أحدث قصائد آلاء حسانين، من ديونها الجديد «زقاق ضيق يذكرني بالمطر» الصادر منذ شهور قليلة، هنا تحدثنا آلاء عن الغربة من منظورها الشخصي، عن باريس ونانت، وعن الفيل الذي لم تره.

إحدى البارات المقابلة للسيتيه، باريس، 10 نوڤمبر 2022
أرغب في قول الكثير من الأشياء
لكن لا أعرف ما هي بالضبط
قطرات من الماء البارد تتساقط في قلبي
وأنا لا أفعل شيئًا حيال ذلك.
لا أرغب في الكلام أو الحركة
أو الإيماء لتحايا الآخرين
أو الهرولة لاحتضان أحد ما.
أود أن أصير نبتة
لا تتحرك سوى في اتجاه الشمس.
الأوراق تتساقط في كل مكان
وفي بعض الأحيان
حين تسقط على كتفي ورقة ما
أقول: «مرحبا بك أيضًا».
لكن اليوم لم أقل شيئًا للأوراق المتساقطة
قلبي صار ضيقًا جدًا
لا يكفي حتى لعبور دمعة.
بالأمس قابلت الكثير من الناس
لم أشعر أن أحدًا منهم يمكن أن يصير صديقي
لم أستمتع بدحرجة الكلام أو الضحك
ومر الدم في عروقي ببرودة شديدة
وفي المساء كان قلبي قد تجمد أكثر فأكثر.
شربت الكثير من الواين لكن ذلك لم يغير شيئًا
ترسبت البرودة على سطح الأمكنة والجلود.
ولم أستطع منح الحب أو استقباله
شعرت بباريس تتسع مسافات ومسافات
وقاومت الرغبة في تسمية كل تلك الشوارع الغريبة:
موطني.
لم أشعر بالراحة بقية المساء
ولا عندما استيقظت في صباح اليوم التالي
بقيت النهار كله في السرير
وحين خرجت بعد ذلك لشرب القهوة مع شخص ما
انكمشت على نفسي أكثر فأكثر
وكان ظاهرًا إحساسي بعدم الألفة
فقط رغبت في العودة مرة أخرى إلى المنزل
أشعر بذلك دومًا في النهارات التي لا تشرق فيها الشمس.
إلى تساؤلي حول حقي بتسمية هذه الغرفة في باريس منز لا ً أحاول ألا أنحاز إلى هذا الإحساس بعدم الرغبة في الحياة
المبالغة بالحاجة إلى المنزل والوطن والعائلة
ومحاولة البحث عنهم في كل مكان.
أمشي وحدي خطوات بسيطة
وأفكر أحيانًا: هل ابتعدت فعلًا عن المنزل؟
لكن أفكر مرة أخرى: أي منزل؟
لقد عشت في أحد عشر منزلًا في حياتي
وتوصلت في النهاية
إلى أن المهم هو العثور على مكان للنوم
وبطانية حسنة الجودة
وحذاء يصلح للمشي الطويل.
وإلى أن ابتسامة الغرباء لها نفس وقع ابتسامات الوالدين
الرغبة في الموت مماثلة للرغبة في الحياة.
وكلاهما لا يعنيان شيئًا
الشعور بالثقل طبيعي مثل الشعور بالخفة
وكلاهما مهمان للعيش بتوازن
النهار يهبط ويعلو
ولا جدوى من محاولة البقاء في الأعلى طوال الوقت.
المهم هو إيجاد طريقة ما للتعامل مع الغرابة
وأنا سأعد الشاي لكلينا
سأفتح الباب لأيامي الصعبة
وأنفض المطر عن معطفها الجلدي
سأحتضنها حتى وهي كئيبة ومتسخة
وأقول:
«لديَّ مكان إضافي للنوم
ومرحبًا في أي وقت».

بحثًا عن منزل ما، باريس 5 ديسمبر 2022
أحاول ألا أفكر في أشياء تدعو إلى الكآبة
في الأيام الماضية التي لم أغادر خلالها المنزل
في الإحباط المفاجئ الذي يرافق نهاية الحفلات
العشر محطات القادمة
التي قد تحملني إلى منزل ما.
