مقتطف من رواية طشَّاري لإنعام كجه جي

5 فبراير، 2023

 

من المقرر أن تلقي إنعام كجه جي محاضرتين في مهرجان طيران الإمارات للآداب في فبراير 2023 في دبي. سيكون أول ظهور لها إلى جانب ياسمينة خضرا، حيث يتناول المؤلفان السياسة والاشتياق. سيناقشان حالة الرواية السياسية في العالم العربي كما هي مكتوبة في الشتات، وما يعنيه أن يكون المرء عربيًا اليوم. في روايتها، طشاري، المنشور جزء منها أدناه، تتلاعب كجه جي بالسؤال المركزي عن ما إذا كان من الأفضل للشخص أن يبقى داخل وطنه وبين أسرته وكل ما هو مألوف، حتى لو كان ذلك يعني معاناة مشقة الحرب والخوف المستمر من الموت، أم أن الأفضل للمرء الانتقال إلى مكان آخر، إلى الأمان والاستقرار، على الرغم من الشعور المستمر بالاغتراب والغربة؟

في المحاضرة الثانية ستلتقي كجه جي مع طارق إمام، حيث سيكشف الاثنان أسرار إثارة الخوف في الكتابات الخيالية، من استكشاف كجه جي للمقابر الإلكترونية، في رواية طشاري، وحتى أماكن بُنيت من جدران لا نهاية لها، في رواية طارق إمام مدينة الحوائط اللانهائية.

طشاري كلمة عراقية تصف الرصاصة المنطلقة من بندقية صيد، تُفرِّق الكائنات في جميع الاتجاهات. تعبر كلمة طشاري عن تشتت العراقيين كشعب في جميع أنحاء العالم وانفصالهم عن الوطن والأحباء الذين يلاحقونهم. في الرواية، تُستخدم الكلمة للإشارة إلى مسيحيي العراق على وجه الخصوص الذين تفرقوا في جميع أنحاء العالم نتيجة لطائفية البلاد.

إنها رواية ثاقبة جاءت في الوقت المناسب، تتحدث عن النزوح والخسارة والشعر والحرب والهجرة، كتبتها كاتبة عربية رائدة. وصفت كتابات كجه جي التي صدرت العام الماضي باللغة الإنجليزية بأنها: "انعكاس عفوي لأقرب الروابط العائلية التي تستحضر القوة الهادئة والجمال، التي ينقلها دفء ترجمة إنعام جابر".

تتبع الرواية مسيرة وردية إسكندر، طبيبة تعمل في الريف العراقي في خمسينيات القرن العشرين. من خلال إجراء عمليات الولادة وتلبية الاحتياجات الصحية العديدة لمريضاتها الريفيات، تكافح وردية من أجل تحسين الرعاية المقدمة لهن. ولكن مع مرور السنين، تستمر الاضطرابات التي تواجهها البلاد في التفاقم. تُضطر عائلتها إلى المغادرة، مثل عائلات أخرى عديدة. أخيرًا تهاجر وردية إلى فرنسا، حيث تساعدها ابنة أختها - وهي شاعرة - على الاستقرار، والتفكير في عائلتها المشتتة، وأن تحكي قصتها.

تقوي وردية صلتها بابن ابنة أختها إسكندر، الذي نشأ في فرنسا بعيدًا عن عائلته الممتدة ولغته وثقافته. عندما يتعرف على عمته الكبرى، الطبيبة، يعرف المزيد عن كوارث شعبه وتراثه الاستثنائي. لقد ألهمه ذلك بناء مقبرة افتراضية على الإنترنت، وهي مكان استراحة رقمي حيث يمكن لم شمل العائلات مرة أخرى.

رنا عصفور

 

طشاري من إصدارات Interlink.

 


 

مقتطف من طشاري، الفصل 25، بقلم إنعام كجه جي.

 

لولا تلك المجنونة لما تغير إيقاع حياتها.

لولا الكوابيس لما أغوتها باريس ولا حواضر العالم كله. حتى شوقها للولد والبنتين أصبح واقع حال. تداويه بدمعة خرساء وبحبتين من المنوم المغشوش المستورد من الأردن. ظلت تأمل أن يجتمع شملهم في مكان واحد، بلد واحد أو حتى قارة واحدة، ودحضت كوابيس الليل آمال النهار. وهي قوية وحكيمة ومجربة، لكنها أضعف من أن تضبط عقلها اللاواعي. لا يمكنها أن تبرمج الأحلام والمنامات.

