في ما يشبه السيرة، يكتب عمر طاهر عن المقاهي والأغاني، والعائلة والأحباب. بلغته السلسة وصوره الواقعية، ونصوصه المشبعة بروح مصرية أصيلة، يُعد عمر طاهر من أهم الكتاب المصريين المعاصرين.

أعود إلى الحياة كل صباح في موعد ثابت، قبل السادسة بدقائق تستقر روحي الشاردة في غرفة نومي محملة بما استكشفته خلال جولتها الليلية، أسترجع معها ما مررنا به على هامش انتظار فوران القهوة، تجمعنا دردشة سريعة حول ترجمة الرسائل التي تلقيناها خلال الرحلة العجيبة، ونبذل أقصى ما في وسعنا لاستكشاف بشرى ما خبأتها الأحداث. في الطريق إلى وسط المدينة توقفت عند عربة فول اكتشفتها مؤخرًا تختبئ في إحدى حارات منطقة التوفيقية، قادتني إليها الصدفة، وأغرتني طاولة العيش البلدي الطازج بتجربتها، فصارت فقرة ثابتة كل يوم.
جلست على أحد مقاهي السيدة زينب في انتظار موعد على هامش العمل في الجزء الجديد من كتاب «صنايعية مصر»، كان براد الشاي مضبوطًا، وكان صوت المنشاوي يفتح مسارات جديدة للأمل وهو يتلو «الله نور السماوات والأرض».
أخطط للكتابة عن الملحن أحمد منيب، إعجابي بتجربة الرجل الفريدة جعلني أقرر ضمه للكتاب الجديد، اقترح ابنه خالد أن يجمعنا بيت العائلة، مقر عمل والده القديم، أعجبتني الفكرة، جلست في انتظار أن يقترب الموعد فأبدأ البحث عن العنوان، فوجئت بوصول خالد بأن المقهى أسفل البيت مباشرة.
سحرتني فكرة أن أجلس في الغرفة التي خرجت منها أغنيات تتشابك مع تاريخي الشخصي بطريقة مربكة، أجلس على الكنبة أتأمل سحر النافذة الضيقة التي جلس إلى جوارها أحمد منيب، أمامه الشاي بحليب وعلبة دخانه، يصوغ موسيقى لوعة عبد الرحيم منصور وهو يشكو من أنهم «لفوا بينا قالوا لينا ع المدينة.. لما جينا التقينا كل شيء فيها ناسينا»، الأغنية التي تلخص قصة حياتي تقريبًا، الشاب الذي ودع مراهقته ومنزل أهله في اللحظة نفسها باتجاه العاصمة المدينة، التي كان يعتقد أنها تخبئ خطط تنفيذ أحلامه، لتتوالى الأحداث والمقالب واللوعات.
أجلس في الغرفة التي فُتحت فيها قارورة السحر لتخرج الأغنية الأعظم في التاريخ، «شبابيك.. الدنيا كلها شبابيك»، الأغنية التي تفصح لي كل خمسة أعوام عن سر جديد تخبئه، أخطو في الحياة وأنا أومن أنني سرقت عمري من أحزاني، سرقة مشروعة تعينني على مواصلة الطريق، ومثل كثيرين في هذا البلد «طرحت جنايني في الربيع الصبر»، الصبر الذي أصبح عندي هواية كما قال صلاح جاهين، الأغنية التي شرحت لي نفسي كشخص خجول ممتن لتجربة الحياة، يود لو أنه يقضي حياته يحب بس يكون حناني ورا الشبابيك.
طالت جلستي مع أبناء أحمد منيب نقلب بين أوراقه وصوره وذكريات كل الكبار الذين مروا من هذه الغرفة الضيقة، كان منيب حاضرًا، يطل بابتسامة وقور آسرة عبر صورة له بالعقال الخليجي، قالوا إنها التُقطت له عندما عمل في بداية السبعينيات في أحد فنادق السعودية.
حصَّلت من المادة ما شعرت بأنه يكفي لكتابة شيء جديد عليه القيمة، عن رجل اخترع لنفسه طريقًا وطريقة، عائدًا إلى البيت كانت تطاردني ابتسامته وصوته يغني: «رحلة يا رحلة.. يا صعبة يا سهلة».
شعرت بالامتنان لآلة الزمن التي دفعت بي إلى قلب هذه الغرفة الصغيرة لساعتين، تمنيت لو أن الفرصة تتكرر، وسألت نفسي أين أود أن تتركني آلة الزمن هذه المرة؟
2
لم تمر في بالي سنة بعينها، فكرت في عائلتي. لكل عائلة فترة عز، صادف أن كانت فترة عز عائلتي في الثمانينيات، العائلة كما تحكيها الروايات العالمية، وددت أن تتركني آلة الزمن هناك قليلًا.
الأسرة في أحلى أيامها متماسكة سعيدة متجاورة، الصورة كاملة بين أبنائها، وزير ينزل البلد كل مرة بموكب واحتفالية، وأعضاء برلمان لا تنقطع الوفود عن منادرهم، وكبار في العاصمة نزورها على حسهم، وآخرون في مدن الخليج يغرقوننا بالهدايا، الأفراح
لا تنقطع، لا تعرف متى يبدأ الاحتفال، قبلها بأسبوع الجميع مشغول بالليلة الكبيرة، ويُجرون بروفة لها كل ليلة، جناين الفاكهة تصب إنتاجها في كل البيوت، تقارن سيداتها كل ليلة بين مانجو كل جنينة وهي تقطعها للأحفاد، سيارات فارهة وأخرى أنتيكة، وجرارات زراعية نتعلم عليها أول دروس القيادة، وسباقات للدراجات تنتهي كل ليلة بمصاب جديد، نواسيه بالإقامة في غرفته، نأكل ونشرب وندخن خلسة حتى يشفى، سهرات لا تنقطع ولمَّة في الفاضي والمليان، السفر للمصيف بالدور حتى لا تُترك قاعات العائلة ومنادرها فارغة، دروس لا تتوقف، المودة والعطف، الاحترام وتوقير الكبير، كيف تحافظ على كرامة الآخرين، الطريقة التي تتعرف بها على حدودك والمسافات التي يجب المحافظة عليها، كيف يكون الأدب مع الجيران وأساتذة المدرسة والضيوف، آخر صف من الجدود والجدات، كائنات تحنو بلا هدف، وتغضب بلا سبب مقنع، وتخاف عليك من نفسك التي يجيدون قراءتها أفضل من الأب والأم، الأسرار التي يعرفونها ويديرون بها المسائل كلها، والنظرة التي يحسمون بها الشطط، والكلمة التي لا تقبل المراجعة، والأحكام التي لا مجال للتحايل عليها.
هيبة وقفة العزاء، والحزن الذي يلف بلدة بأكملها، وأيام ثلاثة لا يتوقف فيها المقرئون، وموائد الطعام المفتوحة للمعزين القادمين من بلاد بعيدة، إفطار رمضان وجلسات ترتيب مسؤوليات البيوت عن إفطار المندرة، كل بيت له أيامه، وكل عائلة تعيد توزيع المهام على الصغار قبل الكبار، ثلاثون يومًا تتنافس فيه البيوت لتدليل رجال العائلة، ويتنافس رجال العائلة في الاتفاق مع أغلى
المقرئين والمداحين، ويتنافس الأطفال في خطف البهجة بين الصواني التي تتحرك جيئة وذهابًا من المغرب إلى السحور.
العائلة في حضور متوهج يجعل لكل شيء طعمًا، سهرات مشاهدة المسرحيات والأفلام الهندية، انقطاع الكهرباء بالساعات ليلًا، وما يترتب عليه من أمسيات تعج بالضحك والحكايات والونس العجيب، خرطوم المياه الذي أتنافس أنا وأبناء العمومة على سحبه عصر كل يوم للرش أمام البيت، والمندرة لتلطيف الأجواء، المشاوير التي يرسلك فيها الكبار لتعود بالتموين أو السجائر أو العلاج أو الكيف، الأموال التي تجمعها طوال الوقت من الكبار لأسباب لا تنتهي، النجاح، العيد، الشطارة، المطابخ العامرة، الخطط التي ترتبها مع الخال أو العم الأصغر لسرقة النملية التي تخبئ فيها الجدة أو العمة مناب الغائبين عن سفرة الغداء، قصص الحب العابرة الصامتة، صور عارية تلف بين الصغار خلسة، أغانٍ جديدة حلوة تظهر كل فترة، حميد الشاعري يزور المدينة، ابن العم يهاديك بميادة تغني «الحب اللي كان»، أصدقاء في كل مكان، ومحبة تنتظرك في كل بيت، أمهات يدللونك، وآباء
يطاردون فيك رجولة مبكرة، أحزان حولك لا تفهمها، لكنك تتعاطف معها، وضحك صافٍ يحرر روحك، طمأنينة تفوق حاجتك، ونوم عميق لم يحدث بعده ما يشبهه أبدًا.
3
كانت المسقعة حاضرة على مائدة الغداء، تلتها القيلولة المقدسة، ساعة النوم التي تمنح اليوم بهجة، بداية جديدة يمكن الاحتفال بها في حضرة براد شاي العروسة.
ساعة العمل الليلية مخصصة لتدوين ما دار على هامش جلسة اليوم، ورسم ملامح خطة الكتابة عن منيب. هاتفت أمي وأبي، المكالمة اليومية التي اتفقنا دون سابق ترتيب على أن تكون بعد التاسعة، نتبادل الاطمئنان على بعضنا، وملخص أحداث اليوم، وحوارات عشوائية تبدأ ب «اتغديتوا إيه النهارده؟»، وتنتهي بفقرة الدعاء التي تبتكر فيها أمي أمنيات تجعلها مطالبة بالتفسير: ربنا ما يخليهوملك من إيد، يرزقك الصحة والرضا ويجعلك الوارث منهم، تمشي قدامي وتوصلني.
بعد نوم الطفلتين يحين موعد براد الشاي الثاني في رفقة عاليا.
4
بخلاف خمسة عشر عامًا في منزل واحد، وطفلتين، وأكثر من 4720 براد شاي، وثلاث كنبات، ولسوعة شمس طريق الصعيد، تجمعني بزوجتي المسلسلات القديمة، قضينا ليالي طويلة نتابع الإعادات بالشغف نفسه، ما يقرب من خمس عشرة إعادة لمسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»، ثلاث إعادات لمسلسل «رأفت الهجان»، سبع إعادات «ليالي الحلمية»، أربع إعادات «الشهد
والدموع»، ومرات لا أثق في صحة عددها لإعادة «دموع في عيون وقحة» و«ضمير أبلة حكمت» و«حديث الصباح والمساء»، تتسلل حوارات الأبطال وجملهم الخالدة إلى حواراتنا اليومية بسهولة، نجد فيها ما لا يسعفنا به التعبير عن أنفسنا أحيانًا، تصارحنا ذات ليلة بالأغنية التي تذكِّر كل واحد فينا بالآخر، ذكرتْ أغنيتها، وعندما جاء دوري قلت لها تتر مسلسل «عمر بن عبد العزيز» وغنيت لها «الراشد العمري.. على الطغاة قوي…»، كانت لحظة مؤثرة.
مررت بتجربة زواج لم تعرف النجاح، لم أحسم أمري بعدها، هل أكرر المحاولة أم من تمام العقل أن أحمد ربنا على النجاة، وأعبر الكوكب خفيفًا بطولي. في فترة قصيرة فاتحني أصدقاء لا رابط بينهم سوى كارنيه نقابة الصحفيين في ترشيح فتاة يرونها مناسبة لي، اتفق الثلاثة دون سابق ترتيب أو معرفة على اسم «عاليا». أدهشتني المفارقة ولفتت نظري، لكن لم تكن هناك مساحة مشتركة تجمعني بصاحبة الاسم تسمح لي باستكشاف ما وراء الترشيح، حتى طُلب مني أن أكتب صفحة أسبوعية لإحدى الصحف التي تشغل عاليا منصب مديرها الفني المسؤول عن تصميم ورسم صفحاتها.
ظهرت الصفحة، وتراصت بين السطور رسومات كاريكاتير لصديق أحبه، اتصل بي يسألني عن رأيي في الصفحة، قلت له: زي الخرا. فتفضل مشكورًا بنقل رأيي حرفيًّا إلى المدير الفني.
يقدم زملاء كثيرون كتاباتهم مصحوبة بالكاريكاتير، كنت أرتاح للفوتوغرافيا وأراها تشبه ما أكتبه وتعبر عنه بطريقة أفضل. تشجعت وقررت أن أنقل وجهة نظري للمدير الفني لتغيير طريقة تصميم الصفحة. كان اللقاء جافًّا، قيل لي فيما معناه اتفضل شوف شغلك وسيبنا نشوف شغلنا.
يدللني رؤساء التحرير والرسامون والزملاء، ويتسابقون في إبداء المحبة والتعبير عن الرغبة في عمل مشترك، واليوم أقابَل بصيغة لم تمر عليَّ منذ احترفت الكتابة.
خرجت من مكتبها أفكر في الأصدقاء الذين رشحوا لي آخر واحدة تصلح كرفيقة طريق، شكوت ما حدث لأحد الأصدقاء، فقال لي ما نقله عني الصديق الرسام للمدير الفني بمصداقية فجَّة، قلت لنفسي عندها حق.
كنت أفكر في طريقة للاعتذار بأقل نسبة مخاطرة، سبقتني واتصلت بي قائلة إنها تدعوني لفنجان قهوة لمناقشة الطريقة التي أقترحها لتصميم الصفحة، كان واضحًا أنها تجتهد لتبديد الذعر الذي اختبرته في مكتبها مع الحفاظ على المقامات والمسافات.
كانت المقابلة بداية خيط، في نهايته أرسلت لها في الثانية صباحًا رسالة على هاتفها تقول: «عارف إنها بايخة إن الواحد يعرض على واحدة الجواز في رسالة بربع جنيه، بس يعني بحاول أقلل حجم خسارة الرفض. ملحوظة: ربع جنيه الرسالة مالوش علاقة بربع جنيه المهر».
في أول خروجة، جلسنا في أحد مطاعم المعادي الهادئة، كان الصمت مسيطرًا على جلستنا، حتى بادرتها قائلًا:
– معلش الكلام تايه مني.
فابتسمت خجلًا.
– حاسس إني متلخبط شوية.
قالت:
– لا مفيش لخبطة ولا حاجة، الأمور بسيطة.
– لأ حاسس إني دايخ وبطني مقلوبة، ممكن تيجي معايا أقيس الضغط؟
في الصيدلية المجاورة للمطعم وعندما رأت الرقم الذي ظهر على جهاز قياس ضغط الدم، عرفت أنها لم تكن
أعراض كركبة رومانسية، لكنها أقرب لذبحة صدرية.
اتصلت بقريبة لها فقالت إنها ستنتظرنا في أحد المستشفيات القريبة، نقلتني بسيارتها إلى هناك، اقترح الطبيب المناوب
الذهاب إلى غرفة الطوارئ.
مع المحاليل والعلاجات، وعلى هامش الرقدة في فراش الطوارئ، وبعد تحسن اختلط بأثر الحقن المهدئة، قلت لها كل ما كنت أخطط لمصارحتها به في المطعم.
5
كنت أتنقل بالريموت عبر فيديوهات يوتيوب، وفوجئنا بنسخة عالية الجودة لفيلم «يوم مالوش لزمة»، طلبت عاليا أن نشاهده، لا أحب مشاهدة أفلام كتبتها أو قراءة كتب نشرتها، سأعثر على أخطاء، أعرف نقاط ضعف ما أنجزته، ويزعجني أنني أعرف الطريقة التي كان يمكنني أن أقدم بها نسخة أفضل، يحضر الناقد الذي يعيش معي ويقدم نفسه بطريقة لا أتمناها لأحد.
لكنني استسلمت، كنت أضحك لضحكات زوجتي، أزعجني قليلًا أن آخر فيلم كتبته خرج للنور قبل تسع سنوات، أصابتني بعدها لعنة ما قطعت الطريق بنجاح على كل مشروع بدأته خلال هذه الفترة بما فيها فيلم بدأ تصويره بالفعل قبل أربع سنوات ولم ينتهِ حتى يومنا.
أفكر في الجانب المشرق للموضوع، أصبح لديَّ وقت لإنجاز أعمال أخرى، ستكتب أفلامًا كثيرة جيدة، لكن لا أحد سينجز مشروعًا مثل «صنايعية مصر»، كانت لديَّ فرصة لكتابة رواية دخلت القائمة القصيرة لجائزة تحمل اسم بابا الشغلانة نجيب محفوظ، أما الأموال فقد سُمح لها أن تتدفق عبر العرابين، أقدم الفكرة والمعالجة، تتم الموافقة عليهما، أحصل على نسبة معقولة من الأجر، ثم يتوقف المشروع، تتكرر القصة كل ثلاثة أشهر تقريبًا، أمازح زوجتي قائلًا البيت مفتوح بفلوس حرام، تضحك
قائلة: عملت اللي عليك.
بنهاية الفيلم تبادلت أنا والزوجة خططنا لليوم التالي، ثم ودعتها على باب قطار النوم الذي تحرك بي سريعًا.
حلمت بنفسي أمر في ميدان التحرير المزدحم برجل ستيني أنيق، يقف فوق رصيف عالٍ، ويعزف على الكمان لحنًا يغرق في شجن مألوف، كان المارة يتجاهلونه بطريقة أزعجتني، فقطعت الطريق ووقفت إلى جواره مبديًا اهتمامًا قد يمنحه بعض الثقة، توقف عن العزف وقفز سريعًا ودفعني أمامه قائلًا: مش هينفع تقف، إنت لازم تمشي. كانت الطريقة التي دفعني بها غليظة حتى إنها أيقظتني، اعتدلت في فراشي وكان الألم في ظهري لا يُطاق.
