
تحتمي سيدة من الأمطار بينما تغرق في خيالاتها وتأملاتها عن حياتها، تختلق عالمًا خاصًا بها، ويبدأ عالمها الخيالي في الاندماج مع الواقع.
نسرين خليل
غيث غشوم دفع المارة إلى الركض في الشوارع للبحث عن مأوى مؤقت، أصحاب المحلات يغلقون الأبواب بحرص خوفًا على بضائعهم من الغرق، السيارات تحاول تجنب الطرقات الغارقة في الوحل، صوت الرعد يخترق القلوب قبل الأذان؛ ترتعد لفرط الرعب، المشهد يبدو مهولًا، يستثنى من هذا المشهد تلك المرأة النحيلة التى تسير بخطوات هادئة، لا تبالي بأبواق السيارات وشتائم سائقيها التى تنعتها بالبرود، لا تهتم لأنها لم تكن تنتمي لهذه اللحظات. هي هائمة في ماضٍ يراودها عن تعقلها وحاضر لا يقبلها لاجئة، ومستقبل بدا شديد القتامة! لم تتعاط مع فرار المارة حولها، كانت سادرة في حزنها، تتلفح به. لكنها تعلم أنها تود الركض من نفسها من ذكرياتها التي تلاحقها مهما حاولت الهرب منها، لم تكن ذكرياتها حديثة العهد أو منذ زواجها أو بالأحرى بداية فشل زواجها، لكن منذ أن كانت طفلة صغيرة لا يُلتفت إليها لأنها صامتة، دائمًا بلا ضجيج يذكر، تتنهد لداخلها، قنوط مغتصب للفراغ، لا تتحرك شفتاها مثل الآخرين. عاقبتها جموع القطيع لهذا الصمت غير المفهموم، بدأ العقاب في المدرسة حينما التف حولها خمسة أولاد، ولأنها جدًا ضيئلة بدوا لنظرات عينيها المرتعبة عمالقة مردة، أحاطوا بها في دائرة، كلما وجدت منفذًا للهرب سدوه، طالبوها بالنطق، حاولت، حركت شفتيها، جذبوها من جدائلها، ركلوها بأقدامهم، خلصها من هذا مدرس كان يمر بالصدفة وعندما لمحوه ركضوا، لم يحاول اللحاق بهم بل ساعدها على القيام وأخذها إلى غرفة المديرة التي حاولت أن تستنطقها لكنها فشلت، فأنهت احتجازها بتهديدها بطريقة غير مباشرة بعدم إبلاغ والديها، دنياها غامت أمام ناظريها منذ هذه اللحظات العجاف!
انسلخت الأرض الزلقة عن قامتها المرتجفة بالبكاء، انكفأت على ظلها لثوانٍ، مسرعة انفصلت عن ظلٍ كابٍ وكأن شيئًا لم يحدث، كفكفت دموعها الكؤود وقد امتزجت بمذاق زخات المطر البترولية. في لحظات توقف كل شيء عن الهطول اللهم إلا فيضان حزنها فبدت كلوحة سريالية تعبر عن ظلم قوى كونية لأمثالها من الضعفاء، اعتذرت لرجل صدمت كتفه دون أن تعي ردة فعله بالمقابل، أكملت سيرها كفأرة مجعدة الهيئة تهدئ روعها بأن كثيرين مثلها يعيشون على نفس المنوال، مع الوقت تعلمت نطق بعض الكلمات الملائمة للمواقف الحياتية، لم تبال بسخرية الآخرين من صوتها المنخفض دائمًا وكلماتها المتعذر إحصاؤها، ناهيك عن فقه معنى حروفها المتعثرة الوجلة، لم تبالي بالنظرات الفضولية؛ فحياتها مع أمها وأبيها لم تكن عادية لتهتم بتفاصيل تافهة كهذه، صراخ أمها المتواصل لا يمنحها سريرة نفس وادعة تمكنها من التفكر في حياة تروق لها أو العكس. أبوها المذنب دائمًا، المعتذر دائمًا، الهارب دائمًا من المنزل لا يمنحها السكينة، يجعلها خائفة من كل شيء، ليس خوفًا من الأشخاص، أو الاختلاط بهم كعادة من يمر بهذه الظروف، وصل خوفها من الجمادات وتخيل أنها تتحرك نحوها تود التخلص منها، أشار لها شرطي المرور بتقصي جانبًا محايدًا حتى تسمح لسيارة مارقة بتخطي بدنها المحبط، طرأت على ذهنها فكرة نشاز كجميع أفكارها؛ لو أن الشوارع تظللها أسقف لم يكن لتحدث كل هذه الفوضى العارمة. أقرت بأن امتلاك الأفكار الخيالية لهو حيلة دفاعية ضد كل ما تعانيه، تحملها معها في كل مكان مظنة أن سيصيبها الألم فيه، وصل حد تخيل حيوات أخرى لم تعِشها بالفعل، ولكن مارست فيها آدميتها بالطريقة التى تحلو لها. تتذكر أنها في الجامعة أطلقوا عليها لقب الفتاة غير المرئية، لم تحزن، لأنها لم تكن متأكدة بأنها بالفعل موجودة بينهم، اختلط واقعها بخيالها حتى لم تعد تفرق بينهما. بدأت تتخيل وجود نسخ موازية لها في أماكن عدة، هناك واحدة في البيت منزوية دائمًا في غرفتها خائفة من تعنيف أمها، يتضاعف تعنيفها مع كل سنة تخطوها نحو شيخوختها، وأخرى موجودة في الجامعة تضحك لأى هراء يقوله أي أحد، وهناك نسخة تزوجت، نعم، تزوجت من معيدها الذي أعجب بصمتها واعتبره دليل على حسن خلقها، طالبها بأن تعاهده على استمرار خرسها ووداعتها الملهمة لكي يحبها، لسوء حظه فإن هذه النسخة لم تمتلك إلا نقيض هذه الصفات، اتهمها بالكذب، وأنها ضللته لتحصل على مبتغاها بالزواج منه ثم ظهرت حقيقتها، يومها ضحكت كما لم تضحك من قبل، حتى عندما وصلت إلى بيت أبيها بعد أن طلقها ظلت تضحك بلا سبب، لكنها رجعت لصمتها مرة أخرى تحت تأثير صراخ أمها. ونسخة أخرى بعد أن تزوجت أنجبت طفلًا، عايرها زوجها بأنه مشوه مثلها، استغربت، حانت منها نظرة إلى المرآة فوجئت بأنها نسخة مشوهٌ وجهها، وبأن طفلها مثلها، بكت، أصرت على الطلاق، طلقها بهدوء وبلا اعتراض.
طالبتها سيدة عجوز بأن تأتي لتقف بجانبها حتى تستتران بمظلة معدنية على هيئة قبعة ضخمة إلى أن تتوقف الأمطار، لم تهتم بتعاطفها وواصلت سيرها، فكرت بأنها نسخة هي الأخرى، وعليها أن تجد الأصل، وقررت حالما ترجع إلى المنزل ستقوم بعدة إتصالات وهمية مع كائنات وهمية لتحاول لقاء الأصل، حاولت تخيلها لكنها لم تفلح.
جلست على الرصيف، نظرت إلى حذاءها الذي تلطخ بالوحل، راحت تنظفه بطرف ثوبها لكنه اتسخ أكثر، نظرت إلى السماء محاولة استلهام لحظات غضب الطبيعة الأم. انشغلت بمراقبة طفلة على الرصيف المقابل لها، تجلس نفس جلستها، تبادلها النظرات كأنها قرينتها، ابتسمت ولوحت لها بذراعيها، وانتظرت أن تبادلها تلويحها لكن الفتاة صوبت نظراتها إلى جهة بعيدة عنها، شعرت بالضيق من تجاهل الصغيرة لكيانها المتعافي على خوفه ثم ما لبثت أن تذكرت بأن الحياة بكل مؤسساتها تتجاهلها، فلماذا قد تلوم طفلة أنتجتها هذي الأجرام! تعلم أنها تفكر كل هذه الأفكار الغريبة لتمرر شعورها بالذنب، وكلما ازداد شعورها بالذنب وتوغل بداخلها امتلكت أفكارًا تهجس بها لتبدد فعلتها التى ارتكبتها، لقد قررت في لحظة وهي تمرر المشط في شعرها بأنها ستتنزع رحمها، لا تريد أطفالًا سيصبحون مثلها.
في ذلك اليوم خرجت مبكرًا، قبل استيقاظ زوجها، وأمام نظرات أمها المتشككة همهمت بأنها ستذهب لقضاء مصلحة ما ستعود مبكرًا، لوحت أمها بذراعيها ودخلت غرفتها لتكمل نومها، كان الدكتور الذي سيقوم بالعملية يمتلك عيادة في عمارة متهالكة، ترددت وهى تعبر عتبة العمارة، ودت لو واتتها الشجاعة وعادت إلى بيتها وأمها وزوجها وتجاهلت الاهتمام بمن سيأتي من جراء استسلامها لنظام مجحف، وبالفعل أدارت ظهرها للمبنى الباهت، لكن الممرضة في الشرفة لمحتها فنادتها بصوت عال تقطع عليها طريق الفرار، قالت إن الدكتور ينتظرها.
عندما نزعت عنها رحمها شعرت بالفراغ، أصبحت امرأة مبتورة الرحم، سألت الطبيب تحت تأثير المخدر هل من الممكن أن تأخذ رحمها وبأن تزرع طفلًا داخله؟ يومها أخبرها الطبيب بالكارثة، لقد فقدت بداية القصة دون إرادة منها للهرب من المصيبة التى عرفتها وبأنها تعاني سرطانًا في رحمها، ولأنها ضيف ثقيل على هذا العالم، فقد اخترعت هدفًا ساميًا للتخلص من رحمها الموبوء وهو عدم إنجاب أطفال مثلها. يا لي من بلهاء، هكذا قالت وهي تتجنب الاصطدام بشخص يهرع نحو مدخل عمارة، لم تخبر زوجها بالأمر، ستخبره بأنها لا تنجب، لكنها لن تخبره أبدًا بأنها لم تعد تمتلك رحمًا مثلها مثل النساء، لن ترى دماءً على ملابسها الداخلية مرة أخرى، لم تعد تشعر كإمرأة، استمرت في البكاء؛ فلم تشعر بانتقال الفتاة من الرصيف المقابل إلى الجلوس بجانبها، تربِّت بيديها الصغيرة على ظهرها، لأول مرة يشعر أحد بمعاناتها، بل لا تبالغ لأنها لا تتذكر أن أحدًا ربَّت على ظهرها ذات هفوة. انتهت من البكاء والتفتت إلى الصغيرة، تأملت ملامحها، لمست وجنتيها، مسحت حواجبها بأصابعها، تتأكد من كونها حقيقة وليست مجرد خيال من اختلاقها، ابتسمت الفتاة تحت تأثير لمساتها معتقدة أنها ملاطفة من السيدة لها؛ هي يتيمة، لا أم تهتم لحالها، بل زوجة أب تعذبها لو نطقت كلمة لا تروق لها، وأب خاضع لزوجته خضوعًا تامًا، وأخوة من زوجة أبيها يضربونها كلما ضايقتهم أمهم، يكيلوا لها الضربات المؤلمة، لا يبالوا بدموعها ولا صراخها المتواصل، تشجعهم أمهم على ضربها أكثر وأكثر، ويتأملهم أبوها بصمت من دون نية تدخل، يؤلمها صمت أبوها أكثر من الضرب. في ركنها الصغير بالمنزل تتكوم على نفسها كقطة صغيرة تلعق جراحها، تحلم بأمها، لا تتذكر ملامحها جيدًا، لكنها كانت تعانقها كثيرًا، تجلب لها اللعب والشيكولاتة، ضحكتها الرقيقة ترن في أذنيها كلما حلمت بالسعادة، رائحتها الحلوة ملتصقة بأنفها، يأتي خيال أمها في الحلم، تحتضنها، وتظل تحتضنها وتدللها حتى تستيقظ على ركلة من قدم زوجة أبيها أو أحد أبنائها. دموع المرأة الجالسة على الرصيف ذكرتها بأمها، تبدو مثلها مع اختلاف طفيف في الملامح، لكنها حانية مثلها، شعرت بهذا من نظراتها الرقيقة، أشاحت المرأة بنظراتها بعيدًا عن الفتاة الصغيرة؛ خافت أن تتركها كما فعلت أمها، مدت أصابعها وألصقتها بأصابع المرأة النحيلة، تنهدت، تحاول مغالبة خوفها من كون هذه الفتاة مجرد خيال تعوِّض به فقدانها لأمومتها للأبد. تلهت بمراقبة رجل يحاول أن يستند لدراجة صدئة على الرصيف، يخاف أن يقع تحت تأثير الرياح الشديدة، شعر الرجل بالضيق جراء نظراتها المثبتة عليه؛ لا يدرك أنها تتأكد من كونها حقيقة من وجوده، همهم ببعض الكلمات التي تعبر عن حنقه، ودخل إلى محله وأغلق بابه بعنف.
في تلك اللحظة التفتت إلى الفتاة، ولاحظت أنها تشبهها في استدارة وجهها، شعرها مموج مثلها، بشرتها شاحبة ونحيلة، لو أنجبت طفلة لم تكن لتشبهها مثل هذه الفتاة، ابتسمت لتلك الخاطرة، وبادلتها الفتاة الابتسامة، وعندما بدأت في التحدث بدأت الطفلة في الحديث في نفس اللحظة فضحكا معًا ونسيا المطر والمعاناة، لم يهتما إلا بصفاء هذه اللحظة، أجمل من حياتهما بالكامل.
توقفت الأمطار، أطلت الشمس ماسحة كل أثار المطر المدمرة في ثانية، وكأنها مسحت ذاكرة كل المارة الذين نسوا ركضهم منذ قليل كالمخابيل وعاودوا سيرهم بكل هدوء ذاهبين إلى مصالحهم، لم يبالوا بالسيدة والفتاة الجالسين على الرصيف يتبادلان الابتسامة، لا يهمهم تغير الطقس من النقيض إلى النقيض، فقد شملتهم لحظة لقاءهما ببعض بالإكتمال، لقد صار للسيدة ابنة، وصار للابنة أم!
ظلت السيدة مع الطفلة، متعانقي الأيدي، حتى عندما قاما ليواصلا سيرهما لم يتركا أصابع بعضهما البعض، عبرا شوارع وطرقًا من دون أن يدركا وجهتهما، لا تعنيهما الوجهة على قدر اهتماههما بتواجدهما معًا. بدأ المساء يهبط فوق البيوت، والضباب يلف الشوارع تخترقه الأشعة الصادرة من فوانيس الإنارة، ابتسمت السيدة لقبض الصغيرة على أصابعها بقوة وكأنها تخشى أن تتركها، أغلقت السيدة عينيها، وتخيلت أن هذه الفتاة ابنتها بالفعل، وأنهما كانا يقصدان السوق لشراء بعض حاجيات البيت وها هما تعودان إلى منزلهما حيث الدفء والحب، تأثرت السيدة بهذه الفكرة كثيرًا وصل حد تصديقها، بدت أصابعها المشبوكة بأصابع الطفلة كجذور شجرة تتغذى على احتياج كل منهما للأخرى، شرعا في السير في الطريق من دون أن ينتابهما الخوف من فقدهما للرفقة الآمنة المعطاء، وبأن طريقهما واحد حتى وإن لم تعرفا إلى أين تتجهان.