تطفئ وردية التلفزيون وتغمض عينيها لتنام. كانت قد نقلت مبيتها من الطابق العلوي إلى المكتبة المطلة على الحديقة. لا البيت مكتظ ولا أوجاع الركبتين تسمح بالصعود والنزول.

والسرير الكبير في غرفة النوم يذكرها بجرجس. فيه نام وفيه لفظ النفس الأخير. أفلت يدها وراح. ولما شعرت بأنه ذاهب نزعت عن أنفه كمامة الأكسجين وسقته حفنة من ماء بارد. لن يموت ناشف الريق بعد ستة أشهر من العطش.

في الغرفة الشرقية، قرب النخلة الراسخة بين زيتونتين، تحس بالأمان وبكثير من الدعة. وهي لا تخاف اللصوص رغم أن العصابات تسرح في طول بغداد وعرضها. باعت السجاد العجمي وملاعق الفضة وثريات الكريستال ولم يعد لها سوى خاتم زواجها. السماعة الطبية وأكوام الأدوية المكدسة في الجوارير. كتب زوجها ومجلدات مجلاته مصفوفة فوق أرفف المكتبة. تتسلى بمسح الغبار عنها كل يوم. لم ترد التفريط فيها لأنها كانت عزيزة عليه. يسميها كنزه. ولأن لا أحد بات يريدها. حتى اللصوص يعافونها. توافه لا تغري الحرامية. إنهم قادرون على أن يمسحوا المنازل بأجهزة كشف المعادن ويصنفوها حسب الأولوية. بيت يبيض ذهبًا ويستحق الزيارة وآخر يفقس تنكًا ولا يستاهل التشريف.

 

محمود العبيدي، "5 جيجابايت من ذاكرتي"، وسائط مختلطة على قماش، 190×190 سم، 2011 (بإذن من الفنان).

 

تغمض عينيها وتنام فتبدأ قناة الكوابيس بثها، على الهواء، في رأسها. وقد جربت التفكير بالعذراء مريم، قبل النوم، عسى أن تحضر لها في المنام. هذا ما كانت تفعله المرحومة جولي كل ليلة. وكانت مريم تقف وراء الستار، جاهزة للدخول إلى مسرح الحلم.

وجربت، أيضًا، أن تتفرج على صور أحفادها الثلاثة البعيدين في كندا، لعلهم يزوروها وهي غافية. لكن العذراء سادرة عنها والأحبة مشغولون بحياتهم وليس من يهتدي إليها سوى ذلك الكابوس اللجوج الرهيب. تقرر أن تقفل باب عقلها في وجهه لكنه يمتلك المفتاح الذي يدور في كل الأقفال.

"تقدرون وتضحك الأقدار".

تستعين بالعبارة التي كان يرددها سليمان وهو يواجه تقلبات دنياه وأحوال أبنائه وبناته. لقد حفظوا العبارة عن ظهر قلب وآمنوا بها. لكن صغراهن أرادت أن تتمرد على ما كان مقررًا ومكتوبًا، وطلبت منه في لحظة طيش طلبًا جريئًا.
- بابا، هل تأخذني إلى لندن في حال حصلت على معدل ثمانين في الثانوية؟

- هل تعرفين أن جدك اسكندر عاش سبعًا وستين سنة دون أن يمد قدمه خارج الموصل؟

- إحنا وين وجدي وين؟

- كافي إستهتار.

صرخ صرخته فازدردت البنت لسانها ولم تكرر ما يعتبره الأب استهتارًا. يتلفظ بالكلمة على مهل بعد أن يفرزها إلى ثلاث مقاطع. إس... تِه... تار. ترسخ المفردة في الذهن لا تبارحه. لعله كان يشك في أن تكون لندن مسجلة في دفتر أقدار ابنته الصغرى.

لعله كان يعاند الغيب. غيب أعشى عصي على القراءة، جعل البنت تتزوج، بعد سنوات، شابًا موفدًا للدراسة في لندن، ترافقه وتكمل دراستها هناك وتعود لتعمل في الحكومة وتفصل من عملها لأنها غير حزبية وتهاجر إلى ما هو أبعد.

