مقتطف من رواية شيرين سامي: السيدة الكبرى

فنان مجهول

شيرين سامي   By • 13 OCTOBER 2025

يمتزج التاريخ والخيال معًا في هذه الرواية العذبة التي تدور أحداثها في القرن الخامس الهجري، تكتب شيرين سامي عن الشاعرة اعتماد الرُّميكية، التي ضاعت من أهلها في صباها أثناء رحيلهم من مصر إلى الأندلس، فتعرضت للأسر، ثم هربت، لتتقاطع حياتها مع حياة شاعر جوَّال، خاضا معًا رحلة في الصحراء قادتها إلى مزيد من الضياع، ثم قابلت الأمير محمد بن عبَّاد، ابن ملك إشبيلية، لتنتهي اعتماد إلى مكانة غير متوقعة.

رواية السيدة الكبرى من إصدارات الكرمة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي أُحبس فيها في مكان. حُبِست في الحمَّام ثلاث مرات.
المرة الأولى عندما كنت طفلة في السادسة تطير في حواري الفسطاط مثل فراشة بلا مروج، تتلمس سعادتها بين بِرك الماء العطن والطين وروث الحيوانات. من قال إن السعادة لها حدود وملامح وألوان؟ كانت حياتي مجموعة من الروائح؛ عرق أبي، طواجن أمي، شجرة الجوافة أمام بيتنا، الغسيل المُزهر، الورق في الكتاب، الفطائر المحلاة بالسكر على ناصية شارعنا، زيت الزيتون من شعر صديقتي قمر، البالوظة التي يصنعها أبوها، القرنفل الذي تشربه أمها.
يومها سرت كالممسوسة وراء رائحة فطيرة السكر التي كانت تحملها عيشة بائعة الحلوى، وكانت عادة ما تعطيني لقمة ساخنة كلما رأتني. دخلت عيشة حمَّامًا للنساء، وعندما أوقفتني حارسة الباب، أشرت إلى عيشة وقلت إنني معها. لكنني بمجرد أن دخلت ذابت عيشة بين النساء. كن جميعهن بالمئزر يجلسن في صالة استقبال واسعة على بسطات من الخشب، وفي المنتصف حوض مياه من الرخام الناعم. يضحكن ويتحدثن بصوت عالٍ، وتنبعث منهن روائح الورد. وقفتُ بينهن فاغرة فاهي من دهشة أجسادهن شبه العارية، فلم أكن رأيت أمي أو أي امرأة بجسد عارٍ. هالتني الأثداء الضخمة البيضاء والأفخاذ التي تلمع مثل الرخام، والضحكات المجلجلة، حتى لمحت أم السعد جارتنا.
كنت الطفلة الوحيدة. شعرت بأن أم السعد هي من ستخبرهم بأن أمي ليست معي، وأنه سيُقبض عليَّ إذا عرفن أنني أتيت إلى هنا وحدي، وحدست أنني لو اختفيت في مكان سأكون في مأمن حتى ينفض الجمع أو تذهب أم السعد. دخلت سرداباً جانبياًّ أفضى إلى عدة غرف، فتحت واحدة، فصرخت امرأة، وكانت على الأرض امرأة أخرى تُعِد عجينة ما. فتحت غرفة أخرى ووجدتها فارغة فأغلقت بابها الخشبي وانتظرت خلفه. مر الوقت، وبدأ الإرهاق والجوع يتسربان إلى جسدي الصغير، فالغرفة لم تكن بها إلا بسطة أسمنتية ونافذة مرتفعة. لم أعِ أنني سجنت نفسي إلا عندما حاولت فتح الباب فلم ينفتح، كنت أظن أنني أنا المتحكمة في كل شيء.
أصبح الضوء المنعكس من النافذة مثل خيوط حرير رقيقة، وبدأت معدتي تصدر أصوات زقزقة الجوع. حاولت فتح الباب ولم يُفتح، دفعته بيدَي، ثم بجسدي. وقفت في آخر الغرفة الصغيرة وجريت باندفاع تجاه الباب، ولم تفلح كل المحاولات. لجأت إلى الحل الأخير؛ صرخت وبكيت. من شدة الزحام وجلبة الأحاديث والضحك لم يسمعني أحد، حتى نمت. رأيت نفسي أمسك خيوط النور، تشدني إلى الخارج وأحشر نفسي في النافذة الضيقة، ثم أسقط على أرض رطبة، جريت بثوبي المتسخ وراء خيوط النور حتى وجدت بيتي، فاختفت الخيوط وأصبحت أمام نافذة غرفتي المواربة، دفعتها ودخلت من بين قضبانها ونمت في فراشي بثوبي المتسخ. ثوبي هو من فضح مغامرتي وجعل أمي تعاقبني بالحبس في البيت أسابيع طويلة.
