذلك، فقلنا: إذا كان في الرجل ما يضرّ فنحن نعرف كيف نتَّقِيه، وإذا كان فيه ما ينفع فنعرف أيضًا كيف ننتفع****.
إذَن، إمّا أنّه أمريكيّ يبشّر بالمسيحيّة في ديار الإسلام، أو أنّه يمثّل شركاتٍ تسعى لنيل امتيازات التنقيب عن الزّيت (النفط) في جزيرة العرب، أو أنّه يعمل خِفيةً لصالح الحجاز والشريف الحسين (أي ضدّ ابن سعود). لكن، إن لم يكن أمين يلعب أيَّ دورٍ من تلك الأدوار التي ذكرها السلطان، فمَن لعبها إذَن؟ وانفتح أمامي بابٌ للبحث جديد: من هم؟ وماذا أرادوا حقًّا؟ وماذا فعلوا؟
رحت أقرأ مطوّلًا في تاريخ شرق الجزيرة، فقد استقبلَتْ بعثاتِ استكشاف وتُجّارًا وضبّاطًا يمثّلون مصالحَ دولهم من الأقطار كافّة: الرّوس والبرتغاليّين والهولنديّين والفرنسيّين والألمان والأتراك، حتّى «شاء التاريخ» أن يكون للبريطانيّين «الإنجْلَيز» اليد العُليا في المنطقة، أوّل القرن العشرين، لتُنجز مشروعَها في إسقاط الخلافة العثمانيّة بدعم انفصال كلّ جزءٍ منها بسُلطته وناسه، أي تحييدهم أو استمالتهم لكي لا يكونوا معبرًا سهلًا إليها ويدًا عليها في الحرب العالميّة الأولى، لكن تلك الأجزاء لم تكن لتُعرَف معرفةً مُفيدةً تسمح بالتحكّم بها وتأليبها على الأتراك دون إرسال الضبّاط في ثياب الرحّالة ليستعربوا ويعيشوا ويكونُوا هم الصّلة بين تلك المناطق ودولهم العُظمى قبل إنفاذِ ذاك المخطّط بسنوات.
لم تبتكر بريطانيَا هذا الأسلوب، بل لم يتوفّر هناك غيره، إنّه أشبه بتقليدٍ استعماريّ، حتّى دخلت أمريكا المنطقة وأسّست لتقليدٍ مختلف. أقول: وكان أنْ تصاعد الاهتمامُ باكتشاف مكامن الزّيت (النفط) في العالم، وباتَ هو مستقبل التحوّل الاقتصاديّ والتسلّح في الحرب العالميّة الثانية، وله الكلمة الفصْل. وللدهشة حملت هذه المنطقة شيئًا منه وفق توقّعات الجيولوجيّين، فهو موجودٌ في الساحل الفارسيّ تحت القبضة الروسيّة وقتئذ، وعُثر عليه في باطن جزيرة البحرين، فما الذي يمنع إذَن من وجوده هنا؟ وبهذا دخلت المنطقة باكتشاف الزّيت في أعماقها العالمَ الحديث، وتغيّرت حياةُ جدّي وأبي، ولم أولد حيثُ وُلدا، ولم أعش ما عاشاه، ولا عرفتُ ما عرفاه، وحدث ما خشيه ونبّه إليه أولئك الرحّالة المتخفّون جميعًا: ستختفي حياةٌ وتظهرُ أخرى دون تدرّجٍ ولا تحوّلٍ مدروس، ستنهارُ طبقاتٌ وتقومُ أخرى، ستنشأ مدنٌ وتموت حواضر، أمّا المجتمعات فستكون جديرةً بالدّراسة لما ستعيشه من تناقضاتٍ لا سابق لها. وكذَا قرأتُ مطوّلًا في نشوء شركة أرامكو بالمنطقة الشرقيّة، وثقافة «الكمباوند» المعزول عن محيطه وما يتداولُه الناسُ من أخبار «العجائب والغرائب» داخله. تُمكن العودة إلى موقع أولئك العمّال الأجانب الإلكترونيّ الذي أنشؤوه ليجمع يوميّاتهم وعائلاتهم وليتشاركوا الأخبارَ والذكريات المهمّة، لتجد مثلًا صورةً لأوّل «نشرة» داخليّة أنشأها العمّال هناك لتبادُل الأخبار بين «كمباوند الظهران» و«كمباوند رأس تنورة» في الأربعينيّات. ثمّ إنّني وجدتُ الشيء الثمينَ في كتاب فيليب مكّونل The Hundred Men من روايات الحرص على استمرار التنقيب واستخراج الزّيت في الأيّام الحرجة للحرب العالميّة الثانية لكي لا يخسر «الأمريكان» الامتياز، وسقوط قذائف موسوليني على الظهران والبحرين، وكيف خطّطوا لتعطيل آبار الزيت تعطيلًا لا صلاحَ بعدَه حالَ باغتهم الأعداء على الأرض، وصولًا إلى صيدهم الغزلان وطيور القطا بعد انقطاع الطعام المستورد خصّيصًا لهم.