جميع أحلامي الأخيرة تدور في منزل طفولتي
وأحاول ألا أفكر في السبب وراء ذلك
فالمنزل تحول إلى صالة عزاء
وكل يوم أحلم بشخص يموت فيه.
لم يعد لهذا المنزل وجود سوى في أحلامي
غادرناه واحد ً ا واحد ً ا مثل طيور تفر من حريق ما
وغادره والداي أيضًا إلى طرق غير متقاطعة.
بقي والدي وحده في منفاه
سكن غرفة صغيرة ومفروشة
وأخذ يتقلب في الكوابيس
يقول إنه لم ينم منذ ثلاثين عامًا
ويريد العودة إلى وطنه
لينام بأمان في المنزل.
لا يجرؤ والدي على قولها صراحة
لكنه يعلم أن ما منزل هناك بانتظاره
وأن ثلاثين نهارًا في المنفى
لم تكن كافية لإنشاء منزل ما.
فالغربة التي يعيشها متأصلة في رئتيه
وقد انتقل مرضه إلى أجهزتنا التنفسية
حتى صار التنفس جارحًا
وتحولنا إلى عائلة تسعل كثيرًا.
أضاع والدي حياته عند زقاق ما
وجعلنا كلنا ندور معه بحثًا عنها
قال إن معنى حياتنا يتمثل في العودة ذات يوم
إلى منزل لم نولد أصلا ً فيه.
مشيت خلف خطواته بادئ الأمر
بحثت أولا ً في الأمكنة التي بحث فيها
أردت منزلًا للعائلة
يوقف هجراتها المستمرة.
حكى لي والدي عن أبيه
الذي ولد كل ابن من أبنائه في مدينة مختلفة
وكذلك فعل والدي
أسقطنا جميعًا في صحراء بعيدة
ولم يعرف وهو يفر من عائلته قبل ثلاثين عامًا
أنه الشقي الذي حمل لعنة السلالة.
سألت والدي:
«لماذا نمسح الأرض بأقدامنا
ونتيه هذا التيه؟».
أدركت ذلك وأنا أعد المنازل التي تنقلت فيها
فقد عشت في أحد عشر منزلًا حتى الآن
ثم أقسمت ذات يوم إنني لن أبحث عن منزل بعد الآن
سأذهب إلى بلاد بعيدة وأنجو من العائلة.
ردد والدي كثيرًا أنه سيموت في منفاه
وأنه يعلم يقينًا أنه لن يعود إلى بلده أبدًا
حكى باكيًا أنه فر من منزله غاضبًا ذات يوم
رفع رأسه إلى السماء ودعى بأن يعيش غريبًا
وأن يموت كذلك.
ونتيجة ذلك تشرد لثلاثين عامًا
لم يتمكن خلالها من العودة إلى بلده مرة أخرى
ولا من رؤية إخوته قبل أن يموتوا
حتى إن الأحفاد باعوا المنزل الذي تربى فيه
وما يزال يتخيل كل يوم أنه سيعود ليجد عائلته حية
وكبيرة.
لا يريد أن يفكر في أنهم ماتوا
وأن المنزل لم يعد موجودًا
وأنه يختار أن يتمسك بوهم كهذا
لأنه لا يملك غيره.
لا يستطيع أن يواجه أنه عاش وحيدًا
وأغلب الظن أنه سيموت كذلك
وأن حياته دارت في حلقة مفرغة
حلم وحيد أراده وحال كل شيء دون تحقيقه.
وكلنا كبرنا نحلم بالحلم نفسه
عرفنا أن التخلي عنه خيانة لجذر ما
وعلينا أن نظل نحلم بالمنزل الدافئ
الذي يعود إليه الأولاد في إجازاتهم
بأم سعيدة
وأب غير مصاب بالأورام.
وأنا حدقت إلى هذه اللعنة
وحاولت فصل نفسي تدريجيًا
قلت إنني يجب أن أقفز خارج هذه الدائرة
أن أتخلص من لعنة أجداد لم أعرفهم
أن أبدل دمي إذا لزم الأمر
أن أغير اسمي
ولون شعري
ولكنتي في الحديث.
بحثت طويلًا عن منزل أعود إليه
عن أعياد للمرح وليست للشجار
عن أب لا يدور في التيه
وأم لم تجمدها التعاسة.