في المرة الثانية كنت في الحادية عشرة، الصقيع يلف كل ركن في مدينتنا، وأنا عائدة من السوق مع أمي نحمل صناديق من الخضر والفاكهة وأشولة من الدقيق والأرز في عربة خشبية متهالكة يجرها حصان عجوز. الأرض زلقة، والحصان يسير ببطء. لاحظت صبيًّا صغيرًا يرتدي جلبابًا نظيفًا من الكتان، ينادي بصوت عالٍ ليعلن عن دعوة عامة بمناسبة يوم عاشوراء، لحضور مجلس شعر يشارك فيه الشاعر بهاء الدين بن الوليد الدمشقي في منتزه النخيل. شعرت بقلبي يرتعش في صدري وبفورة دماء في رأسي.
ألم يكن هذا هو الشاعر الذي انتشرت دواوينه في الفسطاط قبل شهور وتردد اسمه كنوبات الفرح؟! رأيت أنني يجب أن أحضر مهما كلفني الأمر، على الرغم من معرفتي بأن هذه المناسبات للرجال والصبيان فقط، يتطارحون فيها الأشعار. أكد الصبي هذه المعلومة ضاحكًا عندما رآني وأنا أنظر إليه بِكُلي، بينما أمي تقرصني في خاصرتي في هذه اللحظة، وتهمس إليَّ من تحت برقع أخفى نصف وجهها:
– عينك يا قليلة الحيا.
لكنني كنت أعرف في داخلي أنني لست قليلة الحياء، وأنني سأجد طريقة لأكون بين الحضور. لم أكن وقتها أعرف شيئًا عن الشعر أكثر من أنه كلمات متراصة بسجع، يشبه الأغاني لكنه أهم. أول ما خطر في بالي أن أستعين بقمر صديقتي الأقرب لتأتي معي، لكنني تراجعت لأن بيت قمر ما زال في حداد بعد موت الأب. أخذت أيامًا لأقرر أن أستعير جلباب أخي حُسين وطاقيته وأحضر. سرقت ثيابه من حبل الغسيل عندما وكلت إليَّ أمي أن ألُم وأطبق الغسيل في هذا اليوم. أخفيتها في صندوق ثيابي تحت جلابيبي وفساتيني الملونة. وكنت أنظر إلى طرف جلبابه الرمادي بسعادة كل حين فأشعر بأنه قطعة من الجنة؛ من حريتي. حتى أتى اليوم الذي انتظرته. وأيقنت الفائدة الوحيدة من أن جسدي ممسوح ولم يستدر مثل أجساد قريناتي. جعل هذا مظهري في الجلباب لا يختلف كثيرًا عن مظهر حسين، وشعري الذي لففته على رأسي حتى لا يظهر من تطابقه مع طاقية أخي. اطمأننت وأنا أنظر إلى نفسي نظرة أخيرة في انعكاسي على سطل الماء في الحمَّام، ثم وقفت على صندوق الغسيل، وفتحت النافذة وقفزت. رأيت أبي يقترب من عتبة البيت، فتسمرت وراء شجرة الجوافة القريبة. وبعد أن اطمأننت لدخوله فررت من حارة إلى حارة وأنا أنظر خلفي كل حين، حتى وصلت إلى منتزه النخيل. رأيت رجالًا يقفون في حلقات كثيرة، أصواتهم عالية ومناقشاتهم محتدمة. لم يكونوا يتحدثون عن الشعر، بل عن الحاكم والعسكر والسوق والمال، أحاديث طويلة وملضومة ببعضها تمامًا مثل أحاديث النساء التي اعتدت سماعها.
وقفت في طرف بعيد خوفًا من أن ينكشف أمري، ومن مكاني لمحت أصدقاء لأخي، أعرف منهم إبراهيم جارنا، وجَّه نظره تجاهي في اللحظة التي مر فيها بيننا رجال وسادت حركة من الهرج، فلم يتعرف إليَّ. وقف بجواري بعض الصبيان فشعرت بالحرج، لكن من اللحظة التي بدأ فيها بهاء الدين إلقاء الشعر، ذابت كل مخاوفي.