مريم حسيني (مواليد طهران 1988)، «مراقب الأشباح 2»، زيت، أكريليك، حبر على قماش، 200×80 سم، 2020 (بإذن من معرض جرين آرت، دبي).

لا مفرّ إذَن، لفهم ما حدثَ في الخليج والجزيرة في القرن العشرين، وليُدرك المرءُ نفسه إدراكًا خاصًّا، من تتبّع تلك الأقدام التي عبرت ظهرَ الرّمال: رحلات برترام توماس في عربيّته السعيدة، وويلفدر ثيسجر «مبارك بن لندن» في رماله العربيّة، وتوماس «لورنس العرب» في أعمدة حكمته السّبعة (مات نتيجة حادثٍ أثناء قيادته الدرّاجةَ في موطنه، كما حدث للريحاني لاحقًا، وفرضيّة اغتياله ما زالت قائمة)، والنقيب وليام شكسبير (قُتل أثناء مرافقة الملك عبد العزيز في معركة جراب العام 1915 التي جرت بينه وبين إمارة شمّر الموالية للخلافة العثمانيّة، واقفًا على التلّة يُدير الكاميرا للتصوير)، وبلجريف البريطانيّ (كتب أنّ غوّاصي اللؤلؤ الذين تقومُ عليهم ثروةُ البلاد يحيون في الحقيقة حياةَ العبيد إذ يتداول بيعهم وشراءَهم «النواخذة»، وإذا مرضوا في عرض البحر فإنّهّم يُرمَون على السِّيف حتّى يموتوا أو يلتقطهم أحد)، وبالغريف الفرنسيّ (ادّعى أنّه طبيبٌ سوريٌّ كي يسهُل عليه التنقّل بين بلدان العرب، لكنّ بعض الرحّالة المعروفين كذّبوا رحلتَه وتفاصيلَها «المختلقة» كما ذكر فيليب حتّي)، و شتيزمان (الذي قارن في الفصل الثامن من كتابه بين وصف بالغريف الفرنسيّ لمدينة الهفوف ووصف فيلبي وخطّأهما معًا في مواضع كثيرة)، وأبو النفط فرانكس هولمز مع عدوّه «عبد الله» ويليمسون، وكتاب ديكسون الموسوعيّ عرب الصحراء (في نسخة كتابه العربيّة حذفت دار النشر الفصل التاسع عشر XIX «لما فيه من افتراء» وأسجّل استغرابي هنا، فذلك لا يخدم الباحث عن المعلومات في شيء، بل يُلبسِ عليه المصادر)، وسجلّات وأوراق الأطبّاء الذين جاء معظمهم من إرساليّات وعيادات في البحرين والكويت وهم شهودٌ على ما شهدَه الناس من جوائح الطاعون والإنفلونزا والملاريا وحتّى معارك القبائل وجرْحاها، مثل الطبيب المعروف لويس ديم، والطبيب الألمانيّ هربرت بريتسكه (الذي سألَه ابن جلوي في الهفوف: كنتَ جنديًّا، ألم تكن؟)