
عن طموحات شخص بسيط مهووس بعمرو دياب، يكتب محمد عبد الجواد قصة قصيرة مؤثرة.
محمد عبد الجواد
بدلاً من أن يقولوا وُلد وفي فمه ملعقة ذهب، اعتادوا أن يقولوا وُلد وفي فمه شريط «حبيبي» لعمرو دياب، وهي مقولة غير مؤكدة، لأن عبد الرحمن حسين وُلد قبل طرح الألبوم بثلاثة أعوام، العام ٨٨ تحديدًا، واستمع للأغنية في صالة شقة المساكن عند جدته وهو في الثالثة، فأدخلته إلى عالم غير متوقع من الألوان والخيالات الباردة، رأى معها زوايا غريبة للحزن، وهو يتابع الفيديو من دون أن يفهمه. عندما دخلت عليه جدته السيدة زهرة عبد الحميد؛ السيدة القوية القادرة، وكانت تستضيفه في شقتها في المساكن وقت عمل أمه السيدة راوية في مدرسة الأضواء السنية، سألته إن كان قد تناول إفطاره فرد بحماسة:
– حبيبي، يا مالك قلبي بالهوا.
تخيلت أنه أصيب ببركة رؤية الملائكة طفلاً أو مسه جني بن كلب، فربطته بجانبها طوال جلسته، وأخذت تلعن اليوم الذي صارت فيه جدة، لأنها كانت ناظرة في التربية والتعليم، تقيم إدارات تعليمية كاملة ولا تقعدها، كما صافحت سوزان مبارك بيديها مثلما يفعل العظماء من أهل السياسة، وقالت لها وهي تبتسم بخجل، نفس الابتسامة المطبوعة فوق صفحات الأهرام:
– أنتِ مثال للمرأة المصرية العظيمة يا أستاذة زهرة.
عندما عادت السيدة راوية من الخارج، كانت السيدة زهرة قد وضعت له طبق فاصوليا بيضاء وبعض الأرز، مع قطعة داكنة من اللحم، أخذ يتناولها قطعة قطعة بذلِّ المحرومين، لأنه كان يستمتع بتناول اللحم منذ صغره بتلك الطريقة الكئيبة. قالت لها ما جرى، فأخذته السيدة راوية إلى غرفته، وجست نبضه، ثم قرأت المعوذتين وبعض السور، قبل أن تعلن أنه بخير لأنه لم يتثاءب ليطرد الروح الشريرة لعين ما. ولأن أباه كان في السعودية وقتها، عادا ليلتها إلى شقتهما، بعدما هددت السيدة زهرة بانقطاعها عن مساعدة ابنتها في كارثة التربية، لأنها جربتها مرتين واكتفت منها، وخلال ساعات عُرضت الأغنية من جديد على التلفاز الصغير في الصالة، فرددها عبدالرحمن حسين بسهولة، لتبتسم السيدة راوية وتقول:
– يا بن المجنونة، أتاريك كنت تحاول أن تقلد عمرو دياب.
وهي الجملة التي حُفرت في تعاريج الذاكرة الطفلة، وانبثقت بعدها عن هوسه بعمرو دياب، والذي لازمه حتى مراهقته تقريبًا. لم يكتشف عبد الرحمن حسين أن صوته سيء سوى عندما خرج به من رحم الحمام والاستحمام البطيء – الذي كان أبوه الأستاذ حسين ينتقده، خاصةً بعد عودته من السعودية بلا ثروة تُذكر لأنه كان مخروم الكف، بطبع مسرف ورثه من أسرة من المسرفين العظام، فكان يدقق في كيل كوب الأرز للغداء، وعدد البيض على الإفطار، وعدد ثمار الباذنجان المناسبة لمسقعة جادة ومتوازنة، ومعدل استهلاك الكهرباء والماء في الاستحمام – إلى فضاء الخارج وحوش المدرسة والشوارع الخلفية لحي الوفاء والأمل، وهو ما تأكد منه عندما انتقده كثير من زملاء التخت، ودشنه الأستاذ نهاد عبد الوهاب مطرب نشاز بطريقة رسمية عندما تبرع ليغني «حبيبي يا نور العين» في حصة الموسيقى، فقال له بهدوء:
– صوت مؤهل لإعلان يوم القيامة.
اكتفى بالغناء الخاص لنفسه، خاصةً أغنية «قصاد عيني»، التي كان يكررها يوميًا بإيمان صباحًا ومساءً، متخيلاً شوارع مطيرة في القاهرة، تنعكس عليها أضواء مطاعم ومقاهي ومحال، يعلن فيها حبه لفتاة فارقته، بشعر كستنائي وأنف طويل وجاكيت من الجينز.
لم ينجح عبد الرحمن حسين في الحصول على معدلات ممتازة في التعليم، فاكتفى بدخول كلية الشعب، وخرج منها بلا أمجاد، ليحتكرها أخوه نزار، الذي كان طفلاً جادًا منذ البداية، لا يردد سوى تعاليم الأستاذ حسين التي تتحدث عن المال وبناة العقارات، حيث كان يجلس كل خميس، بعد وجبة الكباب الأسبوعية التي عودهم عليها، عادة ارتبطت بالأيام الأولى التي عاد فيها من السعودية، لأنه كان يحن إلى الحنيذ والمظبي والزربيان والكبسة، فكان يردد وهو يتناول ريش أو طرب من كبابجي أبو علاء:
– تأكل الخراف هنا الخراء ولكن خراف السعودية تُربى على ورق السدر الجبلي فيخرج لحمه عسلاً.
وكان يعدد البيوت التي أقامها معارفه في حي الوفاء والأمل، والتي ستُؤجَّر أو تُباع بالتقسيط غير المريح، فيقول لنزار، أخو عبد الرحمن:
– الأمل فيك، لأن الوفاء أكله أخوك.
وضع نزار هذا النجاح في باله كمسوِّغ لارضاء الأستاذ حسين، وحلم بإقامة عقارات تجلب له الثراء المريح، حتى التحق بعدها بالهندسة قسم مدني، ليكتشف مع التراب والحرارة وعربات الأسمنت أن الحياة كذبة كبيرة، ولكن حسه العملي أهله للتدبير والبحث عن الفرص المناسبة حتى وصل إلى شركة مقاولات تعمل في العاصمة الإدارية الجديدة بعد تخرجه بأعوام، أهلته للالتحاق بقطاع الإنشاءات في شركة هولندية، ليدخل على أبيه الأستاذ حسين، وكان قد فقد بصره تقريبًا، ويقول وهو يضع أمامه شيك على بياض:
– ورقة لشراء بناية من طابق في الشيخ زايد.
فقال الأستاذ حسين:
– الله يرحمه ويبارك لي فيك.
طفا عبد الرحمن حسين بعد تخرجه فوق بحيرة من التجارب الكئيبة؛ عمل في البداية محاسبًا في حلواني العبد، وتخيل أن الوقوف خلف كاونتر المحاسبة سيؤهله إلى تناول الجاتوه وتأمين كميات من الباباز للسيدة راوية حتى ترضى عنه، وكان بالفعل يأتيها في نهاية كل أسبوع بعلبة فيها خمس قطع من الباباز، تحتفظ باثنتين منها لصباح الجمعة الطويل الممل، وتأكل نصفًا من الثالثة مع كوب من الشاي بلبن، وتترك البقية للأستاذ حسين أو المهندس نزار، الذي كان لا يزال مراهقًا وقتها. لكن حسين لم يستطِع تناول الجاتوه كما يريد طوال عمله، لأنه لم يجد وقتًا للتنفس بالأساس، ولذلك استقال بعد فترة بدافع مرضي بحت، حيث صار أكثر هزالاً مما كان عليه؛ له مظهر شاب مخذول النظرات ومصاب بالصُفرة، وفي يوم الاستقالة الذي شعر معه باستعادة حريته، عاد للبحث عن ألبومات عمرو دياب الحديثة، فوجد أغنية «أصلها بتفرق»، وكانت قد نزلت بشكل منفرد، فاستمع لها بطريقته الخاصة في تقديس صوت عمرو دياب؛ نزَّل الأغنية على هاتفه، أغمض عينيه، واستمع في شارع هدى شعراوي الخالي في وسط البلد، فتصوره غارقًا تحت المطر، وهو يركض مثل الرجل الوطواط مع انكسار مميز لضوء إشارة مرور فوق زيه الأسود اللامع، يغني وهو يهز كتفيه مثل عمرو دياب – لأنه لاحظ أن تلك هي لازمة المطرب الأساسية – ويقفز فوق السيارات. أخذته الجلالة في مقطع «الدنيا بحالها مابتساعنيش»، حيث صُحبت الشين ببعض المؤثرات الموسيقية المضخمة، رددها بصوت عالي ليتجلى صوته السيء، فسمعه بعض الصبية المارين في الشارع، وقال أحدهم:
– أصلها بتفرك يا خول.
لم تنقلب ليلته بسبب ذلك، ولكنه فقد روح العفوية في الغناء بصوته الحر، واكتفى بالدندنة المتوترة. وبينما كان يمر بشارع شريف، من ممر يوصل إليه من ناحية مكرونة بابا عبده، خطر في باله أن يركب حافلة تصل به إلى روكسي، ليشتري شاورما من أبو حيدر، ويتجول بلا هدى. سيقول لاحقًا عن هذه الجولة المسائية أنها غيرت حياته، لأنها عرفته على مهنة أحلامه التي لم يكن يعرفها؛ عامل في ماكدونالدز، والفكرة أن عبد الرحمن حسين قد تناول شطيرة شاورما، وظل يسير سعيدًا بحريته هذه، يتأمل صور عمرو دياب المعلقة فوق العمائر، ويتذكر سُبة الصبي، فيغير كلمة «أصلها بتفرق» لتصير «أصلها بتفرح» أو «أصلها بتفرش»، ويضحك مع نفسه، حتى وصل إلى الميرغني، فقرصه الجوع مرة أخرى، ووجد علامة ماكدونالدز الشهيرة تطل عليه على فوق المطعم القريب. لم يكن قد دخله من قبل، وذلك بسبب التأكيد القديم للأستاذ حسين بأنهم يستخدمون فول الصويا مع قطع من اللحم منتهي الصلاحية، ويضعون عليها مواد حافظة بدينها، لتجعل اللحم صالحًا للاستهلاك لعام كامل، رغم أن أي قطعة لحم تحترم نفسها ستتعفن خلال يوم على أقل تقدير إذا تُركت في العراء. ما جذب عبد الرحمن حسين ليلتها، هو الوهج الخافت للعلامة الصفراء الكبيرة، والمظهر الحميمي للجالسين بالداخل، وكان أغلبهم من الأسر حديثة الزواج، كما خمَّن، أو مجموعات من الأصدقاء، على خلفية من جدران وأرضية بلون أخضر خفيف. دخل بلا تردد، ولفحته رائحة زيتية للبطاطس المقلية، ونظر إلى وجه الحارس الذي سيضرب معه صداقة لاحقًا، فسلم عليه، ثم سار فيما يشبه مطبخًا كبيرًا، يتأمل المقاعد الملونة، فمسه يقين بأنه فيما يشبه مدينة ملاهي، وعندما اقترب من طاولة المحاسبة ليطلب ما يتراءى لمشيئته الحرة، تأمل المشهد الذي جعله يقرر العمل هناك؛ الضوء البرتقالي الدافيء لآلات القلي والطبخ بالداخل، والضوء النيون والنهار الصغير الذي يسير فيه العاملون بين ممرات، يشبه غرفة في سفينة فضاء، والذهب المشع مع البطاطس، وقطع البرجر المتراصّة في جيش بني.
طلب «الوجبة السعيدة»، لأنه رأى الجميع يطلبها، ثم جلس إلى طاولة قريبة، ليتأمل النهار الصناعي الضاج بالداخل، وبعد دقائق، استجمع شجاعته، واتجه بتصميم إلى الفتاة التي كانت تقف خلف الكاونتر وتتحدث بلهجة شعبية واضحة، فسألها عن كيفية تقدمه للعمل في المطعم، فأثر عليها بعزيمته، رغم خذلانه الواضح، ونادت مدير نوبة العمل، فجاءه شاب طويل القامة، استمع له بهدوء، ثم أعطاه عنوان الشركة الرئيسي وقال:
– ضع سيرتك الذاتية في فايل بلاستيك لأنهم لا يتلفتون للورق، ومعها دعوة أمك ثم توكل على الله.
بعد شهر من تقديم سيرته الذاتية في مقر الشركة، تنقل بين فروع ماكدونالدز في القاهرة كلهاً بهدف الاختبار والتدريب، وكذب على الأستاذ حسين والسيدة راوية مؤكدًا أنه يتلقى تدريب على إعداد اللحم في مطعم كبير، تم التواصل معه من قبل الإدارة، معلنين رغبتهم في توظيفه مع بعض الاختبارات الإضافية، وفي النهاية عُرض عليه الفرع الأقرب لمحل سكنه؛ فرع عباس العقاد، فرفض بأدب، وقال ما كان يعرفه منذ البداية بالخاطرة الصادقة وحدها:
– فرع الميرغني.
قبل يومه الأول، أخبر الأستاذ حسين بفخر عن التدريبات التي تلقاها في ماكدونالدز لإعداد الشطيرة، ونقل له ما ذكره المدرب، عندما استعرض طريقة عمل الطعام العادية، والتي تخضع للمزاج الشخصي والذوق، ما يجعل المذاق يختلف بين مكان وآخر، وبين الطريقة الآلية المحسوبة لوضع كميات محددة من البصل والخس وقطع اللحم والصوص، حيث قال المدرب:
– يعني نتعلم هنا كيف تصنع السندويتش بدلاً من أن تقوم بطهيه.
كان اللحم يأتي جاهزًا من الخارج، ويكتفي العمال بإعداد الشطيرة بمساعدة الآلات التي رآها عبد الرحمن حسين، ولأنه كان يملك الحق في وجبة يومية، فقد ذكر للأستاذ حسين حقيقة أن اللحم هناك لحم، وليس مبالغة شعرية، فقال الأستاذ حسين بثقة:
– لو كان لحمًا حقيقيًا لرأيتم شكله قبل تحويله إلى أقراص عجة.
على أي حال، لم يشفع عمله الجديد في تحسين صورته أمام الأستاذ حسين، بينما اكتفت السيدة راوية بالدعاء له ونصحته ألا ينجر خلف تناول شطائر يوميًا لأنهم يضعون فيها لحم الحلاليف التي تُربى في حي الزرائب، كان يستمع لها وهو يبتسم بثقة العارفين.
بدا جادًا منذ أول يوم عمل فيه، التزم بالزي الخاص بالعاملين، وأضاف من عنده لمسة شاعرية عن طريق ارتداء عوينات كبيرة وواسعة، كان رجال الثمانينات يرتدونها وبطلت موضتها بعد ذلك، من طراز الأفييتور الشهير، كما قلد الطريقة الخاصة بعمال الأفلام الامريكية من خلال الجري في المكان، وعمل الشطيرة بسرعة، وتطويل الكلمات عندما ينادي على جاهزية طلب بعينه، وهي كلها أشياء أكسبته لقب الموظف المثالي مرتين، وجعلته أحد الأوتاد المباركة في فرع الميرغني، وكان الغريب أنه أحب عمله للدرجة التي جعلته ينام ليلاً لنصف ساعة في منطقة جلوس العمال للتدخين وتناول الكشري أو الفول، ثم يستيقظ ويستكمل عمله بلا ملل، مقارنًا بين نهارات العبد المزدحمة ومساءات ماكدونالدز الصاخبة. بسبب اجتهاده هذا سمح له مدير الفرع بأن يستمع إلى الأغاني من هاتفه الصغير أثناء عمله، تكونت قائمته من أغاني عمرو دياب منذ بدايته وحتى آخر ألبوم. عُرف عنه هوسه ذلك منذ التحاقه بالفرع، حيث خاض أثناء فراغه في حديث لا ينقطع عن محطات عمرو دياب، وبدايته التي اختلفت كثيرًا عن مستواه الآن، حديث يتغنى بآية الاستمرارية، حتى عندما غادر صوت الدلتا، وهي الخطوة التي أكد عبد الرحمن حسين أنها كانت صحيحة وصحية، وذهب إلى روتانا، قال:
– هنا ينتقل من المحلية للعالمية ولا أحد سيوقفه.
وقت الثورة، عاش أفضل حالاته في الفرع الخالي، وكان يستمتع بحديث سريع مع الزبائن القلائل القادمين، ومنهم بعض الشباب المرح، الذين كانوا يأتون يوميًا ليتناقشوا حول ما يجري، فيتأمل حيويتهم في الحديث، بعويناته التي تجعله أشبه بضفدع بشري حكيم، ضل طريقه إلى مملكة البشر، ويعد الشطيرة ببطء يناسب الخلاء، ثم يذهب بالشطائر بنفسه إلى طاولتهم. ذات مرة، سبوا عمرو دياب ضمن بعض المطربين الآخرين الذين غنوا لحسني مبارك، وتحديدًا أغنية «يبقى واحد مننا»، فدافع عنه دافع المؤمنين، وقال بجدية:
– الموسيقار عبد الوهاب غنى للملك ولعبد الناصر ولو استطاع لغنى للشيطان كما غنى لربنا.
فقال أحدهم:
– لم يغنِّ عبد الوهاب لربنا.
اعتادوا أن ينهوا المناقشات بتسوية مريحة لكل الأطراف، وظلت جلساتهم هذه تتكرر حتى هدأت الأحداث وعادت الأمور إلى مجاريها، ونزل ألبوم «بناديك تعالى» بعدها، والذي لمس فيه تغير عمرو دياب واستخدامه لطبقات جديدة من الموسيقى الحديثة، وهناك أطلت الفكرة التي طالما حملها في قلبه، منذ ذلك اليوم البعيد في التسعينات، عندما سمع أغنية «حبيبي»، ففكر في حضور حفلة لعمرو دياب من حفلات الساحل التي يقيمها بانتظام منذ مطلع الألفية، والاقتراب من الوهج البرونزي الذي يشع من النجم الساحلي البعيد، وتحريك ذراعيه على وقع نفس حركة الذراعين الشهيرة. انهمك في الإلحاح المؤدب على نقله للعمل بماكدونالدز فرع الساحل، في الصيفية التالية، على أن يعود للفرع بعد نهاية الموسم، مع ترقيته المحتملة، بعد ثلاثة أعوام من العمل الجاد، فتم له ما أراد. اقترب من الحلم خطوات، حتى استطاع حضور الحفل من بعيد لبعيد، فهاله الجمال الباهر لجميع المدعوين، والثياب البيضاء الموحدة، ثم الظهور المنير لعمرو دياب نفسه وهو يرتدي ثياب كتانية بيضاء متعرقة، و لونه برونزي يقارب الاحمرار، فقال عن المشهد بعدها، وهو يحكي لزملائه في الفرع:
– كأنها الجنة؛ وعمرو دياب هو سيدنا جبريل.
كانت حفلة نحس، لأنها أعادت له حلم الغناء مرة أخرى، فبدأ بالتجريب الحر لصوته مع زملاء العمل، بين نوبتجيات الصباح والمساء، وكان يتأكد كل مرة من رداءة صوته مع تعليقات الآخرين، رغم أنه كان يجده صوتًا حلوًا ومتوسط الجودة، عندما يغني مع نفسه في الحمام أو في زاوية غرفته، وهو ما علق عليه بقوله:
– يكون صوت الانسان أحلى كلما غنى مع نفسه لنفسه.
هوسه المتصاعد هذا، مع حفظه لكل ألوان وأشكال ملابس عمرو دياب منذ بدايته، واحتفاظه بصورة نادرة التقطها فاروق إبراهيم للنجم في التسعينيات، تظهره وهو واحد من الناس، ولكنه يلمع مثل الماس، دفعه إلى القرار الذي سيكلفه الكثير. بعد شهرين من حفلة الساحل، ومع دخول الشتاء، عندما يكون العمل ملونًا بألوان الضوء المخملية في المساء داخل فرع الميرغني، طبع عبد الرحمن حسين ورقة عليها الصورة نفسها لعمرو دياب، والتي قصد بها دفع الناس إلى الشعور بالانتماء إلى المطرب، ووزعها على أهالي حي الوفاء والأمل، من خلال صبية ناحلين يقفون على رؤوس مطاعم الفول والطعمية أو المخابز، وكانت الدعوة التي عرضها على الأستاذ حسين والسيدة راوية بها الصورة إياها، وتحتها دعوة لحضور حفل عمرو دياب في فرع ماكدونالدز بالميرغني، مع تأمين «وجبة سعيدة» مجانية مع كل شطيرة «الكبير اللذيذ» أو «البيج تيستي»، وكان ذكاءه متمثلاً في أنه وضع عرضًا موجودًا بالفعل في كل الفروع، ولكنه دبجه مع الدعوة لاثارة اهتمام أهل الحي، وكان أغلبهم لا يعرف بعمله في ماكدونالدز، وقد علقت السيدة راوية على هذه الدعوة بسؤالها:
– وحتى أبوك وأمك يدفعوا في هذا الخراء المضروب؟
فقال لها:
– لا، لي الحق في العزومة.
لم يوافق الأستاذ حسين على الحضور، رغم محاولات عبد الرحمن اقناعه حتى يعرض موهبته أمامه لأول مرة، في أكثر مكان يحبه في هذا العالم، ولكن السيدة راوية قررت الحضور حتى تتذوق الطعام المجاني، وترتاح قليلاً من وجه الأستاذ حسين الجرانيتي الشائخ وهو يمارس عليها سلطة المعاشات التي لا تنتهي سوى بالموت، ويعاتبها على عماه الذي يزداد باعتباره نتيجة طبيعة للاهتمام المهووس بالأرقام والمال.
في الليلة الموعودة، حضرت السيدة راوية وجلست قرب كاونتر المحاسبة، وكان عبد الرحمن حسين يشير لها بفخر وهو بين العاملين ويقول:
– هذه السيدة الصابرة الجالسة هناك: أمي. معلمة على درجة معلم خبير، يعني مديرة.
وكان يمعن في حكي قصص خيالية عن مكانتها المرتفعة ومكانة جدته المرحومة زهرة، ومعرفة سوزان مبارك بها، ويقول:
– كانت تعلق الصورة عندها في الصالة، وهي تصافح سوزان، ولكنها فُقدت عندما بيعت الشقة بعد وفاتها وخلاف خالاتي عليها.
أثناء ذلك، حضر أغلب أفراد الحي أيضًا، مع بعض الذين وقعت الدعوة في أيديهم بالصدفة، حيث سُربت كخبر صغير بجريدة نشأت بعد الثورة، واتخذت من أهم معالمها اسمًا لها، يؤكد أن عمرو دياب قرر أن يكون شعبويًا، ويغني للناس في فرع مطعم هو الأقرب لهم، لأنه يقدم وجبة مناسبة للطبقة المتوسطة التي هي ملح الأرض وسبب نجاح الثورة العظيمة، ولذلك فوجيء الفرع بضجة قيامية قرب السابعة مساءً، سأل معها المدير قلقًا إذا كانت إرهاصات ثورة جديدة، ثم فوجيء بدخول بعض المذيعين، وهم يسألون عن جدية حضور عمرو دياب إلى المطعم، فقال مدير الفرع بجدية:
– لو كان ذلك بعلم الادارة فالادارة وحدها المسؤولة.
عمَّت حالة ارتباك الجميع، أصيب معها المطعم بشلل مؤقت، مع كثرة الزبائن، حيث طُلب أكثر من خمسمائة وجبة «الكبير اللذيذ»، وألف «وجبة سعيدة»، وثلاثمائة «برجر بالجبن»، ليقع مدير الفرع في حيرة لأن الاشاعة قد أكسبت الفرع زخمًا سيفوق به فرع وسط البلد الذي لا يهمد أبدًا. انكشفت الحقيقة عندما خرج عبد الرحمن حسين من المطبخ، وهو لا يزال يرتدي زي العاملين في المطعم، وقد أمسك بميكرفون صغير، رفع صوته وهو يقول للوقوف:
– النظام لو سمحتم.
تخيل المدير الكهل دائم الشك والخائف فطريًا من ضياع لقمة عيشه؛ أنه تطوع خاص من عبد الرحمن حسين المُجد لتنظيم الأمور داخل الفرع، ولكنه فوجيء، كما فوجئت السيدة راوية وباقي الوقوف، وبعض الصحفيين والمذيعين الذين لم يغادروا المكان بعد، توثيقًا للشائعة، بالتقدمة التي تبرع بها عبدالرحمن حسين؛ ذكر حبه لعمرو دياب، واهتمامه الشديد بمسيرته التي ساعدته على أن يكون عاملاً مخلصًا مستمرًا في مكان بلا طموح، سوى إعداد الشطائر، بالنسبة للكثيرين، ولكنه رأى فيه سلمًا حقيقيًا في بناية قوامها سعادة الناس ولذة الطعام، وبعد ذلك، شكر أمه التي اهتمت وحضرت، والمهندس نزار المشغول بدراسته وأباه الأستاذ حسين رغم رفضه الحضور، ثم بدأ يغني أغنية «معقول هقولك روح»، بصوت تحسن كثيرًا بسبب التدرب المستمر في أماكن الظل، حتى بدأ بعض الصبية يصفقون تشجيعًا، ثم صفروا، ثم غنى «يا ليالي العمر» وهو يهز ذراعيه، وسط ضحك الجميع ثم حماسهم، و«خلصت فيك كل الكلام»، مع بعض النشاز في محاولاته بالمقاطع التي يغلب عليها العُرَب، و«ليلي نهاري»، و«بس أنت تغنى واحنا معاك» من فيلم «آيس كريم في جليم»، و«أصلها بتفرق»، و«قصاد عيني» و«تقدر تتكلم عن روحك» و«لو كان يرضيك»، و«يلوموني»، و«ملك إيديك»، حتى أنهى الوصلة بأغنية «راجعين»، وتخيل معها المطعم وقد فقد الألوان إلا ألوان ثياب العاملين التي يرتديها، وعلامة الإم الشهيرة.
انتهت الليلة على خير، وامتلأ الشارع بدوائر من المارة، حيا عبد الرحمن حسين الناس بتواضع واضح، وشكر إدارة فرع الميرغني على تحملها له، وساعد على إخراج الزبائن بهدوء. عندما حلت الحادية عشرة مساءً، كان الفرع قد خلا إلا من حركة زبائن عادية، مع وجود أطنان من الورق والقمامة وعلب ماكدونالدز في الخارج، صفق العاملين له، وابتسم المدير في البداية، ثم طلبه في حديث جانبي. كان عبد الرحمن حسين محلقًا من الفرحة حتى أنه لم يركز في الكلمات التي قالها المدير مع محاولاته المرهقة للتأدب، وهو يصف غضب الإدارة مما جرى، والفضيحة التي انتشرت في الصحف وبعض صفحات الفيس بوك، وأنه منع الإدارة بالضالِّين من إخراجه من الفرع عن طريق الشرطة، كان يتحدث بقلق أب، وكان عبد الرحمن حسين لا يزال مبتسمًا بحماسة، عندما ختم حديثه بقوله:
– أعتذر لك يا عُبد، أنت شاب مجتهد، ولكن الإدارة أجمعت على إقالتك رغم محاولاتي، كما أنهم نقلوني إلى فرع الطريق الصحراوي على أول طريق الكريمات، لأقدم البرجر إلى الذئاب.
رغم ذلك، لم يعرف أحد قط خبر إقالة عبد الرحمن حسين هذا، ولا المشاعر المختلطة الملونة التي شعر بها وهو يسمع خبر الإقالة، وذكرته بجمال الحزن الذي مسه صغيرًا مع برودة أغنية «حبيبي»، فأدرك منها أنها بشَّرت بسوء حظه وختمته بطابع الطفولة المهلكة الأبدي، ولا الأكورديون في الأغنية الذي كسى الفرع بكساء صالة شقتهم وغطى بها على صوت المدير لينظر إليه مبتسمًا بخرق وقد احمر وجهه بسعادة لاهبة. حمل الخبر الذي انتشر عناوين تؤكد أن عمرو دياب غنى في فرع ماكدونالدز الميرغني، وأنه أسعد الجميع بصوت جميل، وكان الحفل مجانيًا، وهو ما لم يصدقه عشَّاق الفنان وحاضري حفلاته بانتظام منذ أيام «ليلي نهاري، حيث علقت فتاة من باكورة من أطلقوا عليه لقب «الهضبة» في ساعة حظ، أن قريبًا لها يعمل في استقبال فندق كبير بالغردقة، أكد أن عمرو دياب لا يأكل سوى السمك، ولا يشرب المنبهات ولا المكيفات، صحته حديد، وملتزم بعادات سليمة مثل قطار بشري، وأنه، بالتأكيد، لا يأكل ماكدونالدز، كما رددت تلك الفتاة بكل إيمان، لأنها في النهاية وجبات ضمن القائمة السوداء للفاست فود.