كنت أنام كثيرًا في حفلات منازل أصدقائي
مثلت لي أجواء الفرح سريرًا آمنا أغفو فيه
ثم حاولت صنع منزلي الخاص
جلست قبالة وحدتي حتى لم أعد أفكر في الفرار منها
أحدنا قد تمكن من أكل الآخر
بدأت بصنع حفلاتي الخاصة
ودعوة الكثير من الناس طوال الوقت
حلمت بمنزل سعيد وقلت إني سأصنع واحدًا.
لكن بعد مدة لم تعد فكرة المنزل تعني لي شيئًا
قلت ذات مرة لرجل أواعده إني لا أحتاج إلى منزل
فالغيوم والطيور ليست لديهما فكرة المنزل هذه
وأنا مجرد غيمة أيضًا في نهاية المطاف.
لم أعرف أني أكذب حين قلت ذلك
لا أستطيع أن أكشف كذبي الخاص
تباهيت أمام نفسي بأني استطعت القفز خارج كارما
الأجداد
وأني سأتنقل في بلاد الله مثل طائر
لكن نسيت أن الله لم يخلقني طائرًا
وأني مجرد إنسان يريد في النهاية أن يعود إلى منزل ما.
ركبت السيارة إلى مطار القاهرة وكنت غاضبة جدًا
إلى حد أنني لم أرغب في الحديث إلى أمي
غزا تقززٌ شديدٌ جلدي كله
وأردت فقط أن أغادر سريعًا
أن أغادر قبل أن أختنق أو أغص
أردت أن أبتعد عن أمي.
عن المنزل الذي تحلق في سمائه لعنات كثيرة
إخوة طيبون وعالقون في دوائرهم
قلت: لن يخرجوا منها
وأنا لا أحتاج سوى أن أفر بعيدًا عن ذلك.
لكن اليوم وأنا أحاول التعامل مع فكرة أنني لن أعود حتى
سنوات طويلة
وأنا أقلب جواز سفري الذي يجب قريبًا أن أنسى أمره
وأنا أفكر غاضبة بالاسم الجديد الذي أود أن أختاره
لنفسي.
أدركت شيئًا وكان مثل سهم مشتعل ينغرس في قلبي
مثل نور التَمَع على سيف بارد فوق رقبتي
أدركت أن والدي فر مثلي غاضبًا ذات يوم
وبفراره انتقلت اللعنة من جيل إلى جيل
أدركت وإحساس بالخديعة غمر جسدي كله
أنني بطريقة ما أقوم بالشيء نفسه.
Finding the elephant، نانت، 6-10 يناير 2023
أمشي من وقت إلى آخر إلى مقهى La Trainquette في نانت، حيث أواعد نفسي هناك وأقضي وقتًا طيبًا، وغالبًا أكتب قصائد على نفس الطاولة القريبة من الزاوية. لكن اليوم ذهبت باكرًا جدًا، كانت الكراسي ما تزال مرصوفة فوق الطاولات، لذلك أجلسوني على طاولة بالقرب من الباب، حيث شحنة من هواء بارد تصفعني كلما فتحه أحد.
أبديت انزعاجًا واضحًا في البدء، غير أني مع الوقت اعتدته، وبدأت أتذكر قصة الضفدع الذي اعتاد الارتفاع التدريجي لحرارة الماء في قدر المختبر، فتكيف حتى مات من درجة الغليان. قفزة واحدة كانت كفيلة بتغيير كل شيء.
لكن اليوم لم أرغب في القيام بهذه القفزة. بقيت قرب الباب وفضلت التكيف على صفعات الهواء، مثلما فضلت التكيف الأيام الماضية على غرفتي في الكادا، بورق حائطها الأخضر أو الرمادي المائل إلى البشاعة. أيد ٍ كثيرة طبعت عليه آثار القلق والانتظار.
أحيانًا كنت أضع يدي على الحائط، على هذا الأثر الواضح لمرارة الأيدي، وأصافح يدًا كانت هنا، أو ربما ما زالت.
في يومي الثاني في نانت، قابلت في البار رجلًا يدعى غزافي، ورأيت أنه يشبه هذه المدينة تمامًا، غامض وصامت، غير أن عينيه البندقيتين تومضان بالكثير من الشغب. اقترح أن أطلب الموخيتو عوضًا عن البيرة، وابتسمت دون أن أخبره بأنها شرابي المفضل. وبعد ساعات من الضحك معه، عدت إلى النزل وشعرت أني سقطت في حفرة ما. هل أصبحت هذه حياتي الآن؟ رغبت فقط في الخروج مرة أخرى.