، ومايلز وبوركهارت وويلسون، وسادلير (أشيد هنا بمقدّمة عدنان السيّد محمّد العوامي في ترجمته يوميّات سادلير، التي قارنَ فيها بين ترجمتين سابقتين لها، وأشيد -استطرادًا- بمقدّمة الشيخ حمد الجاسر لكتاب اكتشاف جزيرة العرب، التي طرح فيها مدى جودة تحقيق المستشرقين علميًّا للمؤلّفات القديمة حولَ الجزيرة إزاء الناشرين العرب الذين لم يبذلوا جهدًا مماثلًا)، والليدي بلنت وجرترود بيل (زوجة بيرسي كوكس) اللتان زارتا إمارة آل رشيد في حائل، وغيرهم كثر، أقدم منهم وأحدث.
لكنّ ألفَتَهُم للنّظر وأمتَعَهم سيرةً هو هاري سانت جون «عبد الله» فيلبي، الذي عمل بصفةٍ غير رسميّة مستشارًا للملك عبد العزيز في الرياض وتزوّج منها، وهو ضابطٌ بريطاني سابقٌ ومكتشف ترك آثارًا مشهودةً في حقول المعرفة كافّة حول الجزيرة والخليج، من ترسيم الحدود إلى تسمية فصائل من الحيوانات، وكان شاهدًا مقرّبًا لفترة ما قبل اكتشاف الزّيت وما بعدها، وله أدوارٌ في الفترتَين، وقد كتب في كتابه أيّام عربيّة أخرى: «صحيح أنّهم حصلوا على مزيدٍ من المال، لكنّهم حصلوا على خبزٍ أقلّ» الأمر الذي لم يتركه المترجمُ دون هامشٍ يقول فيه: «هذه مبالغةٌ وتعميمٌ من المؤلّف»! ومن آثاره المشهودة عالميًّا أيضًا، ابنه كيم فيلبي، الذي عُدّ أحدَ أهمّ وأخطر جواسيس العالم على مرّ التاريخ: لقد كان ضابط مخابرات لبريطانيا ولم يُعرف أنّه عميلٌ مزدوجٌ للاتحاد السوفييتيّ منذ العام 1934 وحتّى انكشافه وهربه صحفيًّا إلى موسكو العام 1963 من مقرّ عمله الصحفيّ في بيروت، المدينة التي احتضنت أيّامَه المشهورة في بار السان جورج – وَكر الجواسيس في بيروت*****.
هكذا دارت الدائرةُ لتُعيدني مرّةً أخرى إلى لبنان وأمين الريحاني، وما كتبه عنه الشاعر الكبير الجواهري في مذكّراته، ردًا على ما ذكره الأوّلُ في كتابه قلب العراق، الذي جاء نتيجةَ زيارته الأولى إلى هناك. لكنّه زارها مرّةً أخرى العام 1935 «ليغطّي أخبارَ الأوضاع الجديدة الناشئة بعد انقلاب بكر صدقي» لينتهز الجواهري الفرصة ويكتب:
«فما عسى أن يكون موقفي، بل وموقف كل واحدٍ آخر مثلي، سوى أن أرد عليه وعلى كذبه وافترائه بما أستطيع وهذا ما كان منّي معه في مقالي (جاسوس خطير في أوتيل تايكرس بالاس)، وكان القلم في يدي في الليلة التي حلّ فيها أمين الريحاني بهذا الفندق، عندما اتّصلتُ به هاتفيًّا ليلًا لأقول له بالحرف الواحد: «مرحبًا أستاذ أمين الريحاني، هل تعرف من الذي يكلّمك؟ إنّه الرجل الذي وُلد في إيران، فارسيًّا ينظم الشعر، وطبعًا فبالفارسيّة، إنّه محمّد مهدي الجواهري!» (…) وصدر المقال، صباحَ اليوم التالي، وفي الظهيرة منه كان أمين الريحاني قد حزمَ حقائبَه وغادر العراقَ على وجه السرعة (…) وللحقيقة، أقول إنّني كتبتُ عن أمين الريحاني إنّه جاسوسٌ مخيفٌ لمجرّد هاجسٍ من الرّيبة في أمر هذا الرجل العربيّ الأصل، الأمريكيّ الجنسيّة، فيما يتنقّل به بحجّة الكتابة عن (ملوك العرب)، إذ هو يندسّ في هذا البلد العربيّ أو ذاك، ويلتقي بهذه الحجّة بكلّ ما فيها من محافل ومجالس حافلة، شاءت أم أبت وبما يصل حدّ التخمة من أسرارٍ ودفائنَ وكمائن. ولكنّني لم أكن أعرف أنّني قارئ فنجان!».
تلك كانت مواجهةً قاسيةً تعرّض لها الريحاني العام 1935، لكنّها لم تكن الوحيدة، ففي العام نفسِه جرت بينه وبين ناسك الشُخروب، الأديب ميخائيل نعيمة (وهو ثالث ثلاثة في نيويورك: جبران خليل جبران وأمين الريحاني) مواجهةٌ أخرى أوردها الناسك في كتابه سبعون:
«قرأت، يا أمين، في صدر عددٍ من أعداد هذه الصحيفة الكريمة رسالةً موجّهةً منك إليّ بشأن كتابي (جبران خليل جبران – حياته. موته. أدبه. فنّه). وما كنت لأكلّف نفسي عناءَ الدرد عليها لو أنّها كانت نقدًا للكتاب (…) فأنت «تعلّمني» فيها كيف تكون الصداقة، وكيف يتوجّب على الصديق أن يكتب في صديقه. وتُقيم لي من نفسك مثالًا على ذلك. فتذكّرني بـ«صداقة» قديمةٍ كانت بينك وبين جبران، وكيف أنّك كلّما خطرت ببالك أيّامُها لا تذكر منها «غير حبٍّ صافٍ كصفاء الفجر (…)» ألا اعذرني يا أمين. اعذرني إذا ما قلت لك بصراحةٍ ما بعدها صراحةٌ إني لو كنت أجهلُ من الصداقة حتّى الألف والباء، ولم يكن في الأرض معلّمٌ سواك، لما رضيت أن أدرسها عليك. واعذرني بعد ذلك إذا ما أخبرت النّاس عن تلك «الصداقة» التي كانت بينك وبين جبران. تقول لي في رسالتك:
«أنت تعلم أني لم أكن قريبًا من جبران قربكم في السنوات العشر الأخيرة من حياته» (…) ولو صدقت لقلت: «أنت تعلم أني كنت منبوذًا وممقوتًا ومحتقرًا من جبران في السنوات العشر الأخيرة من حياته» (…) بلى، يا أمين. لقد كانت بينك وبين جبران صلةٌ في بدءِ نشأته الأدبيّة – صلة ما أظنّها بلغت حدَّ الصداقة، وإن شئت أن تزيّنها اليوم بهذا اللقب. لكن جبران، من بعد أن بلغ أشدّه في أدبه، ومن بعد أن خبر حبّك «الصافي كصفاء الفجر» نبذَك من حياته ونبذ ذلك الحبّ كما تنبذ أنت نواةَ زيتونةٍ تأكلها، وأصبح إذا ما تراءى له خيالُك في كأس من الماء، وكان عطِشًا حتّى التلف، أحجم عن شربها وحطّمها.