ملكة أندلسية (فنان مجهول).

أزعم أنني لم أفهم أغلب الذي قيل في هذا اليوم. فهمت الحكايات التي كان يرويها بهاء الدين، وبعضًا من أشعاره عن الحياة والموت والفضول والحب. لم أفهم كثيرًا من أشعار باقي الشعراء، لكنني فهمت من طريقة إلقائهم ما تقوله أفواههم. تحرك شيء فيَّ، وشعرت بأن لا أرض تحتي، وبأنني أقف على أصابع قدمَي وأنزلق في الساحة بين الطاولات، وبأن روحي متقدة، وأنني خيالية، ومسافرة، وبعيدة. ذقت حلاوة على لساني ومرارة في حلقي، وبكيت بلا دموع، وضحكت من دون أن أبلل نفسي. شعرت بأن السماء ملكي، وأنني ملك لهذا المكان. غالبني شعور بالضياع، لكنني كنت أعرف أنني أنتمي إلى هذا الشيء الذي حركني.
انتظرت تدافعُ الرجال تجاه باب المنتزه، ثم خرجت وحدي ناظرة إلى الأرض، سارحة في العالم الذي أغواني. لم أنتبه لخصلة من شعري خرجت من الطاقية، ولم أنتبه لإبراهيم وهو يقف أمامي يتفحصني مع أصدقائه. إلى أن سمعتهم يقولون:
– بنت! كانت معنا بنت!
أفقت ونظرت إلى إبراهيم الذي بدا صامتًا، فشعرت بأنه لن يشي بي، يحاول أن يسكت أصدقاءه لكن من دون فائدة، فقد انتشر الخبر مثل رائحة بخور المساجد، ووصل إلى بيت أهلي قبل أن أصل أنا. سرت وخلفي زفة الصبيان، أركض لأتجنبهم فيلاحقوني، حتى صرخ فيهم إبراهيم وجذب انتباههم، فاستطعت أن أغافلهم وأهرب.
في البيت، نهرني أبي وكادت عيناه تخرجان من وجهه من التبريق الغاضب، ثم حبسني ليلة كاملة في حمَّام النساء بالبيت. أجلس على البساط البارد، وتلفني رائحة الورد المنبعثة من عطر أمي، ورائحة الصابون البلدي. أجرب المسطبة فأجدها أشد بردًا من البساط، أفكر فيما سمعته ورأيته فأشعر بالدفء. أرى في خيالي عالمًا شبحيًّا أستطيع أن أفهم فيه كيف أعبر عن الأشياء وأصل
إلى ذروة الإحساس وأكتب كلامًا أجمل من كلام البهاء. أما في المرة الثالثة التي حُبِست فيها فكنت أنا من حبست نفسي.
لم يكن استمراري في الدراسة حتى سن الرابعة عشرة سهلًا، أقنعَت أمي أبي بأنني سأحضر الدروس مع بنات خالتي بثمن زهيد، وأن المعلم شيخ كبير ضعيف البصر فلا خوف علينا. يعلمنا الحساب واللغة، ويحكي لنا التاريخ. لم تعجبني أيٌّ من هذه العلوم، لكنني أصررت على التعلم حتى لا أصبح مثل بنات عماتي وتحمِّلني أمي الأعباء المنزلية كاملة. اقتصرت مشاركتي على تنظيف الجرن والحوش والمطبخ كل مساء، وبحجة التعليم أصبح لديَّ وقت للتأمل وفرصة للخروج وحدي.