طشَّاري. هذا ما تكتبه شقيقتها الحبابة. تنظم شعرًا عن الأعزاء الذين تفرقوا وما عاد يمكن لشملهم أن يجتمع إلا في أطلس الخرائط. شاعرة رومانسية تختلف عنها. وهي لا تريد أن تنزلق وراءها إلى فخ الحنين. إنه مرض نفسي يهاجم أهل الهشاشة ويصيب المهزومين.

لا تميل وردية إلى تذكارات ما يسمونه زمن الخير. الخير في ما اختاره الله. هكذا لقنوها منذ يفاعتها فسارت على الدرب لا تتلفت ولا تحتج. وقد كان الغيب ماكرًا معها ودفع بها إلى أقصى التخوم. اعتادت ألاعيبه وما عادت تتعجب من أي طارئ يقرع عليها باب شيخوختها.

 


 

أخذها الغيب خارج حدود الموصل وسمح لها بأن تدرس في بغداد. ألبسها الصدرية والقناع الأبيض وانتزعها من حضن العائلة المحافظة. زرعها في الديوانية فرأت دنيا أخرى واختلطت اللهجات على لسانها. سمح لها الغيب المحتال بأن تطوف مع عريسها في مدن أوروبا ومنحها فرصة نادرة لم تحصل على ما يشبهها.

كانت إجازتها الوحيدة هي تلك التي ترقد فيها لتضع مواليدها ثم تنهض قبل أن يجف دمها. تلد في المستشفى نفسه الذي تعمل في كل يوم. مبنى يختصر دوامها واستراحاتها وأوجاعها وحبها. تألفه وتتنفس فيه ملء رئتيها، تستنشق عبق العباءات الكثيرة الواقفة والجالسة أمامها والأعناق الممدودة من كل صوب.

لا تتضايق من روائح الأجساد والأفواه والآباط. ترفع الأثداء والبطون المترهلة وتمسح طيات الجلد بالقطن والمطهرات. كانت مثل الشرطي الذي يذهب إلى المخفر، حتى في يوم عطلته، لأنه المكان الوحيد الذي يشعر بقيمته فيه. ولولا تلك الشابة المفخخة التي تزورها في الكوابيس لما تركت وردية العمل في العيادة حتى يأتيها عزرائيل.

سيأتي ويفاجئها منكبة على سرير الفحص، ترتدي الكفوف المعقمة وتعبث بالفروج. أو لعل الحياء كان يمنعه فيتأخر. يفسح لها في الوقت لكي تنتقل إلى بغداد وتتقاعد من الوظيفة وتفتح عيادة أخرى. تعمل ولا تتذكر سنوات عمرها.

 


 

تراها في المنام داخلة إلى العيادة وهي ترتعد. تلم عباءتها على جسمها وتدفع المريضات لكي تدخل قبلهن إلى غرفة الفحص. تردعها الفراشة وتطلب منها الجلوس في غرفة الانتظار حتى يأتي دورها. تنتفض بعصبية:

- ضموني عندكم... راح أموت.

تفكر وردية أن الفتاة يمكن أن تكون حاملًا بدون زواج. تستعد لكي تصرفها من العيادة. لا تنرف المريضة بل تزداد رعشتها وتقلب عينيها وتوشك أن تتهاوى على الأرض. تتلقاها الفراشة وتساعدها على بلوغ سرير الفحص. وجهها شاحب وحالتها غريبة.

تضع الطبيبة السماعة على صدرها فتصطدم بطبقة قاسية. تحاول أن تزيح ثوب المريضة لكنها تنتفض وتدفعها. تفتح جفنيها وتقبض على ذراعي الطبيبة. دموعها تجري وشفتاها مزرقتان:

- ما أريد أموت... ما أريد أموتكم وأموت.

ترفع فستانها فترى وردية صدرها محزمًا بحشوات بيضاء وبنية وخضراء. لفائف مرصوصة بشريط لاصق مثل نطاق الذخيرة الذي يرتديه الجنود. تتجمد فلا تستطيع الابتعاد. ترى الذراعين تعاودان التشبث بها وكأن صاحبتهما تطالبهما بأن تقيدهما فلا تفعلا ما عليهما أن تفعلا. تتقابل الأعين الأربع ويتشابك الرعب فيها. فزع الحيوان أمام بندقية الصياد. تحفز الصياد في مواجهة الطريدة.