وإني مذكّرك – وما أنت بالناسي – بليلةٍ رفع فيها عصاه فوق رأسك، ولو لم يتداركه بعض الحاضرين لما كنتَ اليوم في عداد الأحياء. منذ تلك الليلة -وقد غمرتها أمواج أربع عشرة سنة- لم يرَ جبران لك وجهًا ولا وقعَ بصرك على وجهه (…) ثمّ إنّك ما كنت تحفَل، يا أمين، بأدب جبران ولا تعتبرُه بشيء. وإني مذكّرك –إذا كنت ناسيًا– بليلةٍ صرفتها عندي قبل وفاة جبران بسنةٍ أو أقلّ. وبساعة خرجنا سويًًّا نتمشّى في «برودواي» فجئنا على ذكر جبران وأدبه (…) مات جبران وأنتَ لا ترى في أدبه أكثر من «عاطفة مائعة كريهة المذاق». ولكن –وهذا هو العجب– ما جيء بجثمانه إلى هذه البلاد، وكان له ما كان من الاستقبال المفعم بالإعجاب والمحبّة، حتّى وقفت ترثيه وتسبغ عليه نِعَمَ حكمتك وعطفك وتدعوه «أخاك الحبيب». وأراك حتّى اليوم لا تترك ظرفًا مناسبًا أو غير مناسب إلّا شهدت فيه بحبّك له «الصافي كصفاء الفجر». ألا إنّ هذه القِحة لخلاصة القحة يا أمين. هذه قِحة خالعة العذار (…) لو كنتَ تفهم الحبّ يا أمين لكنتَ تجلّ حبًّا ينزوي في القلب عندما يحدّث عن المحبوب. وقلبًا يحجب ذلك الحبَّ عن الناس كي لا يمسّه قلمٌ كقلمك ويدنو منه لسانٌ كلسانك (…)».
وأختم بتلك المواجهة التي أعقبها أمر السلطان عبد العزيز للريحاني بمغادرة جدّة العام 1925 «أمرتم يا طويل العمر بأن أسافر إذا كنت أرغب أن أحافظ على صداقتكم فسافرت»، ربّما بسبب تلك البرقيّة التي بعثها الريحاني من حيفا إلى القصيبي في البحرين (وكيل ابن سعود) في 23 أكتوبر 1924 (أنقلها هنا كما خطّها الريحاني):
القصيبي البحرين
بلغوا عظمة السلطان ما يأتي حالًا. كتاب عظمتكم الأخير وصل ارجوكم ان تقفوا عند الحد الذي وصلتم اليه لا تتقدموا في الحجاز
Make no further advances
الى قبل ان اقابلكم. هناك أمور خطيرة يجب أن أشافهكم بها
مسافر الان بطريق جده.
وأعقبتها برقيات أخرى يطلب فيها منه لقاءه دون جدوى، حتى كتب في الأخيرة منها: «(…) أحييكم من قلب مجروح (…) حزين لأنكم لم تروا في مساعيّ السلمية خيرًا لنجد وللعرب. ومع ذلك فإني لا أزال من المجاهدين في سبيل نجد (…).