مع الوقت، بدأت هذه الغرفة تصبح صديقتي، ليس لأنها فقط تحميني من برد الخارج، بل من الرغبات السرية لمدينة مجنونة مثل نانت، خصوصًا عندما ترفع صوت رياحها في الليل، فأشعر أحيانًا بأن هناك أمواجًا ما قادمة، وصوت هذه الرياح ينبئ برغبة المدينة في الزحف حتى المحيط.
أحيانًا يقطع نحيب الرياح صوت ڤيڤيانا في الغرفة المجاورة، تنادي ابنها خوان بابلو، فأتمكن من أن أخرج رأسي من تحت البطانية مرة أخرى، وأشعر أني امتلكت تعاويذ إسبانية أواجه بها المدينة في الليل، وأن نانت عليها أن تنسحب الآن وتهدأ.
عجلات حقائب المهاجرين التي تُجَر طوال اليوم في الكادا تفهم هذا التداعي.
ليلة رأس السنة دعاني چوناثان إلى حفلة في منزل أصدقائه، كتبت على جروب في الفيسبوك أني وصلت إلى نانت توًا، فقال: «تعالي واحتفلي معنا». اشتريت نبتة زهرية وزجاجة شامبانيا ثم ذهبت لأحتفل مع أصدقاء مؤجلين لم أرهم من قبل.
فتحت باب الشقة وأطللت إلى الخارج بفستان أسود قصير، ورأيت شابًا أسود نائمًا على السلم وحقيبته بجانبه. فزعت بادئ الأمر لكنني فكرت: ماذا لو فزع مني؟ صوت المفتاح في الباب جعله يستيقظ فزعًا. سألته: «أنت بخير؟»، قال: «أنتظر صديقي، إنه في الشقة المجاورة»، ثم سألني: «إلى أين تذهبين بهذه الورود؟»، قلت بجدية غير متوقعة: «سأقابل عشيقي»، فضحك بخجل واستغراب، وتوالت ضحكاته ورائي وأنا أنزل الدرج.
بعد العشاء سألني چونثان: «هل رأيت الفيل؟»، هززت رأسي بالنفي. فقال: «نو وي! يجب أن تري الفيل»، وشعرت بأن لديَّ الآن مهمة جديدة في نانت، إضافة إلى محاولة تجنب مضايقات السكارى في commerce. أو الذهاب إلى حفل صغير للاستماع إلى موسيقى الجاز الغجرية الفرنسية، في بار شيوعي يبيع بيرة رخيصة ولا يدفع لمن يعملون فيه.
قالوا لي إنهم متطوعون، ولم أجد معنى في أن يعمل الإنسان دون أن يحصل على أجر في المقابل. قالوا لي: «هذا لأجل المدينة»، وفكرت في أن هناك شخصًا ما يستحوذ في النهاية على كل الأموال.
لويس وشارلوت سألاني في الليل: «هل وصلت بأمان؟»، لا أتذكر متى كانت آخر مرة سألني شخص إن عدت سالمة إلى المنزل. لكن عازف الجاز اللطيف لويس وصديقته شارلوت اللذين قابلاني توًا أرادا أن يطمئنا. سألتني شارلوت مترقبة: «هل يعاملك الفرنسيون بشكل جيد؟»، قلت إنهم لطفاء للغاية فتنفست بارتياح شديد، وتبدد الخوف الظاهر على وجهها.
صوت ضحكات چونثان ترتفع في الأجواء، وابتسامة شارلوت اللطيفة وهي تسألني: «هل تريدين شرابًا؟»، أماني وليزا اللذين أخذاني لزيارة المتحف. كودا الذي ضحك معي مرات ومرات. والفيل الذي سأغادر غدًا دون أن أعثر عليه.
«آلانواچ، هل رأيت الفيل؟».
أستيقظ في الليل:
«ليس بعد
ليس بعد».
لكن لا تقلقي يا نانت، ولا ترسلي نحيبك ورائي، سأذهب غدًا لأطارد الضوء، لكني سأعود حتمًا لأعثر على الفيل. تشاو!