تهرب الفراشة إلى الخارج وهي تصرخ:

- حزام. مفخخة. يبووو.

ينتقل المس الكهربائي إلى النساء في غرفة الانتظار. يتركن عبائتهن ونعالهن وأكياسهن وعربات أطفالهن ويتدافعن للخروج إلى الشارع.

لا يبقى في العيادة سواهما. تفك وردية نفسها من القبضتين المتشنجتين وترجع إلى الخلف. تتعثر بالكرسي وتتهاوى أمام المكتب الحديدي. تحاول النهوض فلا تسعفها ركبتاها. تلف رأسها بذراعيها وتنتظر أن تسمع الدوي.

ثوان تمر دهورًا. تصلي أن ينتهي الأمر بسرعة وتلمع في ما تبقى من وعيها صورة جرجس على فراش موته. تريد أن تحتمي به وتعطيه يدها ليسحبها إليه لكن ذراعها لا تستجيب. تغيم الدنيا فتتصور أن الكهرباء قد انقطعت. يدور رأسها فتسلم نفسها للفراغ الخفيف. وقبل أن تغيب تسمع اصطكاك أسنان الفتاة.

- ممما أريددد أممموت.

 


 

- سلامات دكتورة. كل شيء انتهى.

تتعرف على الصوت الأجش لصاحب الصيدلية المجاورة. تفتح عينيها وتحاول أن تتحرك. تجد نفسها ممددة على الأرض، بين أرفف الأدوية، مغطاة بعباءة رجالية ورائحة كولونيا تفوح قرب أنفها. نفير سيارات الشرطة يصدع رأسها. تلمح وجوهًا كثيرة منكبة فوقها، تعرف أصحابها أو لا تعرفهم. عشرات الأفواه التي تحمدل والأكف التي تطش الماء. تتبلل ثيابها. في رقادها أم في الكابوس؟


ترى ضابطين يبعدان الحشد عنها. ينهران الموجودين فيهدأ المكان. يبركان بجوارها على الأرض.

- هل تعرفينها... هل هي من مريضاتك؟

تحتاج لأن يأتي أحد لها بكرسي ويساعدها على النهوض. تخجل من وضعيتها على الأرضية الباردة. تتلمس وجهها وتحاول أن تتفقد حقيبتها. تفكر بياسمين وتخاف عليها من وقع الخبر.

- ما أعرفها... ما شايفتها؟ شصار؟

- جبنت وما فجرت حزامها. ذبيناها جوة. لا تخافي.

يمر الموت سهلًا بمحاذاتها. يمضي دون ان يطلبها لمرافقته. يترك لها صورة تلك الحبلى بحزام ناسف وشريطًا مسجلًا مدسوسًا في أذنيها لصكيك أسنانها. لا يمكنها أن تمحو من عقلها مشهد الفتاة المذعورة ذات العينين المقلوبتين، تمد أصابع متخشبة لتتشبث بحلاوة الروح، تتمرد على موت مبرمج.

 

تم نشر هذا المقتطف بترتيب خاص مع Interlink Publishing.

وُلدت إنعام كجه جي في بغداد في العام 1952، درست الصحافة في جامعة بغداد، وعملت في الصحافة والإذاعة العراقية قبل أن تنتقل إلى باريس لإكمال الدراسة والحصول على درجة الدكتوراه في جامعة السوربون. هي حاليًا مراسلة باريس لصحيفة الشرق الأوسط ومجلة كل الأسرة في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة. نشرت كجه جي سيرة بعنوان "لورنا" عن الصحفية البريطانية لورنا هيلز، التي كانت متزوجة من النحات العراقي الرائد الشهير جواد سليم، وكتابًا باللغة الفرنسية عن أدب المرأة العراقية الذي أنتج في زمن الحرب. أنتجت وأخرجت فيلمًا وثائقيًا عن نزيهة الدليمي، أول امرأة تصبح وزيرة في دولة عربية في العام 1959. نشرت روايتها الأولى سواقي القلوب في العام 2005. وصلت روايتها الثانية الحفيدة الأمريكية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في العام 2009 وتُرجمت إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية. كما وصلت روايتها طشاري إلى القائمة القصيرة للجائزة في العام 2014 وتُرجمت إلى اللغة الفرنسية.

بغدادالوطنالعراقالأدب العراقيالأردنالموصلباريساللاجئون

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *