قصة قصيرة لكريم محسن: الخنزرة الجميلة

7 July, 2025
ضياء عزاوي، «مجنون ليلى»، أكريليك على قماش، ١٦١×٢٠١ سم، ١٩٩٥ (بإذن من ضياء عزاوي).
في رحلة العودة من الزمالك إلى مصر الجديدة، يختبر الشاب خنزرته الجميلة في أقوى صورها، متشتتًا بين الاستماع إلى سائق التاكسي البكَّاء وبين موعده الذي انتهي نهاية محبطة.

 

كريم محسن

-1-

ركبت التاكسي بجواره، ومَن في الشارع سيرى نانسي عجرم في بداية الألفينات، بأبعاد غير متناسقة، تَجلس بجانب سائق في منتصف ثلاثينياته، دَعَكه الزمن.
من وسط البلد لمصر الجديدة بعد منتصف الليل. بكام يا ريس؟ 120 جنيه. قال، فرفضت، تظاهرت بأنني خلاص، سأتركه وأبحث عن غيره، حركت جسدي في مبالغة مع ميل بسيط للأمام، لكنني ظللت واقفًا في مكاني؛ فقط دُرتُ وغيرتُ وجهتي. فشرأب السائق رأسه من الشباك، بعد أن رأيت عنقه وهي تسلك طريقها نحوي وجسده ما زال عند مقعد القيادة. رقبة طويلة ونحيلة تضرب فيها عروق زرقاء، مُثبت فوقها رأسٌ ملامحه حادة وعظامه بارزة، يغطيه شعر أسود قصير ولامع، يقف في المنتصف ومثبت بالچيل، وذقن حليقة يلمع جلدها بقطرات عرق وخدشات بسيطة من موس حلاقة فَلَتَ من مساره. نظرته دامعة، كأنه لا يحتمل كل شيء في الحياة، حتى الفِصالُ في الأُجرة. لن يغضب، لكن إذا أطلت معه الكلام، سيبكي.
اركب يا ريس، قال بصوت مخنوق، فركبت، رَفع الزجاج فصرت ناسي عجرم، شغل التكييف فابتسمت ولم أصدق نفسي. أغسطس حار وبشع، نعم، الرطوبة تجعلنا نقطر العرق من كل مساماتنا، صحيح، لكن سائق تاكسي في القاهرة يُشغل التكييف؟
تحت وطأة كرمه وبرودة تكييفه نسيت نفسي وسرحت في الشوارع، وضعت الـ«فري بادز» في أذني وتركت سبوتيفاي يقودني بخوارزيمته، اخترت أغنية في البداية لأحدد له بداية الطريق وحدود نهايته، وتركت للتطبيق حرية قيادة مزاجي.
رأيت شفتيه تتحركان، فكرت في تجاهله مبدأيا، كنت أشعر بلساني ثقيلًا وكل ما أريده هو السرحان ببلاهة في الطرق والإعلانات حتى أصل للبيت وأنام، متجاهلًا ما حدث اليوم. لكني لاحظت طبقة دامعة تتشكل مجددًا في عينيه وهو يتكلم، فوَقفت الأغنية.
– نطلع كوبري أكتوبر ولا تحب طريق تاني؟
حرك يده اليمنى على جبهته كمسّاحة، ليكشط ما تبقى من عرق ما قبل التكييف.
– الأسهل والأسرع.
قُلتها وأنا أنظر للموبايل.
كنت لا أعرف أي الطرق أفضل، أتحرك في الشوارع طوال الوقت مع خرائط جوجل ولا أعرف عن جغرافيا المدينة التي وُلدت فيها شيئًا، ذاكرة محدودة والحركة كلها تحدث افتراضيًا، عندما أكون سهمًا في الموبايل، تنعكس حركتي من الشاشة لتتجسد واقعًا على الطريق. انتظرت دقائق ثم رأيت الطريق للمنزل كاملًا على جوجل، أغلقت الموبايل ونظرت أمامي بحماس، وبعدها بلحظات قُلت له بلغة العارفين القَارحين:
– هنطلع كوبري أكتوبر وننزل صلاح سالم، وندخل يمين من عند سور الكلية الحربية.
رفع حاجبه الأيمن قليلًا، علقه فوق، ثم ابتسم ابتسامة من فُقعت بضانه توًا وقال:
– تمام يا ريس.
شعرتُ بحرج يحرق روحي، فقررت مداواة التهابات الصمت بالكلام، بدأ لساني الثقيل يتمرمغ في لعابه ويستجمع الحروف من زوايا جوفي، لينطق ويقول. سألته لماذا يلصق صورة المغنية اللبنانية على زجاج الشباك الأيمن. لم يرد، أغلق التكييف بهدوء وفتح زجاج الشبابيك، فمن جديد عدتُ أنا.
وإذا أغلق سائق التاكسي تكييفه ليس لكَ أن تسأله ماذا تفعل، أنت تعلم أنه ليس حقك وكل ما فعله كان ربتة هادئة على الكتف وتحية تعارف عابرة. فكرتُ.
تيار الهواء الساخن يكوي وجهي. تألمتُ.
أنتَ لست في أوبر. قلتُ لنفسي.
يلسعني الهواء فتدمع عيني. وأنت قررت أنك لن تدفع إلا مائة جنيه، فتحمل. وبختني ولم أرحمني.

 

-2-

كنتُ في موعد مع لمياء. طاردنا بعضنا لأسابيع بين ستوريز إنستجرام، كنا نرسل لبعضنا الميمز والريلز، لنقول ما لا يمكن قوله، لكن يمكن الإيماءة إليه من خلال حركة الصور. حين وضعتني في قائمة الكلوز فريندز ورأيت ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، كنت أعلم أنها تسمح لي أن أقترب خطوة. فاقتربت. استمر الكلام لأسبوع متواصل، بعدما تركت لها تعليقًا على صورتها وهي ترتدي فستانًا حراقًا وقصيرًا. لم أعلق على فتحة صدرها، إنما سألتها من أين اشترت هذه اللوحة المعلقة على الحائط خلفها؟ وأشرتُ سريعًا إلى إعجابي برسمة تاتو التنين في طرف ساقها، الذي يلتف حول قصبتها، ويبخ نارًا خفيفة أسفل سمانتها، تَلسعُ عيني. يومٌ فالتالي، تكلمنا معظم الوقت وتحمس كل منا داخل دماغه. هيجانٌ من تحت الكلام، نيرانٌ من أسفل.
وبعد ثلاثة أسابيع، عندما علمتُ أنها تحب البيتزا الإيطالي، قررت أن أعزمها على توماس في الزمالك. وكان القبض الشهري على الأبواب. عندما رأيتها تأكدت أنني أجلس مع بنت أخرى غير التي تحمست لها لأسابيع في دماغي. كانت نفس الشخص بالطبع، لبوة وخبيثة وملامحها يشوبها قسوة ما، مثلما أحب، وتشبه معظم صورها تقريبًا، لكن بأبعاد مختلفة وروح ثانية، درجة لون مختلفة من الوجود، كأن خيالي كان يحاول تقريب صورها من ذوقي ليس أكثر، لكن الواقع كان محبطًا، لأنه واقع. كنت قد رأيتها على ضوء فلاتر إنستجرام وزوايا تصوير دقيقة وحركات جسد تعرف ما تفعله لتناسب اللقطة، والآن أراها على ضوء لمبة صفراء في توماس، تبتسم وشفتيها ملطختين بزيت الزيتون، ومن فمها تَنفس الدخان والسأم. ما كان يربطها بوضوح بشخصية إنستجرام هو التاتو، الذي ترتدي لها بنطلونات قصيرة، وتحلق له نصف شعر ساقها بانتظام حتى يظهر كجزء من هويتها البصرية.
نظرت لشارع 26 يوليو من زجاج المطعم وأخرجتُ الموبايل، تظاهرت أنني اتفقد الواتساب، وفتحت صورة لها كنت أستمنى عليها الأيام الماضية، وبدلًا من الحماس الذي انتظرته، تأكدت من عمق الاختلاف بين البنتين. كنت أعلم أنها تبادلني نفس الشعور، نجلس لا نعرف ماذا نقول، نرتجف كغريبين مخطوفين ومهددين بأكل البيتزا، حتى نستطيع الخروج للشارع من جديد. تأكدت أن قضيبي لن ينتصب عليها أبدًا، حتى لو مَصته الأيام والليالي. أجلس لا أسمع إلا نصف ما تقوله، وعندما أتكلم كانت تتمنى أن أخرس تمامًا. تُثبت ابتسامة على وجهها وضيق حواجبها يُصرح بكل شيء. وبعدما انتهينا من الأكل أخرجتُ الديبت كارد وطرقعتُ به على ماكينة الـ POS. خرجنا وتلامس كتفينا عند الباب، فتكهربنا. مشينا ببطء مفتعل وابتسامات مرتعشة كمن يستمتع بيومه، سألتني الأسئلة المهمة، وعندما عَرفت أنني أصغرها بثلاث سنوات، انقلب وجهها، رأيت عينينها تدوران وحاجبيها يلعبان والله، فعرفتُ أن اليوم سينتهي قريبًا.
رأيتُ في عينيها لومًا، كأنها تقول: ليه بتضيع وقتي يا ابن الوسخة هو أنا ناقصة استعباط؟
في العشرينات تنتظر البنات الشاب الثلاثيني وعقله العملي المنضبط، قُلت لنفسي وقتها، حتى أبرر هذا الرفض الصريح، وكنت في الـ 25 أعمل مصمم جرافيك مع شركة خليجية تدفع 300 دولار في الشهر بعد أن تنسف آخر خلية في دماغي، وأبلبع أدوية نفسية لمعالجة الاكتئاب، ومصاب بالتهاب في البروستاتا. اقطرُ الدم مع البول. لم أكن أريد منها شيئًا، بعدما رأيتها في الواقع، حتى رغبتي في النوم معها أصبحت ضعيفة، وتحتاج ترتيبات كثيرة ثقلت على نفسي فجأة؛ تبدأ من تغفيل البواب حتى تَتبع خريطة مواعيد العائلة، لكن يظل الرفض مؤلمًا. في دماغي، شعرتُ أن من ترفضني الآن هي البنت التي في صور إنستجرام، فكان الرفض أشد قسوة. طَلبَت هي أوبر وانتظرت حتى وصلت السيارة، ودعتها بسلام تافه باليد، بعدما التقينا في بداية اليوم بحضن بارد.
كنت أعرف أنني لن أراها ثانية، ستطردني من جنة الكلوز فريندز الخضراء.
قررت التمشية لوسط البلد توفيرًا للمصاريف حتى موعد القبض، وعقابًا لنفسي على ما دفعته في توماس، وسوء تقديري لكل شيء. لا أعرف إذا كان ذوقي في البنات هو ما أرغب فيه فعلًا، كل ما أريده أن يكونوا مثلما أراهم في خيالي واستمني عليهم. يبدو أن هذا صعب. مشيت على خرائط جوجل بقضيب منكمش حزين ونفس طهقانة، وعندما وصلت وسط البلد شعرت بإرهاق شديد وقررت ركوب تاكسي حتى المنزل، فكرت فجأة أن توفير 100 جنيه لا يعني شيئًا في مصر اليوم والدولار ما زال يضرب فوق. لكن لن أدفع أكثر من 100 جنيه. وبختُ نفسي.

 

-3-

وعندما نزلنا من كوبري أكتوبر لصلاح سالم، جاء من خلفنا أربعة مراهقين. على موتوسكيلات صيني ينامون ويفردون أذرعهم كأنها أجنحة، أجسادهم والموتوسيكلات كيانٌ واحدٌ متناغم مترابط عضويًا، حتى إنني ظننت أمعائهم متصلة بالموتور ومن أَسْتاهِهم ينفثون الدخان والعوادم. يتحركون بأجنحتهم يمينًا ويسارًا فيوجهون حركة الجسد-الآلة على الطريق. أمواس الحلاقة ترسم لوحات مشفرة المعاني على رؤؤسهم وآثار المعارك تُشكل تضاريس جلودهم. ندبات على اللحم وغُرز في عمق الروح. يتراقصون على الطريق ويتبادلون المواقع من الأمام للخلف على هيئة حرف X، يناورون الموت بثقة مثل أبطال الملاحم الشعبية الكبرى، لذلك، لن يموتوا أبدًا. ولن يعيشوا إلا كل ما هو مستحيل. أخرجت الموبايل من جيبي وفتحت الكاميرا الخلفية، بدأت في تسجيل فيديو، وانتقلت عيني من الشارع للشاشة، فتابعت حركتهم من الموبايل. رأيتهم بوضوح أكثر. الآن، احتفظ بهم على الهاتف، وعندما أعود للمنزل سأشاهد الفيديو مرات وأشعر بحماس أكبر في دماغي وأنا نائم على سريري.
شرخوا بموتوسيكلاتهم مرة واحدة، فتجاوزوا الجميع، لم نعد نراهم، كأن طريق صلاح سالم مربوط بالسماء. عند أقصى نقطة للواقع، طاروا بأجنحتهم.
نظرت للسائق فتأكدت أنه ليس هنا، غائب في زمن ضائع. عالقٌ في دماغه. عيناه منقوعتان في الدموع. وكل نظرة للخارج هي تفتيش في ثنايا الداخل.
سألته إذا كان بخير، فقال لي أن «كله تمام». شكرته على فقرة التكييف القصيرة فقال:
– أي خدمة.
سكتَ قليلًا ثم قال:
– عارف لما صحابك يبقوا شوية خولات؟
قُلت له نعم. وكنتُ أعرف الخولات والأنذال جيدًا. رأيتهم أصدقاءً كنا نظن أن ما يجمعنا أبدي وباقٍ، وغادرنا حياة بعضنا في النهاية لأتفه الأسباب.
استكمل كلامه بعدما نظر في مراية السيارة لثوانٍ، قال لي أن أحد أصدقائه المتعلمين المطلعين، مدرس إنجليزي في مدرسة ثانوية عامة حكومية، استخدم الذكاء الاصطناعي في تركيب صوته من شهرين على أغنية لنانسي عجرم، وأصبح شريط صوت يستخدمه المراهقون والشباب على إنستجرام وتيك توك. لا أحد يعرف من صاحب الصوت، لكن مثل معظم الظواهر على الإنترنت، تعيش وجودها الخاص وتنتشر بلا جذر أو ساق يمكن من خلاله تتبع أصل الأمور ومصدر الأشياء وبداية الحكاية. كانت أغنيتها الشهيرة «إنت ايه؟» من ألبوم «آه ونص»، وكان الشباب والبنات يستخدمونها تعبيرًا عن حالات حزنهم العاطفي بشكل هزلي، يفلتون من حقيقة أنهم حزانى، فالمشاعر لا يتعامل معها أحد بجدية على الإنترنت معظم الوقت، فكل حزن يجب أن يكون باطنه هزار أو يخرج على هيئة نكتة. المفارقة أنها كانت تُستخدم بطريقة معاكسة: أشخاص ليسوا حزانى أصلًا لكنهم يريدون اصطناع حالة حزن هزلية، فكان شريط صوت لأغنية تعود لبداية الألفينات بصوت سائق التاكسي إمكانية لدمج كل تلك الحالات وإذابة المعايير والفوارق؛ تهريب الحزين من مسئولية حزنه، وتمكين الهازل من اصطناع حالات شعورية مؤقتة، كمزحة عابرة مع أصدقاء افتراضيين.
دخلنا يمين بعد قصر البارون باتجاه شارع الثورة، عرفتُ من خرائط جوجل التي فتحتها أمامي ونسيتها، فتحتُ إنستجرم سريعًا ولمحت ستوري من لمياء لونها أخضر. ما زلت في قائمة الكلوز فريندز.
لاحظت أنه يبطء السرعة قليلًا ليستكمل كلامه، يحتاج إلى صياغة مشاعره في جمل مفهومه حتى يتوقف ولو قليلًا عن البكاء.
نظر لمراية السيارة ثانية، ليتذكر أو يستجمع الكلام. قال بعدما عاد ينظر للطريق:
– أنا بس خايف الموضوع ده يفضل ترند كده، ابن أختى الصغير النهاردة قبل ما أنت تركب معايا شوفتله ستوري وهو عامل وش زعلان وحاطط عليه الأغنية بتاعتي. أغنية نانسي. ومن ساعتها وأنا مش عارف اعمل ايه ولا اروح فين. أنا لو مكانه وعرفت هقول خالي ده خاااووولل، والله العظيم خول.
ارتفع صوته وارتعش مع اقتراب الجملة من نهايتها.
وإذا رأيتَ ذكرًا جريحًا باكيًا لا تناقشه، سيبخ عنفه الكامن في وجهك ويأكل لحم بطنك، بل مَلس على جروحه حتى تطيب ويشتد عود ذكورته أو اتركه وحيدًا تداويه الأيام، وفيما بعد وبخه كما تُريد. تذكرتُ.

 

-4-

على إنستجرام، اعتدتُ الجلوس على ركبتي منتظرًا لمياء في الشات.
حركتني قناعة أن كلما عملتُ لها لايك وأثرت انتباهها لاحظت وجودي وازدادت فرصنا مع بعض. فاللايكات نظام من الدلالات، إذا اتخذت نسقًا واضحًا متكررًا يمكنها أن تحمل إمكانات للتأويل وفهم لطبيعة علاقة بين طرفين أو يمكنها أن تقود إلى ضباب من الاستنتاجات والتوقعات الخاطئة لا عودة منه، طريقٌ من الأوهام أجمل وأسوء ما فيه أن الواحد يمشيه في دماغه فقط. ما حدث بيننا كان وسطًا بين الاثنين، عرفتُ أنها معجبة بي بالفعل، لكن تحفيزي لدماغها باللايكات المتتابعة جعلني «اللايك المضمون»، فكانت تمارس عليَّ إخضاعًا نفسيًا عميقًا، تختفي بالأيام وعندما تعود في أي وقت تجدني انتظرها لاهثًا لنستكمل موضوعًا نسينا كيف بدأ، توعدني بلقاء قريب وقَبله بساعة تختفي، تقول لي «يسطا» فجأة في منتصف كلامنا، بعدما كانت تقول لي «يا روحي».
وعندما رأيتها في توماس، تحللت بنية الإخضاع تمامًا.
كانت ضئلية الحجم وصوتها خافت، رأسها يميل لليمين دائمًا كمن يتفادى شيئًا معظم الوقت أو يختبأ من كل الناس، حتى نفسه. جلد ذراعيها شفاف يمكن شَقه بخدشة ظفر حاد، تنظر لطبقها وتكلمني من خلاله، تغطي نصف وجهها بشعرها كلما انكشف كاملًا.
ولما حضنتها انتفض جسدها.
في توماس، انقلبت شحنة الإخضاع ببطء إلى عُنف هادئ مُبطن. في دماغي، رأيتني اضغط معصمها حتى يَطقُ مفصلها في يدي.

 

-5-

يُريد السائق من يلقمه حلمته في فمه حتى يستكمل يومه بهدوء.
قُلت له ما يريد أن يسمعه.
نظرتُ للموبايل اطمئن أن ستوري لمياء الخضراء ما زالت موجودة وقلتُ:
– يا ريس ولا تشغل بالك، الترندات بيتشد عليها السيفون ومحدش بيفتكرها، شخة ورا شخة وكله بينسى، روق كده. والله ما في حد في رجولتك ولا جدعنتك، ده كفاية التكييف.
ابتسم ودموعه على خده.
تمنيت أن نصل وننتهي من البكائيات. تقبلتُ مع الوقت كوني ابن وسخة لا استمع لكلام الناس فعلًا، أتظاهر بذلك وأبالغ في تعبيرات وجهي ومن داخلي أفكر في الدنيا كلها إلا من يتكلم أمامي. تقبلتُ ونسيتُ، فتأسست ذاتي ونضجت على البلادة والخَنزرة الجميلة. والله لو كنت مكانه لكنت بكيت في الشوارع وعلى صدر أمي أو أصبتُ ببانيك أتاك فَرتك شرايين قلبي.
نظرتُ في مرآة السيارة لتشتيت بؤرة انتباهه وقطع خيط التواصل. أردتُ النوم، بعد مشاهدة ستوري لمياء وفيديو الموتسكيلات على صلاح سالم ورفعه على إنستجرام مع مقطع «الدنيا سيرك ومسرحية» من مهرجان «الدنيا شمال».
لا أشعر بشيء تجاه لمياء، لكن رفضها جعلني انتبه إليها بطريقة مريبة في دماغي، تُلح صورتها على ذهني.
توقفنا عند كشك، اشترى السائق علبة سجائر تارجت أزرق، ناولني واحدة، ليعيد ربط الخيط. ثم أدار مفتاح السيارة، لتشتغل مَكنة الكلام.
عرفتُ أن الموضوع بدأ بخِناقة مع المدرس.
اعتاد الجلوس على قهوة في الحي السادس في مدينة نصر كل خميس مع شِلة تتراوح أعمارهم بين الثلاثينات ومنتصف الأربعينات، تجمعهم كراهيتهم لزوجاتهم وسخطهم على الارتفاع المحموم للأسعار وأزمة الدولار. هبط عليهم المدرس في أحد الأيام، يحدثهم كمن جاءه الوحي وهو نائم، عن ثورة الذكاء الاصطناعي وشات جي بي تي، انقلبت وجوههم، خاف بعضهم وضاقت أعينهم وارتفع نبضهم، لكنه طمئنهم وأخبرهم أنه شرٌ خطير لكن يمكن ترويضه وتوظيفه لصالح الإنسان، حدثهم عن المنطق الشهير «أعرف عدوك جيدًا حتى تستطيع مواجهته»، لم يصدقوه، وناموا يومها يرتجفون في أسرتهم، حتى أن أحدهم حلم أن هناك روبوت فحل يَدقه من خرمه في سريره وزوجته تجلس بجانبه تفتح رجلها وتنتظر دورها في شبق. استغل المدرس لغته الإنجليزية المتوسطة في القراءة عن مستجدات هذه الثورة في الصحف العالمية ومتابعة فيديوهات الشرح والتحليل على اليوتيوب، وكان يؤرق جلساتهم بكل ما يتعلمه ويكتسبه من مهارات، وفي أحد المرات احتدم بينهم النقاش عن «مصر أيام زمان»، وتعثروا في معلومة تاريخية ستحسم الأمور، فابتسم لهم المدرس بسماجة وصمت قليلًا، ثم أخرج الموبايل من جيبه ووضعه في منتصف الترابيزة وقال:
– بقولك يا جي بي تي، هو الدولار في الأربعينات في مصر، كان على كام؟
لاحظوا أنه لا يقول «شات جي بي تي»، كان يريهم مدى الأريحية التي أصبح يتعامل بها مع هذه الثورة التكنولوجية من ناحية، ومن ناحية أخرى يرفع كعبه عليهم، فهو الآن يمتلك عبدًا مطيعًا، يعينه في الدنيا.
تحملوه وصبروا عليه تقديرًا للعشرة، لكنه تمادى واستفحل مع الأيام، وفي خميس غامق كان السائق على آخره من الحياة، جلسوا يحرقون المعسل ويتابعون مبارة من الدوري المصري المتوفي منذ سنوات ويبث أحيانًا من المقابر، سأل أحدهم:
– يا رجالة، حد فاضي بكره نشوف ماتش ليفربول في دوري الأبطال بدل الغم ده؟
رد الجميع بهز الرؤوس أو بمجرد «تمام»، لكن المدرس صمت وانتظر حتى يهدأوا، أخرج موبايله وهو يسند المَبسمُ على شنبه وقال بروقان يحافظ على مدى صوتي يغطي الترابيزة بأكملها:
– بقولك يا حُبي هو أنا بكره جدولي ايه؟ كان عندي درس في الحي السابع في بيت الواد خالد تقريبا، مش فاكر الساعة كام؟
كمن يرج زجاجة كولا ويفتح الغطاء فجأة، انفجر السائق في وجهه، سحب شخرة شدت وجوه الزبائن جميعهم نحو فتحتي أنفه، ارتفعت الأصوات والتحمت الأجسام، «كسمك» من هنا و«يا ابن المرة الزانية» من هناك. حاولت الشِلة منع السائق من ضربه، أحاطوا بجسده الهزيل، لكن رقبته الطويلة بعروقها الزرقاء يَصعب السيطرة عليها، كانت تُطل عليهم من فوق وهم يُحَلقون حول جسده من تحت، فهبط عليه بجَبينه ونَطَحهُ. فتح المدرس عينيه، تأرجح للوراء ثم سقط والموبايل في يده مفتوحًا على تطبيق «شات جي بي تي».
بعدها بأسبوع استيقظ السائق على رسالتين واتساب من المدرس، واحدة عبارة عن مقطع صوتي، والثانية كلمة واحدة بلا توضيح: «ولسه…». كان السائق وقتها يعمل على تاكسي أبيض جديد، ويعطي مالكه أجرة يوميه على كل وردية، وبما أن السيارة ليست ملكه، فلا يحق له أن يطلب من المالك إزالة بوستر نانسي المُلصق على زجاج الباب، خاصة بعدما لاحظ أن نانسي تبتسم في صورة غلاف صفحته الشخصية على فيسبوك. اعتبرها من توافه الأمور وظن هزار المدرس وإفيهاته المتكررة على نانسي هزار أصدقاء عابر، لم يتوقع أن تكون اليد التي سيلويها خلف ظهره عند اللزوم، هي يده الناعمة، يد نانسي عجرم.
بوم. سمع المقطع وانفجر مخه.
عاش لأسابيع غيبوبة وجودية جندرية، ينتظر الضربة القادمة لتفيقه وتعيد ترتيب نظام حياته، حتى يرتاح وينتهي الأمر. حلم بنانسي تغني بصوته مرات على قناة إم بي سي، وحلم بنفسه يرتدي شعر نانسي ومثبت من لحمه كبوستر في أوضة نوم المدرس، فوق سريره. لكن الضربة الثانية لم تكن مباشرة هذه المرة، وصلته وهو يتصفح تيكتوك بعد تعميق الغيبوبة بفطار ساندوتشات طعمية وبطاطس صوابع وطبق باذنجان مقلي بالدقة، فرأى فيديو قصير لفتاة مراهقة تنتحب بأداء مفتعل على صوته وهو يغني.

 

-6-

– لمياء عايزك تدوسي على وشي نيك (01:32)
– هكسر عضمك يا روحي (01:39)

قبل وصولي البيت بدقائق تذكرتُ جزءًا من آخر سكستنج بيننا. وسط عنف الرسائل وسخونة الأدمغة، خرجت مني الجملة دون تردد، كتبتها أصابعي بإرادة الرغبة وحدها ورأيتها تظهر على شاشة الموبايل، فشعرتُ بذنب يتشكل في روحي مثل حموضة تتصاعد حتى الحلق وفكرتُ في مسحها، لكن لمياء بدت كأنها تنتظرها بفارغ الصبر؛ ركبت فوقي وهبطت برَدها، لتحطم بنينان الذنب قبل اكتماله وتريحني. فقذفت في سلاسة.

 

-7-

لقد وصلتَ إلى وجهتك.
رسمتُ على وجهي كل الملامح المأساوية. منذ عشر دقائق ونحن أمام عمارتي، وماكينة الكلام ما زالت تعمل، حتى قررت فتح الباب ببطء والنزول. دفعتُ الأجرة وتحركت لمدخل العمارة، وقبل أن أغلق الباب، تسلل السائق بعنقه وخرج برأسه من الشباك وقال: مع السلامة يا زعيمي، في أمانة الله.
دخلت الحمام وشَخختُ، قطع خضار ملونة مع البراز البني الفاتح، وخرطوم بول أصفر داكن. رفعتُ فيديو الموتسيكلات على إنستجرام وأنا جالس أُفرغ بقايا اليوم من بطني.
في غرفتي، ضبطت التكييف على 24، وسحبت الغطاء لنصف جسمي.
فتحتُ ستوري لمياء.
واقفة أمام مرآة الحمام. تَستند بكوعها إلى حافة الحوض اللبني وتقوس وسطها فتزيد من انحنائه، لتُعيد تشريح جسدها وتبديل أبعاده. ترتدي هوت شورت أزرق يرتفع وسطه قُرب سُرتها، وكروب توب أبيض، يصل للربع الأول من بطنها، فيترك مساحة من البياض، لحستها بعيني. تستند بوجهها على كفها وباليد الأخرى تمسك الموبايل. ضوافرها حمراء مقشرة. ملامحُ حزن وكُحل سايح وشريط صوت لسائق التاكسي وهو يغني: «إنت ايه؟ مش كفاية عليك تجرحني، حرام عليك، إنت إيه؟ إنت ليه دموعي حبيبي تهون عليك؟ طب وليه؟ أنا راضية إنك تجرحني وروحي فيك، طب وليه؟».
تعطل دماغي عن التفكير فضحكت. عملتُ لها لايك وأغلقت الموبايل.
في الظلام، لحستُ التنين من شرارة ناره حتى ذيله، بوستُ كعبها. لحستُ باطن قدمها حتى وصلتُ للإبهام، عضضته ومصصته، مرة فالثانية.
فتحتُ عيني.
امسكتُ الموبايل وأرسلت لها قلوبًا حمراء ملتهبة. ثم تبعتهم برسالتين، رأتهما قبل أن أرسل الثالثة:

– اتبسط أني شوفتك فشخ النهاردة، كان شكلك جميل بجد، ياريت نكررها تاني قريب (00:50)
أنتِ قاعدة بتعملي ايه دلوقتي؟ (00:54)

كريم محسن، كاتبٌ وقاصّ من مصر، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان «هذه ليست غرفتك» عن دار المرايا العام 2022. وقد فازت بجائزة ساويرس 2023 بوصفها أفضلَ مجموعة قصصية. شارك في مشروع «قصص القاهرة القصيرة» الذي نظمه معهد جوته العام 2018، ونُشرت له العديد من القصص والنصوص ومقالات النقد السينمائي في مواقع ومدونات مثل: مدى مصر، فاصلة، المنصة، مجلة فم، الجمهورية.نت، مدونة ختم السلطان، بورينج بوكس – كتب مملة، آخر قصة.

الخنزرة_الجميلةقصة_قصيرةكريم_محسن

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member