في هذا اليوم كنت على موعد مع إبراهيم وأخته زينب في منتزه النخيل لقراءة الشعر. دبرت أمر الفرار من الدروس بالاتفاق مع بنات خالتي من دون علم أهلي، ووصلت بعد مسيرة حيَّين، مررت في أثنائها بين الأُصص المزروعة والنوافير الرخامية. كنت سعيدة بكل لحظة لفتني فيها تفاصيل الطريق والطبيعة الخلابة والمقفرة معًا. سعيدة ببِرك الماء القذر، بأشكال وألوان الزهور،
بالنحل والفراشات، برسم السحاب وحركته الخفيفة في السماء، بنور الشمس والظل الذي يصنعه، بكل تفصيلة تتشكل في ذهني كمعنى لوجودي، كشبيهة لروحي، كبيت شِعر لم أكتبه بعد. اخترنا منتزه النخيل حتى نختفي بين الأوتاد الشاهقة، وكنت قد تأخرت عليهما بقصد لأنني أحب الوقت الذي أمضيه وحدي، أمشي في الدروب وأشعر بالانعتاق من كل ما يتحكم في حياتي، ولأنني لسبب غير مفهوم كنت أهاب مقابلة إبراهيم. عندما التقينا تحلقنا فوق العشب الندي وغطتنا شمس الشتاء بلطف. بدأ إبراهيم يلقي الشعر من رقعة مهترئة في يده، أسمعه كالمجذوبة وأتفاعل مع كلماته بالإيماء أو التنهيد، أحيانًا أغمض عينَي، وأحاول أن أرى المعنى في خيالي. يتوقف فألاحظ تململ زينب في مكانها. يأتي دوري فأخرج من جيب ثوبي لفافة مجعَّدة، أقرأ فيها ما كتبته.
لم يكن شِعرًا، بل كلمات متراصة لا معنى لها، كتابتها تشعرني بالعظمة، لكن إلقاءها يشعرني بالتفاهة.
في طريق العودة تركتنا زينب بحجة أنها تريد أن تزور صديقة لها، وجدت نفسي أسير بجوار إبراهيم، ضربات قلبي ترتفع وأنفاسي تتلاحق، ظننت وقتها أنني أحبه، على الرغم من أنه لم يخطر في بالي ولا زار أحلامي. أدرك الآن أنه ربما سبب انفعالي هو خوفي من هذا الشبح الذي صورته لي أمي، شبح الأولاد الذين يغوون البنات لأفعال تتسبب في الفضيحة والجرسة، أو أنني كنت خائفة من الحب، ومن لحظة تحوُّل الشِّعر إلى حقيقة. تركزت مشاعري في قلبي فأصبحت أسمع دقاته أعلى من صوت خطواتي. سرنا صامتين مسافة ليست قصيرة، حتى توقفت وكاد قلبي يتوقف عندما لمحت أبي في الطريق.

شيرين سامي

شيرين سامي

شيرين سامي، كاتبة مصرية، خريجة كلية الصيدلة بجامعة القاهرة. صدرت لها مجموعة قصصية وأربع روايات، وهي: «قيد الفراشة» و«حنة»، و«من ذاق عرف»، و«الحجرات» ورواية للنشء «ابتسم لأكون أقوى» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة اتصالات لكتاب الطفل عن فئة اليافعين، وكتاب «154طريقة لقول أفتقدك».

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

Learn more

مواضيع مشابهة

Arabic

مقتطف من رواية شيرين سامي: السيدة الكبرى

13 OCTOBER 2025 • By شيرين سامي
مقتطف من رواية شيرين سامي: السيدة الكبرى

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

eleven − four =

Scroll to Top