الهوامش:

*حمل الكتاب عنوانًًا آخر في لندن، طبعة Constable & Co في العام نفسه: .(Ibn Saoud of Arabia: His People and His Land)

**مكتبة لبنان ناشرون وصائغ نشرت الكتاب محرّرًا ومدقّقًا وممتازًا، وجاءت نسخة مؤسسة هنداوي الإلكترونية المجانية أيضًا ممتازة (نشرت أيضًا كتاب تاريخ نجد الحديث وملحقاته)، في حين وجدتُُ أن طبعة الدار الأهليّّة تحتاج إلى عناية.

***يرد في كتاب الريحاني في فصل The Palace أنّ الملك أدخله إلى غرف داخل القصر لا يدخُلها الضيوف عادة ليريه بعض مقتنياته وكيف يعيش. لذا، فليس المقصود بالحريم هنا النساء، بل العبارة كناية عن خصوصيّة المكان. وكثير من تفاصيل هذا الفصل لم تُذكر البتّة في الكتاب العربي، في حين أوردها في النسخة الإنجليزية بأسلوب المستشرق الذي يرى في كلّ قصرٍ شرقيٍّ شيئًا من عوالم ألف ليلة وليلة. ونقلًا عن البحّاثة والمؤرخ أ. بندر بن عبد الرحمن بن معمر، فإنّ المذكور هنا هو يوسف ياسين، رئيس قلم المطبوعات والمخابرات (المخابرات تعني الاتصالات، أو الإعلام)، وهي مديرية تأسَّسَت وقتئذ وعُين يوسف ياسين مسؤولًا عنها، وبهذه الصفة كان يتواصل مع الريحاني، وهو رئيس تحرير جريدة أمّ القرى.

****المصدر ملوك العرب. ووردت الفقرة كاملة في MAKER OF MODERN ARABIA

*****عنوان كتاب سعيد أبو الريش، الذي صدر عن دار رياض الريس، العام 1989. ونقلًا عن البحّاثة والمؤرّخ أ. بندر بن عبد الرحمن بن معمر، فإنّ فيلبي لم تكن له صفة رسميّة ولم يكن موظّفًا في الحكومة، بل كان مقربًا من الملك يستشيره في بعض الأمور، وقد موّل رحلاته ليكتشف الصحاري، وشأنه شأن الريحاني، فقد أراد منهما الملك نظرًا إلى اتّصالاتهما الخارجيّة أن يكتبا عن مشروعه تعريفًا به وترويجًا له عالميًّا.

أحمد العلي

أحمد العلي أحمد العلي، شاعر ومترجم من السعودية، المدير العام لمجموعة كلمات في الشارقة. أصدر 6 كتب شعرية آخرها «الزّيت» و«ليس للسّابح أن يعلو على الماء». العلي ضمن 50 اسمًا في «أنطولوجيا الشارقة للأدب العربي المعاصر» الصادر بمناسبة اختيار اليونسكو للشارقة عاصمة عالمية للكتاب 2019، وضمن 40 اسمًا تُرجمت لهم مختارات إلى الفرنسية بدعم من برنامج جسور «إثراء – أرامكو» وصدرت في «رمال تركض بالوقت» عن دار آل دانتي العام 2021، وضمن 26 اسمًا في كتاب «تتبّع الأثير» الصادر بالإنجليزية عن دار جامعة سيراكيوز 2025 لشعراء تفاعلت نصوصهم مع الفضاء السيبراني والعولمة. ترجم العلي كتبًا إلى العربية منها «حكاية الجارية»، و«اختراع العزلة»، و«حليب أسود».

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

Learn more

مواضيع مشابهة

Arabic

مقتطف من كتاب أحمد العلي: الزيت

24 NOVEMBER 2025 • By أحمد العلي
مقتطف من كتاب أحمد العلي: الزيت
Uncategorized

مقتطف من رواية أمين صالح: كائنات المرايا الجميلة

17 NOVEMBER 2025 • By أمين صالح
مقتطف من رواية أمين صالح: كائنات المرايا الجميلة
Uncategorized

ثلاث قصائد من ديوان آلاء حسانين الجديد: زقاق ضيق يذكرني بالمطر

10 NOVEMBER 2025 • By آلاء حسانين
ثلاث قصائد من ديوان آلاء حسانين الجديد: زقاق ضيق يذكرني بالمطر
Arabic

أربع قصائد لأسماء جمال عبد الناصر

26 MAY 2025 • By أسماء جمال عبد الناصر
أربع قصائد لأسماء جمال عبد الناصر
Arabic

ديوان ندى الشبراوي: خطأ 404

27 JANUARY 2025 • By ندى الشبراوي
ديوان ندى الشبراوي: خطأ 404
Arabic

أربع قصائد لآلاء حسانين: ديوان الحب الذي يضاعف الوحدة

23 DECEMBER 2024 • By آلاء حسانين
أربع قصائد لآلاء حسانين: ديوان الحب الذي يضاعف الوحدة

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

2 − 1 =

Scroll to Top